قوله تعالى : { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا } ، يعني : في القرآن بالاستهزاء . قوله تعالى : { فأعرض عنهم } ، فاتركهم ولا تجالسهم .
قوله تعالى : { حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك } ، قرأ ابن عامر بفتح النون ، وتشديد السين ، وقرأ الآخرون بسكون النون وتخفيف السين .
قوله تعالى : { الشيطان } ، نهينا .
قوله تعالى : { فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين } ، يعني : إذا جلست معهم ناسياً فقم من عندهم بعدما تذكرت .
فإذا أنهى إليهم هذا البلاغ ، وإذا واجه تكذيبهم بهذه المفاصلة . . فإنه [ ص ] مأمور بعد ذلك ألا يجالسهم - حتى للبلاغ والتذكير - إذا رآهم يخوضون في آيات الله بغير توقير ؛ ويتحدثون عن الدين بغير ما ينبغي للدين من الجد والمهابة ؛ ويجعلون الدين موضعا للعب واللهو ؛ بالقول أو بالفعل ؛ حتى لا تكون مجالسته لهم - وهم على مثل هذه الحال - موافقة ضمنية على ما هم فيه ؛ أو قلة غيرة على الدين الذي لا يغار المسلم على حرمة كما يغار عليه . فإذا أنساه الشيطان فجلس معهم ، ثم تذكر ، قام من فوره وفارق مجلسهم :
( وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره . وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ) . .
ولقد كان هذا الأمر للرسول [ ص ] ويمكن في حدود النص أن يكون أمرا لمن وراءه من المسلمين . . كان هذا الأمر في مكة . حيث كان عمل الرسول [ ص ] يقف عند حدود الدعوة . وحيث كان غير مأمور بقتال للحكمة التي أرادها الله في هذه الفترة . وحيث كان الاتجاه واضحا لعدم الاصطدام بالمشركين ما أمكن . . فكان هذا الأمر بألا يجلس النبي [ ص ] في مجالس المشركين ؛ متى رآهم يخوضون في آيات الله ويذكرون دينه بغير توقير ، والمسارعة إلى ترك هذه المجالس - لو أنساه الشيطان - بمجرد أن يتذكر أمر الله ونهيه . وكان المسلمون كذلك مأمورين بهذا الأمر كما تقول بعض الروايات . . والقوم الظالمون ، المقصود بهم هنا القوم المشركون . كما هو التعبير الغالب في القرآن الكريم . .
فأما بعد أن قامت للإسلام دولة في المدينة ، فكان للنبي [ ص ] شأن آخر مع المشركين . وكان الجهاد والقتال حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله . حيث لا يجترى ء أحد على الخوض في آيات الله !
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا رَأَيْتَ الّذِينَ يَخُوضُونَ فِيَ آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتّىَ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمّا يُنسِيَنّكَ الشّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذّكْرَىَ مَعَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ } . .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وإذَا رأيْتَ يا محمد المشركين الّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنَا التي أنزلناها إليك ، ووحيْنا الذي أوحيناه إليك ، و «خوضهم فيها » كان استهزاءهم بها وسَبّهم من أنزلها وتكلم بها وتكذيبهم بها . فأعْرِضْ عَنْهُمْ يقول : فصُدّ عنهم بوجهك ، وقم عنهم ولا تجلس معهم ، حتى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غيرِهِ يقول : حتى يأخذوا في حديث غير الاستهزاء بآيات الله من حديثهم بينهم . وإمّا يُنْسِيَنّكَ الشّيْطَانُ يقوله : وإن أنساك الشيطان نَهيْنا إياك عن الجلوس معهم والإعراض عنهم في حال خوصهم في آياتنا ثم ذكرت ذلك ، فقهم عنهم ولا تقعد بعد ذكرك ذلك مع القوم الظالمين الذين خاضوا في غير الذي لهم الخوض فيه لما خاضوا به فيه وذلك هو معنى ظلمهم في هذا الموضع .
وينحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : وإذَا رأيْتَ الّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنَا فأعْرِضْ عَنْهُمْ حتى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غيرِهِ قال : نهاه الله أن يجلس مع الذين يخوضون في آيات الله يكذّبون بها ، فإن نسي فلا يقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن السديّ ، عن أبي مالك وسعيد بن جبير ، في قوله : وإذَا رأيْتَ الّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنَا قال : الذين يكذبون بآياتنا .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وإذَا رأيْتَ الّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنَا فأعْرِضْ عَنْهُمْ حتى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غيرِهِ وإمّا يُنْسِيَنّكَ الشّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذّكْرَى مَعَ القَوْمِ الظّالِمينَ قال : كان المشركون إذا جالسوا المؤمنين وقعوا في النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن فسبّوه واستهزءوا به ، فأمرهم الله أن لا يقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره .
