اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرۡ} (4)

قوله : { وَثَيَابَكَ فَطَهِّرْ } .

قيل : المراد الثياب الملبوسة ، فعلى الأول يكون المعنى : وعملك فأصلح ، قاله مجاهد وابن زيد والسديُّ ، وروى منصور عن أبي رزين ، قال : يقول : وعملك فأصلح ، وإذا كان الرجل خبيث العمل ، قالوا : إن فلاناً خبيث الثيابِ ، وإذ كان الرجل حسن العمل ، قالوا : إنَّ فلاناً طاهر الثياب ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «يَحْشرُ المَرءُ فِي ثَوبَيْهِ الَّذي مَاتَ فِيْهِمَا »{[58451]} ، يعني : عمله الصالح والطالح ، ذكره الماوردي .

ومن قال المراد به القلب ، قلبك فطهر ، قاله ابن عباس وسعيد بن جبير رضي الله عنهما ؛ ومنه قول امرئ القيس : [ الطويل ]

4946 - . . . *** فَسُلِّي ثِيَابِي مِن ثِيابكِ تَنْسُلِ{[58452]}

أي : قلبي من قلبك .

قال الماورديُّ : ولهم في تأويل الآية وجهان :

أحدهما : المعنى : وقلبك فطهر من الإثم والمعاصي قاله ابن عباس وقتادة{[58453]} .

الثاني : وقلبك فطهر من القذر ، أي : لا تقذر فتكون دنس الثياب وهو ما يروى عن ابن عباس أيضاً{[58454]} ، واستشهدوا بقوله غيلان بن سلمة الثقفي : [ الطويل ]

4947 - فَإنِّي بِحَمْدِ اللَّهِ لا ثَوْبَ غَادِرٍ*** لَبِسْتُ وَلا مِنْ غَدْرةٍ أتقنَّعُ{[58455]}

ومن قال : المراد به النفس ، قال : معناه ونفسك فطهر ، أي : من الذنوب ، والعرب تكني عن النفس بالثياب . قاله ابن عباس - رضي الله عنه - ؛ ومنه قول عنترة : [ الكامل ]

4948 - فَشَكَكْتُ بالرُّمْحِ الطَّويلِ ثِيابَهُ*** لَيْسَ الكرِيمُ على القَنَا بِمُحَرَّمِ{[58456]}

وقول امرئ القيس المتقدم . ومن قال : بأنه الجسم قال : المعنى وجسمك فطهر من المعاصي الظاهرة ، ومنه قول ليلى تصف إبلاً : [ الطويل ]

4949 - رَموْهَا بأثْوابٍ خِفافٍ فلا تَرَى*** لَهَا شَبَهاً إلاَّ النَّعامَ المُنفَّرَا{[58457]}

أي : ركبوها فرموها بأنفسهم .

ومن قال : المراد به الأهل ، قال : معناه : وأهلك طهرهم من الخطايا بالموعظة والتأديب ، والعرب تسمي الأهل ثوباً وإزاراً ولباساً ، قال تعالى : { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ }[ البقرة : 187 ] .

قال الماورديُّ : ولهم في تأويل الآية وجهان :

الأول : معناه : ونساءك فطهر باختيار المؤمنات العفائف .

الثاني : الاستمتاع بهن في القبل دون الدبر في الطهر إلا في الحيض حكاه ابن بحر .

قال ابن الخطيب{[58458]} : «وحمل الآية على هذا التأويل يعسر لأنه على هذا الوجه لا يحسن اتصال الآية بما قبلها » .

ومن قال المراد به الخلق قال معناه : وخلقك فحسِّنْ قاله الحسن والقرظي ؛ لأن خلق الإنسان مشتمل على أحواله اشتمال ثيابه على نفسه ؛ قال الشاعر : [ الطويل ]

4950 - فَلاَ أبَ وابْناً مِثْلَ مَرْوانَ وابْنِهِ*** إذَا هُوَ بالمَجْدِ ارتَدَى وتَأزَّرَا{[58459]}

والسبب في حسن هذه الكناية وجهان :

الأول : أن الثوب كالشيء الملازم للإنسان فلهذا جعلوا الأثواب كناية عن الإنسان ، فيقال : المجد في ثوبه والعفة في إزاره .

الثاني : أنه من طهر باطنه غالباً طهر ظاهره ، ومن قال : المراد به الدين فمعناه : ودينك فطهر .

جاء في الصحيح : أنه صلى الله عليه وسلم قال : «ورأيتُ النَّاس وعَلَيْهِمْ ثِيابٌ مِنْهَا ما يَبلغُ الثُّدِيَّ ، ومِنْهَا دونَ ذلِكَ ، ورَأيْتُ عُمر بن الخطَّاب ، وعليْهِ إزارٌ يُجُرُّهُ ، قالوا : يا رسُولَ اللَّهِ فَمَا أوَّلتَ ذلِكَ ؟ قال : الدِّينُ »{[58460]} .

