قوله تعالى : { فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم } ، والإعجاب هو السرور بما يتعجب منه ، يقول : لا تستحسن ما أنعمنا عليهم من الأموال والأولاد لأن العبد إذا كان من الله في استدراج كثر الله ماله وولده ، { إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا } ، فإن قيل : أي تعذيب في المال والولد وهم يتنعمون بها في الحياة الدنيا ؟ . قيل : قال مجاهد و قتادة : في الآية تقديم وتأخير ، تقديره : فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا ، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة . وقيل : التعذيب بالمصائب الواقعة في المال والولد . وقال الحسن : يعذبهم بها في الدنيا بأخذ الزكاة منها والنفقة في سبيل الله ، وقيل : يعذبهم بالتعب في جمعه ، والوجل في حفظه ، والكره في إنفاقه ، والحسرة على تخليفه عند من لا يحمده ، ثم يقدم على ملك لا يعذره . { وتزهق أنفسهم } ، أي : تخرج ، { وهم كافرون } ، أي : يموتون على الكفر .
ولقد كان هؤلاء المنفقون وهم كارهون ذوي مال وذوي أولاد ، وذوي جاه في قومهم وشرف . ولكن هذا كله ليس بشيء عند اللّه . وكذلك يجب ألا يكون شيئاً عند الرسول والمؤمنين . فما هي بنعمة يسبغها اللّه عليهم ليهنأوا بها ، إنما هي الفتنة يسوقها اللّه إليهم ويعذبهم بها :
( فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم ، إنما يريد اللّه ليعذبهم بها في الحياة الدنيا ، وتزهق أنفسهم وهم كافرون ) .
إن الأموال والأولاد قد تكون نعمة يسبغها اللّه على عبد من عباده ، حين يوفقه إلى الشكر على النعمة ، والإصلاح بها في الأرض ، والتوجه بها إلى اللّه ، فإذا هو مطمئن الضمير ، ساكن النفس ، واثق من المصير . كلما أنفق احتسب وشعر أنه قدم لنفسه ذخراً ، وكلما أصيب في ماله أو بنيه احتسب ، فإذا السكينة النفسية تغمره . والأمل في اللّه يسري عنه . . وقد تكون نقمة يصيب اللّه بها عبداً من عباده ، لأنه يعلم من أمره الفساد والدخل ، فإذا القلق على الأموال والأولاد يحول حياته جحيماً ، وإذا الحرص عليها يؤرقه ويتلف أعصابه ، وإذا هو ينفق المال حين ينفقه فيما يتلفه ويعود عليه بالأذي ، وإذا هو يشقى بأبنائه إذا مرضوا ويشقى بهم إذا صحوا . وكم من الناس يعذبون بأبنائهم لسبب من الأسباب !
وهؤلاء الذين كانوا على عهد الرسول - [ ص ] - وأمثالهم في كل زمان ، يملكون الأموال ويرزقون الأولاد ، يعجب الناس ظاهرها ، وهي لهم عذاب على نحو من الأنحاء . عذاب في الحياة الدنيا ، وهم - بما علم اللّه من دخيلتهم - صائرون إلى الهاوية . هاوية الموت على الكفر والعياذ باللّه من هذا المصير .
والتعبير( وتزهق أنفسهم ) يلقي ظل الفرار لهذه النفوس أو الهلاك . ظلاً مزعجاً لا هدوء فيه ولا اطمئنان ، فيتسق هذا الظل مع ظل العذاب في الحياة الدنيا بالأموال والأولاد . فهو القلق والكرب في الدنيا والآخرة . وما يحسد أحد على هذه المظاهر التي تحمل في طياتها البلاء !
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : فلا تعجبك يا محمد أموال هؤلاء المنافقين ولا أولادهم في الحياة الدنيا ، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الاَخرة . وقال : معنى ذلك : التقديم وهو مؤخر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فَلا تُعْجِبْكَ أمْوَالُهُمْ وَلا أوْلادُهُمْ قال : هذه من تقاديم الكلام ، يقول : لا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا ، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الاَخرة .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : إنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذّبَهُمْ بِها فِي الاَخِرَةِ .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا ، بما ألزمهم فيها من فرائضه . ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن المسيب بن شريك ، عن سلمان الأقصري ، عن الحسن : إنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذّبَهُمْ بِها فِي الحَياةِ الدّنْيا قال : بأخذ الزكاة والنفقة في سبيل الله تعالى .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : إنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذّبَهُمْ بِها فِي الحَياةِ الدّنْيا بالمصائب فيها ، هي لهم عذاب وهي للمؤمنين أجر .
قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بالصواب في ذلك عندنا ، التأويل الذي ذكرنا عن الحسن ، لأن ذلك هو الظاهر من التنزيل ، فصرف تأويله إلى ما دلّ عليه ظاهره أولى من صرفه إلى باطن لا دلالة على صحته ، وإنما وجه من وجه ذلك إلى التقديم وهو مؤخر ، لأنه لم يعرف لتعذيب الله المنافقين بأموالهم وأولادهم في الحياة الدنيا وجها يوجهه إليه ، وقال : كيف يعذّبهم بذلك في الدنيا ، وهي لهم فيها سرور ، وذهب عنه توجيهه إلى أنه من عظيم العذاب عليه إلزامه ما أوجب الله عليه فيها من حقوقه وفرائضه ، إذ كان يلزمه ويؤخذ منه وهو غير طيب النفس . ولا راج من الله جزاء ولا من الاَخذ منه حمدا ولا شكرا على ضجر منه وكره .
وأما قوله : وَتَزْهَقَ أنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ فإنه يعني : وتخرج أنفسهم ، فيموتوا على كفرهم بالله وجحودهم نبوّة نبيّ الله محمد صلى الله عليه وسلم ، يقال منه : زَهَقَتْ نفس فلان ، وزَهِقَتْ ، فمن قال : زَهَقَت ، قال : تَزْهَقُ ، ومن قال : زَهِقَتْ ، قال : تَزْهِقُ زُهُوقا ومنه قيل : زَهَق فلان بين أيدي القوم يَزْهَقُ زُهُوقا : إذا سبقهم فتقدمهم ، ويقال : زَهَقَ الباطل : إذا ذهب ودرس .
وقوله تعالى : { فلا تعجبك أموالهم } الآية ، حقر هذا اللفظ شأن المنافقين وعلل إعطاء الله لهم الأموال والأولاد بإرادته تعذيبهم بها ، واختلف في وجه التعذيب فقال قتادة : في الكلام تقديم وتأخير ، فالمعنى «فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة » ، وقال الحسن : الوجه في التعذيب أنه بما ألزمهم فيها من أداء الزكاة والنفقة في سبيل الله .
قال القاضي أبو محمد : فالضمير في قوله { بها } عائد في هذا القول على «الأموال » فقط ، وقال ابن زيد وغيره : «التعذيب » هو بمصائب الدنيا ورزاياها هي لهم عذاب إذ لا يؤجرون عليها ، وهذا القول وإن كان يستغرق قول الحسن فإن قول الحسن يتقوى تخصيصه بأن تعذيبهم بإلزام الشريعة أعظم من تعذيبهم بسائر الرزايا وذلك لاقتران الذلة والغلبة بأوامر الشريعة لهم قوله : { وتزهق أنفسهم } ، يحتمل أن يريد ويموتون على الكفر ، ويحتمل أن يريد «وتزهق أنفسهم » من شدة التعذيب الذي ينالهم{[5704]} ، وقوله { وهم كافرون } جملة في موضع الحال على التأويل الأول ، وليس يلزم ذلك على التأويل الثاني .