: وإمّا يُنْسِيَنّكَ الشّيْطَانُ يقول : نَسِيتَ فتقعد معهم ، فإذا ذكرت فقم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : يخُوضُونَ فِي آياتِنَا قال : يكذّبون بآياتنا .
حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي ، قال : حدثنا فُضيل بن عياض ، عن ليث ، عن أبي جعفر ، قال لا تجالسوا أهل الخصومات ، فإنهم الذين يخوضون في آيات الله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثنا معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : وإذَا رأيْتَ الّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنَا ، وقوله : الّذِينَ فَرّقُوا دِينَهُمْ وكَانُوا شِيَعا ، وقوله : وَلاَ تَكُونُوا كالّذِينَ تَفَرّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ البَيّناتُ ، وقوله : أنْ أقِيمُوا الدّينَ وَلا تَتَفَرّقُوا فِيه ، ونحو هذا في القرآن قال : أمر الله المؤمنين بالجماعة ونهاهم عن الاختلاف والفُرْقة ، وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالمِراء والخصومات في دين الله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : وإذَا رأيْتَ الّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنَا قال : يستهزءون بها . قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقعد معهم إلا أن ينسى فإذا ذكر فليقم . فذلك قوله : وإذَا رأيْتَ الّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنَا فأعْرِضْ عَنْهُمْ حتى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غيرِهِ وإمّا يُنْسِيَنّكَ الشّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذّكْرَى مَعَ القَوْمِ الظّالِمينَ . قال ابن جريج : كان المشركون يجلسون إلى النبي صلى الله عليه وسلم يُحبّون أن يسمعوا منه ، فإذا سمعوا استهزءوا فنوزلت : وإذَا رأيْتَ الّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنَا فأعْرِضْ عَنْهُمْ . . . الاَية .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد : وإذَا رأيْتَ الّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنَا قال : يكذّبون .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبد الله ، عن إسرائيل ، عن السدي ، عن أبي مالك ، قوله : وإذَا رأيْتَ الّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنَا فأعْرِضْ عَنْهُمْ حتى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غيرِهِ يعني : المشركين . وإمّا يُنْسِيَنّكَ الشّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذّكْرَى مَعَ القَوْمِ الظّالِمينَ إن نسيت فَذَكَرت فلا تجلس معهم .
{ وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا } بالتكذيب والاستهزاء بها والطعن فيها . { فأعرض عنهم } فلا تجالسهم وقم عنهم . { حتى يخوضوا في حديث غيره } أعاد الضمير على معنى الآيات لأنها القرآن . { وإما ينسينك الشيطان } بأن يشغلك بوسوسته حتى تنسى النهي . وقرأ ابن عامر { ينسيك } بالتشديد . { فلا تقعد بعد الذكرى } بعد أن تذكره . { مع القوم الظالمين } أي معهم ، فوضع الظاهر موضع المضمر دلالة على أنهم ظلموا بوضع التكذيب والاستهزاء موضع التصديق والاستعظام .
لفظ هذا الخطاب مجرد للنبي صلى الله عليه وسلم وحده ، واختلف في معناه فقيل إن المؤمنين داخلون في الخطاب معه .
قال القاضي أبو محمد : وهذا هو الصحيح ، لأن علة النهي وهي سماع الخوض في آيات الله تشملهم وإياه ، وقيل : بل المعنى أيضاً أريد به النبي صلى الله عليه وسلم وحده ، لأن قيامه عن المشركين كان يشق عليهم وفراقه لهم على معارضته وإن لم يكن المؤمنون عندهم كذلك ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن ينابذهم بالقيام عنهم إذا استهزؤوا وخاضوا ليتأدبوا بذلك ويدعوا الخوض والاستهزاء ، وهذا التأويل يتركب على كلام ابن جرير يرحمه الله . والخوض أصله في الماء ثم يستعمل بعد في غمرات الأشياء التي هي مجاهل تشبيهاً بغمرات الماء ، { وإما } شرط وتلزمها النون الثقيلة في الأغلب ، وقد لا تلزم كما قال :
إمَّا يُصِبْكَ عَدُوٌّ في مُنَاوَأةٍ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[4954]}
إلى غير ذلك من الأمثلة ، وقرأ ابن عامر وحده{[4955]} «ينسّينك » بتشديد السين وفتح النون والمعنى واحد ، إلا أن التشديد أكثر مبالغة{[4956]} .