وروي عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - في قوله تعالى : { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } قال : معناه لا تلبس ثيابك على عذرة{[58461]} ؛ قال ابن أبي كبشة : [ الطويل ]

4951 - ثِيَابُ بَنِي عَوْفٍ طَهارَى نَقيَّةٌ*** وأوْجُهُهمْ عِنْدَ المُشاهدِ غُرَّانُ{[58462]}

يعني بطهارة ثيابهم : سلامتهم عن الدناءات ويعني بعزة وجوههم : تنزيههم عن المحرمات ، أو جمالهم في الخلقة ، أو كليهما . قاله ابن العربي .

وقال سفيانُ بن عيينة : لا تلبس ثيابك على كذب ولا جور ولا غدر ولا إثم ، قاله عكرمة .

ومن قال : إن المراد به الثياب الملبوسة ، فلهم أربعة أوجهٍ :

الأول : وثيابك فأنق .

الثاني : وثيابك فشمِّر ، أي قصِّر ، فإن تقصير الثياب أبعد من النجاسة فإذا جُرَّت على الأرض لم يؤمن أن يصيبها نجاسة ، قاله الزجاج وطاووس .

الثالث : وثيابك فطهر من النجاسة بالماء ، قاله محمد بن سيرين وابن زيد والفقهاء .

الرابع : لا تلبس ثيابك إلا من كسبِ الحلال ليكون مطهرة من الحرام .

وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - لا يكون ثيابك التي تلبس من ملبس غير طاهر .

قال ابن العربي : وليس بممتنع أن تحمل الآية على عمومها ، من أن المراد بها الحقيقة ، والمجاز ، وإذا حملناها على الثياب الطاهرةِ المعلومة ، فهي تتناول معنيين :

أحدهما : تقصير الأذيال ، فإنها إذا أرسلت تدنست ، ولهذا قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لغلام من الأنصار ، وقد رأى ذيله مسترخياً : ارفع إزارك ، فإنه أتْقَى ، وأبْقَى ، وأنقى .

وقال صلى الله عليه وسلم : «إزْرَةُ المُؤمِن إلى أنْصَافِ سَاقيْهِ ، لا جُناحَ عليْهِ فِيْمَا بَينهُ وبيْنَ الكعْبَيْنِ ومَا كَانَ أسْفل مِنْ ذلِكَ ففِي النَّارِ »{[58463]} فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الغاية في لباس الإزار الكعب ، وتوعد ما تحته بالنار ، فما بال رجال يرسلون أيذالهم ، ويطيلون ثيابهم ، ثم يتكلفون رفعها بأيديهم وهذه حالة الكبر ، وقال صلى الله عليه وسلم : " لا يَنْظرُ اللَّهُ تعالى إلى مَنْ جَرَّ ثَوبَهُ خَيلاء " ، وفي رواية : " منْ جرَّ إزارهُ خُيَلاء لَمْ ينْظُرِ اللَّهُ إليْهِ يَوْمَ القِيامةِ " {[58464]} قال أبو بكر - رضي الله عنه - : يا رسول الله إني أجد شِقّ إزاري يسترخي إلا أني أتعاهد ذلك منه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لَسْتَ ممَّنْ يَصْنعهُ خيلاء " .

والمعنى الثاني : غسلها بالماء من النجاسة ، وهو الظاهر .

قال المهدوي : واستدل به بعض العلماء على وجوب طهارة الثوب ، وليس ذلك بفرض عند مالك وأهل المدينة ، وكذلك طهارة البدن ، للإجماع على جواز الصلاة بالاستجمار غير غسل .

قال ابن الخطيب{[58465]} : إذا حملنا لفظ التطهير على حقيقته ، فنقول : المراد منه أنه صلى الله عليه وسلم أمر بتطهير ثيابه من الأنجاس والأقذار ، وعلى هذا التقدير ففي الآية ثلاثة احتمالاتٍ :

الأول : قال الشافعي - رضي الله عنه - : المقصود من الآية الإعلام بأن الصلاة لا تجوز إلا في ثياب طاهرة من الأنجاس .

وثانيها : قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : كان المشركون لا يصونون ثيابهم عن النجاسات ، فأمره الله تعالى بأن يصون ثيابه عن النجاسات .

وثالثها : روي أنهم ألقوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم سَلَى شاةٍ ، فشق عليه فرجع إلى بيته حَزيناً وتدثر في ثيابه ، فقال : { يا أيها المدثر قُمْ فَأَنذِرْ } ولا تمنعك تلك السفاهة عن الإنذار { وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } على أن لا ينتقم منهم { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } عن تلك النجاسات والقاذورات .


