قوله : { وَثَيَابَكَ فَطَهِّرْ } .
قيل : المراد الثياب الملبوسة ، فعلى الأول يكون المعنى : وعملك فأصلح ، قاله مجاهد وابن زيد والسديُّ ، وروى منصور عن أبي رزين ، قال : يقول : وعملك فأصلح ، وإذا كان الرجل خبيث العمل ، قالوا : إن فلاناً خبيث الثيابِ ، وإذ كان الرجل حسن العمل ، قالوا : إنَّ فلاناً طاهر الثياب ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «يَحْشرُ المَرءُ فِي ثَوبَيْهِ الَّذي مَاتَ فِيْهِمَا »{[58451]} ، يعني : عمله الصالح والطالح ، ذكره الماوردي .
ومن قال المراد به القلب ، قلبك فطهر ، قاله ابن عباس وسعيد بن جبير رضي الله عنهما ؛ ومنه قول امرئ القيس : [ الطويل ]
4946 - . . . *** فَسُلِّي ثِيَابِي مِن ثِيابكِ تَنْسُلِ{[58452]}
قال الماورديُّ : ولهم في تأويل الآية وجهان :
أحدهما : المعنى : وقلبك فطهر من الإثم والمعاصي قاله ابن عباس وقتادة{[58453]} .
الثاني : وقلبك فطهر من القذر ، أي : لا تقذر فتكون دنس الثياب وهو ما يروى عن ابن عباس أيضاً{[58454]} ، واستشهدوا بقوله غيلان بن سلمة الثقفي : [ الطويل ]
4947 - فَإنِّي بِحَمْدِ اللَّهِ لا ثَوْبَ غَادِرٍ*** لَبِسْتُ وَلا مِنْ غَدْرةٍ أتقنَّعُ{[58455]}
ومن قال : المراد به النفس ، قال : معناه ونفسك فطهر ، أي : من الذنوب ، والعرب تكني عن النفس بالثياب . قاله ابن عباس - رضي الله عنه - ؛ ومنه قول عنترة : [ الكامل ]
4948 - فَشَكَكْتُ بالرُّمْحِ الطَّويلِ ثِيابَهُ*** لَيْسَ الكرِيمُ على القَنَا بِمُحَرَّمِ{[58456]}
وقول امرئ القيس المتقدم . ومن قال : بأنه الجسم قال : المعنى وجسمك فطهر من المعاصي الظاهرة ، ومنه قول ليلى تصف إبلاً : [ الطويل ]
4949 - رَموْهَا بأثْوابٍ خِفافٍ فلا تَرَى*** لَهَا شَبَهاً إلاَّ النَّعامَ المُنفَّرَا{[58457]}
ومن قال : المراد به الأهل ، قال : معناه : وأهلك طهرهم من الخطايا بالموعظة والتأديب ، والعرب تسمي الأهل ثوباً وإزاراً ولباساً ، قال تعالى : { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ }[ البقرة : 187 ] .
قال الماورديُّ : ولهم في تأويل الآية وجهان :
الأول : معناه : ونساءك فطهر باختيار المؤمنات العفائف .
الثاني : الاستمتاع بهن في القبل دون الدبر في الطهر إلا في الحيض حكاه ابن بحر .
قال ابن الخطيب{[58458]} : «وحمل الآية على هذا التأويل يعسر لأنه على هذا الوجه لا يحسن اتصال الآية بما قبلها » .
ومن قال المراد به الخلق قال معناه : وخلقك فحسِّنْ قاله الحسن والقرظي ؛ لأن خلق الإنسان مشتمل على أحواله اشتمال ثيابه على نفسه ؛ قال الشاعر : [ الطويل ]
4950 - فَلاَ أبَ وابْناً مِثْلَ مَرْوانَ وابْنِهِ*** إذَا هُوَ بالمَجْدِ ارتَدَى وتَأزَّرَا{[58459]}
والسبب في حسن هذه الكناية وجهان :
الأول : أن الثوب كالشيء الملازم للإنسان فلهذا جعلوا الأثواب كناية عن الإنسان ، فيقال : المجد في ثوبه والعفة في إزاره .
الثاني : أنه من طهر باطنه غالباً طهر ظاهره ، ومن قال : المراد به الدين فمعناه : ودينك فطهر .
جاء في الصحيح : أنه صلى الله عليه وسلم قال : «ورأيتُ النَّاس وعَلَيْهِمْ ثِيابٌ مِنْهَا ما يَبلغُ الثُّدِيَّ ، ومِنْهَا دونَ ذلِكَ ، ورَأيْتُ عُمر بن الخطَّاب ، وعليْهِ إزارٌ يُجُرُّهُ ، قالوا : يا رسُولَ اللَّهِ فَمَا أوَّلتَ ذلِكَ ؟ قال : الدِّينُ »{[58460]} .