و { الذكرى } والذكر واحد في المعنى وإنما هو تأنيث لفظي ، ووضفهم هنا ب { الظالمين } متمكن لأنهم وضعوا الشيء في غير موضعه ، و { أعرض } في هذه الآية بمعنى المفارقة على حقيقة الإعراض وأكمل وجوهه ، ويدل على ذلك { فلا تقعد } .
عطف على جملة { وكذّب به قومك } [ الأنعام : 66 ] . والعدول عن الإتيان بالضمير إلى الإتيان بالاسم الظاهر وهو اسم الموصول ، فلم يقل : وإذا رأيتهم فأعرض عنهم ، يدلّ على أنّ الذي يخوضون في الآيات فريق خاص من القوم الذين كذّبوا بالقرآن أو بالعذاب . فعُمُوم القوم أنكروا وكذّبوا دون خَوض في آيات القرآن ، فأولئك قسم ، والذين يخوضون في الآيات قسم كان أبذَى وأقذَع ، وأشدّ كفراً وأشنع ، وهم المتصدّون للطعن في القرآن . وهؤلاء أُمِر الرسول صلى الله عليه وسلم بالإعراض عن مجادلتهم وترك مجالسهم حتَّى يرعُووا عن ذلك . ولو أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بالإعراض عن جميع المكذّبين لتعطَّلت الدّعوة والتبليغ .
ومعنى { إذا رأيتَ الذين يخوضون } إذا رأيتهم في حال خوضهم . وجاء تعريف هؤلاء بالموصولية دون أن يقال الخائضين أو قوماً خائضين لأنّ الموصول فيه إيماء إلى وجه الأمر بالإعراض لأنَّه أمر غريب ، إذ شأن الرسول عليه الصلاة والسلام أن يمارس الناس لعرض دعوة الدين ، فأمرُ الله إيَّاه بالإعراض عن فريق منهم يحتاج إلى توجيه واستئناس . وذلك بالتعليل الذي أفاده الموصول وصلته ، أي فأعرض عنهم لأنَّهم يخوضون في آياتنا .
وهذه الآية أحسن ما يمثّل به ، لمجيء الموصول للإيماء إلى إفادة تعليل ما بني عليه من خبر أو إنشاء ، ألا ترى أنّ الأمر بالإعراض حُدّد بغاية حصول ضدّ الصلة . وهي أيضاً أعدل شاهد لصحة ما فسّر به القطب الشيرازي في « شرح المفتاح » قولَ السكاكي ( أو أن توميء بذلك إلى وجه بناء الخبر ) بأنّ وجه بناء الخبر هو علَّته وسببه ، وإن أبى التفتزاني ذلك التفسير .
والخوض حقيقته الدخول في الماء مشياً بالرّجْلين دون سباحة ثم استعير للتصرّف الذي فيه كلفة أو عنت ، كما استعير التعسّف وهو المشي في الرمل لذلك . واستعير الخوض أيضاً للكلام الذي فيه تكلَّف الكذب والباطل لأنَّه يتكلَّف له قائله ، قال الراغب : وأكثر ما ورد في القرآن ورد فيما يُذمّ الشروع فيه ، قال تعالى : { يخوضون في آياتنا } ، { نخوض ونلعب } [ التوبة : 65 ] ، { وخضتم كالذي خاضوا } [ التوبة : 69 ] ، { ذرهم في خوضهم يلعبون } [ الأنعام : 91 ] . فمعنى { يخوضون في آياتنا } يتكلَّمون فيها بالباطل والاستهزاء .
والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة وحكم بقية المسلمين كحكمه ، كما قال في ذكر المنافقين في سورة النساء ( 140 ) { فلا تقعدوا معهم حتَّى يخوضوا في حديث غيره . } والإعراض تقدّم تفسيره عند قوله تعالى : { فأعرض عنهم وعِظهم } في سورة النساء ( 63 ) . والإعراض عنهم هنا هو ترك الجلوس إلى مجالسهم ، وهو مجاز قريب من الحقيقة لأنَّه يلزمه الإعراض الحقيقي غالباً ، فإن هم غشُوا مجلس الرسول عليه الصلاة والسلام فالإعراض عنهم أن يقوم عنهم وعن ابن جريج : فجَعَل إذَا استهزأوا قام فحذِروا وقالوا لا تستهزءوا فيقومَ .