[58451]:ذكره بهذا اللفظ الماوردي في "تفسيره" (6/136) ولم أجده لكن له شاهد من حديث أبي سعيد الخدري أخرجه أبو داود (3114) وعبد الرزاق (623) والحاكم (1/340) وصححه والبيهقي (3/384).
[58452]:عجز بيت وصدره: فإن يك قد ساءتك مني خليقة *** ... ينظر ديوانه ص 13، وزاد المسير 8/40، والقرطبي 19/42.
[58453]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/298-299) عن ابن عباس وقتادة وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/451) عن مجاهد وعزاه إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر.
[58454]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/298) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/451) وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في "الوقف والابتداء" وابن مردويه من طريق عكرمة عن ابن عباس.
[58455]:يروى لا ثوب فاجر مكان لا ثوب غادر. ويروى ولا من خزية أتقنع، مكان ولا من غدرة أتقنع. ينظر: اللسان (ثوب)، ومجمع البيان 10/580، وزاد المسير 8/400، والقرطبي 19/42.
[58456]:ويروى بالرمح الأصم مكان بالرمح الطويل. ينظر ديوانه ص 26، وشرح المعلقات السبع للزوزني ص 148، والقرطبي 19/42.
[58457]:ينظر: زاد المسير 8/400، والقرطبي 19/43، والفائق 1/28، والمعاني الكبير 1/486، واللسان (ثوب).
[58458]:ينظر الفخر الرازي 30/170.
[58459]:نسب البيت إلى الربيع بن ضبع الفزاري، وإلى الفرزدق، وإلى رجل من عبد مناة ينظر الكتاب 2/285، وشرح التصريح 1/243، وشرح شواهد الإيضاح ص207، والمقاصد النحوية 2/655، وخزانة الأدب 4/67،68 وأمالي ابن الحاجب 1/419،/ 2/593، 847، والدرر 6/172، وأوضح المسالك 2/22، وجواهر الأدب ص 241، وشرح الأشموني 1/153، وشرح قطر الندى ص 168، وشرح المفصل 2/101، 110، واللامات ص 105، واللمع ص 130، والمقتضب 4/372.
[58460]:أخرجه البخاري (1/93) كتاب الإيمان: باب تفاضل أهل الإيمان (23) ومسلم (4/1895) كتاب الفضائل: باب فضل عمر حديث (15/2390) والترمذي (4/467) كتاب الرؤيا: باب في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم رقم (2285) والنسائي (8/113-114) كتاب الإيمان وشرائعه، باب: زيادة الإيمان رقم (5011) من حديث أبي سعيد الخدري.
[58461]:تقدم.
[58462]:البيت ليس لابن أبي كبشة، وإنما هو لامرئ القيس من قصيدة يمدح بها عويمر بن شجنة بن عطارد من بني تميم. ينظر ديوانه (83)، ورواية الديوان "غمان" مكان "غران". ويروى الشطر الثاني في غير الديوان: وأوجههم بيض المسافر غران. ينظر القرطبي 19/43، والبحر المحيط 8/363.
[58463]:أخرجه مالك في الموطأ 2/914-915، في كتاب اللباس: باب ما جاء في إسبال الرجل ثوبه، وأحمد في المسند 3/97، وأبو داود 4/353 في اللباس: باب في قدر موضع الإزار 4093، وذكره المنذري في مختصر سنن أبي داود 6/55-56، (3935)، وعزاه للنسائي وأخرجه ابن ماجه 2/1183، في اللباس: باب طول القميص (3576).
[58464]:أخرجه البخاري 10/266 في اللباس: باب من جر إزاره من غير خيلاء (5784)، وفيه من الفقه أنه لا حرج على من انجر إزاره بغير قصده مطلقا؛ وأما ما أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان يكره جر الإزار على كل حال. فقال ابن بطال: هو من تشديداته وإلا فقد روى هو حديث الباب فلم يخف عليه الحكم قال الحافظ: بل كراهة ابن عمر محمولة على من قصد ذلك سواء كان عن مخيلة أم لا وهو المطابق لروايته، ولا يظن بابن عمر رضي الله عنه أنه يؤاخذ من لم يقصد شيئا وإنما يريد بالكراهة من انجر إزاره بغير اختياره ثم تمادى على ذلك ولم يتداركه وهذا متفق عليه وإن اختلفوا هل الكراهة فيه للتحريم أو للتنزيه وفي الحديث أيضا: اعتبار أحوال الأشخاص في الأحكام باختلافها، وهو أصل مطرد غالبا. الفتح 10/267.
[58465]:ينظر الفخر الرازي 30/169.