وروي عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - في قوله تعالى : { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } قال : معناه لا تلبس ثيابك على عذرة{[58461]} ؛ قال ابن أبي كبشة : [ الطويل ]
4951 - ثِيَابُ بَنِي عَوْفٍ طَهارَى نَقيَّةٌ*** وأوْجُهُهمْ عِنْدَ المُشاهدِ غُرَّانُ{[58462]}
يعني بطهارة ثيابهم : سلامتهم عن الدناءات ويعني بعزة وجوههم : تنزيههم عن المحرمات ، أو جمالهم في الخلقة ، أو كليهما . قاله ابن العربي .
وقال سفيانُ بن عيينة : لا تلبس ثيابك على كذب ولا جور ولا غدر ولا إثم ، قاله عكرمة .
ومن قال : إن المراد به الثياب الملبوسة ، فلهم أربعة أوجهٍ :
الثاني : وثيابك فشمِّر ، أي قصِّر ، فإن تقصير الثياب أبعد من النجاسة فإذا جُرَّت على الأرض لم يؤمن أن يصيبها نجاسة ، قاله الزجاج وطاووس .
الثالث : وثيابك فطهر من النجاسة بالماء ، قاله محمد بن سيرين وابن زيد والفقهاء .
الرابع : لا تلبس ثيابك إلا من كسبِ الحلال ليكون مطهرة من الحرام .
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - لا يكون ثيابك التي تلبس من ملبس غير طاهر .
قال ابن العربي : وليس بممتنع أن تحمل الآية على عمومها ، من أن المراد بها الحقيقة ، والمجاز ، وإذا حملناها على الثياب الطاهرةِ المعلومة ، فهي تتناول معنيين :
أحدهما : تقصير الأذيال ، فإنها إذا أرسلت تدنست ، ولهذا قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لغلام من الأنصار ، وقد رأى ذيله مسترخياً : ارفع إزارك ، فإنه أتْقَى ، وأبْقَى ، وأنقى .
وقال صلى الله عليه وسلم : «إزْرَةُ المُؤمِن إلى أنْصَافِ سَاقيْهِ ، لا جُناحَ عليْهِ فِيْمَا بَينهُ وبيْنَ الكعْبَيْنِ ومَا كَانَ أسْفل مِنْ ذلِكَ ففِي النَّارِ »{[58463]} فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الغاية في لباس الإزار الكعب ، وتوعد ما تحته بالنار ، فما بال رجال يرسلون أيذالهم ، ويطيلون ثيابهم ، ثم يتكلفون رفعها بأيديهم وهذه حالة الكبر ، وقال صلى الله عليه وسلم : " لا يَنْظرُ اللَّهُ تعالى إلى مَنْ جَرَّ ثَوبَهُ خَيلاء " ، وفي رواية : " منْ جرَّ إزارهُ خُيَلاء لَمْ ينْظُرِ اللَّهُ إليْهِ يَوْمَ القِيامةِ " {[58464]} قال أبو بكر - رضي الله عنه - : يا رسول الله إني أجد شِقّ إزاري يسترخي إلا أني أتعاهد ذلك منه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لَسْتَ ممَّنْ يَصْنعهُ خيلاء " .
والمعنى الثاني : غسلها بالماء من النجاسة ، وهو الظاهر .
قال المهدوي : واستدل به بعض العلماء على وجوب طهارة الثوب ، وليس ذلك بفرض عند مالك وأهل المدينة ، وكذلك طهارة البدن ، للإجماع على جواز الصلاة بالاستجمار غير غسل .
قال ابن الخطيب{[58465]} : إذا حملنا لفظ التطهير على حقيقته ، فنقول : المراد منه أنه صلى الله عليه وسلم أمر بتطهير ثيابه من الأنجاس والأقذار ، وعلى هذا التقدير ففي الآية ثلاثة احتمالاتٍ :
الأول : قال الشافعي - رضي الله عنه - : المقصود من الآية الإعلام بأن الصلاة لا تجوز إلا في ثياب طاهرة من الأنجاس .
وثانيها : قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : كان المشركون لا يصونون ثيابهم عن النجاسات ، فأمره الله تعالى بأن يصون ثيابه عن النجاسات .
وثالثها : روي أنهم ألقوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم سَلَى شاةٍ ، فشق عليه فرجع إلى بيته حَزيناً وتدثر في ثيابه ، فقال : { يا أيها المدثر قُمْ فَأَنذِرْ } ولا تمنعك تلك السفاهة عن الإنذار { وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } على أن لا ينتقم منهم { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } عن تلك النجاسات والقاذورات .