وفائدة هذا الإعراض زجرهم وقطع الجدال معهم لعلَّهم يرجعون عن عنادهم .
و{ حتَّى } غاية للإعراض لأنَّه إعراض فيه توقيف دعوتهم زماناً أوجبه رعي مصلحة أخرى هي من قبيل الدعوة فلا يضرّ توقيف الدعوة زماناً ، فإذا زال موجب ذلك عادت محاولة هديهم إلى أصلهم لأنَّها تمحَّضت للمصلحة .
وإنَّما عبّر عن انتقالهم إلى حديث آخر بالخوض لأنَّهم لا يتحدّثون إلاّ فيما لا جدوى له من أحوال الشرك وأمور الجاهلية .
و { غيرِه } صفة لِ { حديث } . والضمير المضاف إليه عائد إلى الخوض باعتبار كونه حديثاً حسبما اقتضاه وصف { حديث } بأنَّه غيره .
وقوله { وإمَّا ينسينَّك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين } عطف حالة النّسيان زيادة في تأكيد الأمر بالإعراض . وأسند الإنساء إلى الشيطان فدلّنا على أنّ النسيان من آثار الخلقة التي جعل الله فيها حظّاً العلم الشيطان . كما ورد أنّ التثاؤب من الشيطان ، وليس هذا من وَسْوسة الشيطان في أعمال الإنسان لأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم معصوم من وسوسة الشيطا في ذلك ، فالنسيان من الأعراض البشرية الجائزة على الأنبياء في غير تبليغ ما أمروا بتبليغه ، عند جمهور علماء السنّة من الأشاعرة وغيرهم . قال ابن العربي في « الأحكام » : إنّ كبار الرافضة هم الذين ذهبوا إلى تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم من النسيان اه . وهو قول لبعض الأشعرية وعزي إلى الأستاذ أبي إسحاق الإسفِرائيني فيما حكاه نور الدين الشيرازي في « شرح للقصيدة النونية » لشيخه تاج الدين السبكي . ويتعيّن أنّ مراده بذلك فيما طريقه البلاغ كما يظهر ممّا حكاه عنه القرطبي : وقد نَسي رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلَّم من ركعتين في الصلاة الرباعية ، ونسي آيات من بعض السور تذّكرها لمّا سمع قراءة رجل في صلاة الليل ، كما في الصحيح . وفي الحديث الصحيح : « إنّما أنا بَشَر أنسَى كما تنسَوْن فإذا نسيتُ فذكّروني » فذلك نسيان استحضارها بعد أن بلَّغها . وليس نظرنا في جواز ذلك وإنَّما نظرنا في إسناد ذلك إلى الشيطان فإنَّه يقتضي أنّ للشيطان حظّاً له أثر في نفس الرسول ، فيجوز أن تكون بعض الأعراض البشرية التي يجوز طروّها على الأنبياء قد جعلها الله في أصل الخلقة من عمل الشياطين ، كما جعل بعض الأعراض موكولة للملائكة ، ويكون النسيان من جملة الأعراض الموكولة إلى الشياطين كما تكرّر إسناده إلى الشيطان في آيات كثيرة منها . وهذا مثل كون التثاؤب من الشيطان ، وكوْن ذات الجَنْب من الشيطان . وقد قال أيّوب { أنِّي مسَّني الشيطان بنُصب وعَذَاب } [ ص : 41 ] ، وحينئذٍ فالوجه أنّ الأعراض البشرية الجائزة على الأنبياء التي لا تخلّ بتبليغ ولا تُوقعُ في المعصية قد يكون بعضها من أثر عمل الشيطان وأنّ الله عصمهم من الشيطان فيما عدا ذلك .
ويجوز أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم قد خصّ من بين الأنبياء بأن لا سلطة لعمل شيطاني عليه ولو كان ذلك من الأعراض الجائزة على مقام الرسالة ، فإنَّما يتعلَّق به من تلك الأعراض ما لا أثر للشيطان فيه .
وقد يدلّ لهذا ما ورد في حديث شقّ الصدر : أنّ جبريل لمَّا استخرج العلقة قال : هذا حظّ الشيطان منك ، يعني مركز تصرّفاته ، فيكون الشيطان لا يتوصّل إلى شيء يقع في نفس نبيّنا صلى الله عليه وسلم إلاّ بواسطة تدبير شيء يشغل النبي حتَّى ينسى مثل ما ورد في حديث « الموطأ » حين نام رسول الله صلى الله عليه وسلم ووكَّل بلالاً بأن يكلأ لهم الفجر ، فنام بلال حتَّى طلعت الشمس ، فإنّ النبي قال : " إنّ الشيطَان أتى بلالاً فلم يزل يُهَدّئُه كما يُهَدّأ الصبيّ حتّى نام " فأمّا نوم النبي والمسلمين عدا بلالاً فكان نوماً معتاداً ليس من عمل الشيطان . وإلى هذا الوجه أشار عياض في « الشفاء » . وقريب منه ما ورد أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ليلة القدر ، فخرج ليُعلم الناس فتَلاحَى رجلان فرُفعت . فإنّ التلاحي من عمل الشيطان ، ولم يكن يستطيع رفع ليلة القدر بنفسه فوسوس بالتلاحي .
والحاصل أنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم معصوم من الوسوسة ، وأمّا ما دونها مثل الإنساء والنزْغ فلا يلزم أن يعصم منه . وقد يفرّق بين الأمرين : أنّ الوسوسة آثارها وجودية والإنساء والنزغ آثارهما عدمية ، وهي الذهول والشغل ونحو ذلك :
فالمعنى إن أنساك الشيطان الإعراض عنهم فإن تذكّرتَ فلا تقعد معهم ، فهذا النسيان ينتقل به الرسول صلى الله عليه وسلم من عبادة إلى عبادة ، ومن أسلوب في الدّعوة إلى أسلوب آخر ، فليس إنساء الشيطان إيَّاه إيقاعاً في معصية إذ لا مفسدة في ارتكاب ذلك ولا يحصل به غرض من كيد الشيطان في الضلال ، وقد رفع الله المؤاخذة بالنسيان ، ولذلك قال : { فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين } ، أي بعد أن تتذكَّر الأمر بالإعراض . فالذكرى اسم للتذكّر وهو ضدّ النّسيان ، فهي اسم مصدر ، أي إذا أغفلت بَعد هذا فقعدت إليهم فإذا تذكَّرت فلا تقعد ، وهو ضدّ فأعرض ، وذلك أنّ الأمر بالشيء نهي عن ضدّه .
وقرأ الجمهور : { يُنْسِيَنّك } بسكون النون وتخفيف السين . وقرأه ابن عامر بفتح النون وتشديد السين من التنسية ، وهي مبالغة في أنساه . ومن العلماء من تأوّل هذه الآية بأنَّها مما خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمَّته ، كقوله تعالى : { لئن أشركت ليحبطنّ عملك } [ الزمر : 65 ] قال أبو بكر بن العربي إذا عذرنا أصحابنا في قولهم ذلك في { لئن أشركت ليحبطنّ عملك } لاستحالة الشرك عليه فلا عذر لهم في هذه الآية لجواز النسيان عليه .
والقوم الظالمون هم الذين يخوضون في آيات الله ، فهذا من الإظهار في مقام الإضمار لزيادة فائدة وصفهم بالظلم ، فيعلم أنّ خوضهم في آيات الله ظلم ، فيعلم أنَّه خوض إنكار للحقّ ومكابرة للمشاهدة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإذا رأيت}: سمعت يا محمد، {الذين يخوضون في آياتنا}: يستهزءون بالقرآن، وقالوا ما لا يصح، قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره}: فقم عنهم لا تجالسهم حتى يكون حديثهم في غير أمر الله وذكره، {وإما ينسينك الشيطان}: فإن أنساك الشيطان فجالستهم بعد النهي، {فلا تقعد بعد الذكرى}، يقول: إذا ذكرت فلا تقعد، {مع القوم الظالمين}: المشركين. فقال المؤمنون عند ذلك: لو قمنا عنهم إذا خاضوا واستهزأوا، فإنا نخشى الإثم في مجالستهم، يعني حين لا نغير عليهم، فأنزل الله: {وما على الذين يتقون...}
- ابن العربي: قال مالك: لا يحل لأحد أن يقيم بأرض يسب فيها السلف. قال تعالى: {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"وإذَا رأيْتَ" يا محمد المشركين "الّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنَا "التي أنزلناها إليك، ووحيْنا الذي أوحيناه إليك، وخوضهم فيها كان استهزاءهم بها وسَبّهم من أنزلها وتكلم بها وتكذيبهم بها. "فأعْرِضْ عَنْهُمْ": فصُدّ عنهم بوجهك، وقم عنهم ولا تجلس معهم، "حتى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غيرِهِ": حتى يأخذوا في حديث غير الاستهزاء بآيات الله من حديثهم بينهم. "وإمّا يُنْسِيَنّكَ الشّيْطَانُ": وإن أنساك الشيطان نَهيْنا إياك عن الجلوس معهم والإعراض عنهم في حال خوضهم في آياتنا ثم ذكرت ذلك، فقم عنهم ولا تقعد بعد ذكرك ذلك مع القوم الظالمين الذين خاضوا في غير الذي لهم الخوض فيه لما خاضوا به فيه وذلك هو معنى ظلمهم في هذا الموضع.
عن السديّ قال: كان المشركون إذا جالسوا المؤمنين وقعوا في النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن فسبّوه واستهزأوا به، فأمرهم الله أن لا يقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره.
"وإمّا يُنْسِيَنّكَ الشّيْطَانُ" يقول: نَسِيتَ فتقعد معهم، فإذا ذكرت فقم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يشبه أن يكون قوله: {يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم} أي يكفرون بها، ويستهزئون بها كما قال في سورة النساء: {وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره} [الآية: 140] فيكون الخوض في آيات [الله] الكفر بها والاستهزاء بها،... وقوله تعالى: {فأعرض عنهم} يحتمل النهي عن القعود معهم على ما ذكر من قوله: {فلا تقعدوا معهم}، ويحتمل الإعراض: الصفح عنهم وترك المجازاة لمساوئهم، كقوله تعالى: {فاصفح عنهم وقل سلام} [الزخرف: 89] وكقوله تعالى: {فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا} [النساء: 63] [فيه النهي] عن القعود معهم، وفيه الأمر بالتبليغ.
وهذا يدل على أن علينا ترك مجالسة الملحدين وسائر الكفار عند إظهارهم الكفر والشرك وما لا يجوز على الله تعالى إذا لم يمكنّا إنكاره، وكنا في تقية من تغييره باليد أو اللسان؛ لأن علينا اتّباع النبي صلى الله عليه وسلم فيما أمره الله به، إلا أن تقوم الدلالة على أنه مخصوص بشيء منه.
من خاض في آيات الله تركت مجالستُه وهُجر، مؤمنا كان أو كافرا.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
لفظ هذا الخطاب مجرد للنبي صلى الله عليه وسلم وحده، واختلف في معناه فقيل إن المؤمنين داخلون في الخطاب معه وهذا هو الصحيح، لأن علة النهي وهي سماع الخوض في آيات الله تشملهم وإياه، وقيل: بل المعنى أيضاً أريد به النبي صلى الله عليه وسلم وحده، لأن قيامه عن المشركين كان يشق عليهم وفراقه لهم على معارضته وإن لم يكن المؤمنون عندهم كذلك، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن ينابذهم بالقيام عنهم إذا استهزأوا وخاضوا، ليتأدبوا بذلك ويدعوا الخوض والاستهزاء، وهذا التأويل يتركب على كلام ابن جرير يرحمه الله. والخوض أصله في الماء، ثم يستعمل بعد في غمرات الأشياء التي هي مجاهل تشبيهاً بغمرات الماء،... و {الذكرى} والذكر واحد في المعنى، وإنما هو تأنيث لفظي، ووصفهم هنا ب {الظالمين} متمكن لأنهم وضعوا الشيء في غير موضعه، و {أعرض} في هذه الآية بمعنى المفارقة على حقيقة الإعراض وأكمل وجوهه، ويدل على ذلك {فلا تقعد}.
ولفظ الخوض في اللغة عبارة عن المفاوضة على وجه العبث واللعب، قال تعالى حكاية عن الكفار: {وكنا نخوض مع الخائضين}. وإذا سئل الرجل عن قوم فقال: تركتهم يخوضون، أفاد ذلك أنهم شرعوا في كلمات لا ينبغي ذكرها. قوله: {وإذا رأيت} قيل إنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيره، وقيل: الخطاب لغيره أي إذا رأيت أيها السامع الذين يخوضون في آياتنا.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
أنذر الله تعالى في الآيات السابقة هذه الأمة- أمة الدعوة- مثل العذاب الذي بعثه على مكذبي الرسل من الأولين وعلى المتفرقين المختلفين في دينهم من أهل الكتاب، وجعل ذلك مع ما قبله من حجج القرآن وآياته المثبتة لكونه من عند الله، لا من عند رسوله الأمي الذي لم يكن يعلم شيئا من أخبار الأمم ولا من سنن الله في مكذبي الرسل ومتبعيهم، تلك الآيات التي يرجى لمن تدبرها فقه الأمور وإدراك حقائق العلم. وذكر بعد هذا الإنذار والبيان تكذيب قريش بالقرآن، وكون الرسول مبلغا لا خالقا للإيمان، وإحالتهم في ظهور صدق أنبائه على الزمان. ثم بين في هذه الآيات كيف يعامل الذين يخوضون في آيات الله بالباطل من هذه الأمة – أعني أمة الدعوة والذين اتخذوا دينهم هزؤا ولعبا من كفارها الذين لم يجيبوا دعوتها، بما يعلم منه حكم من يدخل في عموم ذلك ممن أجابوهما، على نحو ما تقدم في الآيات التي قبلها.
وأصل الخوض وحقيقته الدخول في الماء والمرور فيه مشيا أو سباحة وجدح السويق أي لتَّ الدقيق باللبن، ويستعار لمرور الإبل في السراب، ووميض البرق في السحاب، وللاندفاع في الحديث والاسترسال فيه، وللدخول في الباطل مع أهله، وبهذين المعنيين استعمل في القرآن، وفسر الخوض هنا على القول الأول بالكفر بالآيات والاستهزاء بها...وفسر الخوض في الآيات على القول الآخر لمفسري السلف بالمراء والجدل والخصومة فيها اتباعا للأهواء، وانتصارا للمذاهب والأحزاب،... والصواب من القول في الآية أنها عامة، وأن المخاطب بها أولا بالذات سيدنا الرسول صلى الله عليه وسلم وكل من كان معه من المؤمنين، فكل ما ورد عن السلف في تفسيرها صحيح...
وسبب هذا النهي أن الإقبال على الخائضين والقعود معهم أقل ما فيه أنه إقرار لهم على خوضهم وإغراء بالتمادي فيه، وأكبره أنه رضاء به ومشاركة فيه، والمشاركة في الكفر والاستهزاء كفر ظاهر، لا يقترفه باختياره إلا منافق مراء أو كافر مجاهر، وفي التأويل لنصر المذاهب أو الآراء، مزلقة في البدع واتباع الأهواء، وفتنته أشد من فتنة الأول، فإن أكثر الذين يخوضون في الجدل والمراء من أهل البدع وغيرهم تغشهم أنفسهم بأنهم ينصرون الحق ويخدمون الشرع، ويؤيدون الأئمة المهتدين، ويخذلون المبتدعين المضلين، ولذلك حذر السلف الصالحون من مجالسة أهل الأهواء، أشد مما حذروا من مجالسة الكفار، إذ لا يخشى على المؤمن من فتنة الكافر ما يخشى عليه من فتنة المبتدع، لأنه يحذر من الأول على ضعف شبهته، ما لا يحذر من الثاني وهو يجيئه من مأمنه، ولا يعقل أن يقعد المؤمن باختياره مع الكفار في حال استهزائهم بآيات الله وتكذيبهم بها وطعنهم فيها، كما يقعد مختارا مع المجادلين فيها المتأولين لها، وإنما يتصور قعود المؤمن مع الكافر المستهزئ في حال الإكراه وما يقرب منها، كشدة الضعف، ولا سيما إذا كان في دار الحرب، ولم تكن مكة دار إسلام عند نزول هذه الآيات.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف على جملة {وكذّب به قومك} [الأنعام: 66]. والعدول عن الإتيان بالضمير إلى الإتيان بالاسم الظاهر وهو اسم الموصول، فلم يقل: وإذا رأيتهم فأعرض عنهم، يدلّ على أنّ الذي يخوضون في الآيات فريق خاص من القوم الذين كذّبوا بالقرآن أو بالعذاب. فعُمُوم القوم أنكروا وكذّبوا دون خَوض في آيات القرآن، فأولئك قسم، والذين يخوضون في الآيات قسم كان أبذَى وأقذَع، وأشدّ كفراً وأشنع، وهم المتصدّون للطعن في القرآن. وهؤلاء أُمِر الرسول صلى الله عليه وسلم بالإعراض عن مجادلتهم وترك مجالسهم حتَّى يرعُووا عن ذلك. ولو أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بالإعراض عن جميع المكذّبين لتعطَّلت الدّعوة والتبليغ.
ومعنى {إذا رأيتَ الذين يخوضون} إذا رأيتهم في حال خوضهم. وجاء تعريف هؤلاء بالموصولية دون أن يقال الخائضين أو قوماً خائضين لأنّ الموصول فيه إيماء إلى وجه الأمر بالإعراض لأنَّه أمر غريب، إذ شأن الرسول عليه الصلاة والسلام أن يمارس الناس لعرض دعوة الدين، فأمرُ الله إيَّاه بالإعراض عن فريق منهم يحتاج إلى توجيه واستئناس. وذلك بالتعليل الذي أفاده الموصول وصلته، أي فأعرض عنهم لأنَّهم يخوضون في آياتنا.
وهذه الآية أحسن ما يمثّل به، لمجيء الموصول للإيماء إلى إفادة تعليل ما بني عليه من خبر أو إنشاء، ألا ترى أنّ الأمر بالإعراض حُدّد بغاية حصول ضدّ الصلة. وهي أيضاً أعدل شاهد لصحة ما فسّر به القطب الشيرازي في « شرح المفتاح» قولَ السكاكي (أو أن تومئ بذلك إلى وجه بناء الخبر) بأنّ وجه بناء الخبر هو علَّته وسببه، وإن أبى التفتزاني ذلك التفسير.
والخوض حقيقته الدخول في الماء مشياً بالرّجْلين دون سباحة ثم استعير للتصرّف الذي فيه كلفة أو عنت، كما استعير التعسّف وهو المشي في الرمل لذلك. واستعير الخوض أيضاً للكلام الذي فيه تكلَّف الكذب والباطل لأنَّه يتكلَّف له قائله، قال الراغب: وأكثر ما ورد في القرآن ورد فيما يُذمّ الشروع فيه، قال تعالى: {يخوضون في آياتنا}، {نخوض ونلعب} [التوبة: 65]، {وخضتم كالذي خاضوا} [التوبة: 69]، {ذرهم في خوضهم يلعبون} [الأنعام: 91]. فمعنى {يخوضون في آياتنا} يتكلَّمون فيها بالباطل والاستهزاء.
والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة وحكم بقية المسلمين كحكمه، كما قال في ذكر المنافقين في سورة النساء (140) {فلا تقعدوا معهم حتَّى يخوضوا في حديث غيره.} والإعراض تقدّم تفسيره عند قوله تعالى: {فأعرض عنهم وعِظهم} في سورة النساء (63). والإعراض عنهم هنا هو ترك الجلوس إلى مجالسهم، وهو مجاز قريب من الحقيقة لأنَّه يلزمه الإعراض الحقيقي غالباً، فإن هم غشُوا مجلس الرسول عليه الصلاة والسلام فالإعراض عنهم أن يقوم عنهم وعن ابن جريج: فجَعَل إذَا استهزأوا قام فحذِروا وقالوا لا تستهزئوا فيقومَ.
وفائدة هذا الإعراض زجرهم وقطع الجدال معهم لعلَّهم يرجعون عن عنادهم.
و {حتَّى} غاية للإعراض لأنَّه إعراض فيه توقيف دعوتهم زماناً أوجبه رعي مصلحة أخرى هي من قبيل الدعوة فلا يضرّ توقيف الدعوة زماناً، فإذا زال موجب ذلك عادت محاولة هديهم إلى أصلهم لأنَّها تمحَّضت للمصلحة.
وإنَّما عبّر عن انتقالهم إلى حديث آخر بالخوض لأنَّهم لا يتحدّثون إلاّ فيما لا جدوى له من أحوال الشرك وأمور الجاهلية.
و {غيرِه} صفة لِ {حديث}. والضمير المضاف إليه عائد إلى الخوض باعتبار كونه حديثاً حسبما اقتضاه وصف {حديث} بأنَّه غيره.
وقوله {وإمَّا ينسينَّك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين} عطف حالة النّسيان زيادة في تأكيد الأمر بالإعراض. وأسند الإنساء إلى الشيطان فدلّنا على أنّ النسيان من آثار الخلقة التي جعل الله فيها حظّاً العلم الشيطان. كما ورد أنّ التثاؤب من الشيطان، وليس هذا من وَسْوسة الشيطان في أعمال الإنسان لأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم معصوم من وسوسة الشيطان في ذلك، فالنسيان من الأعراض البشرية الجائزة على الأنبياء في غير تبليغ ما أمروا بتبليغه، عند جمهور علماء السنّة من الأشاعرة وغيرهم... وفي الحديث الصحيح: « إنّما أنا بَشَر أنسَى كما تنسَوْن فإذا نسيتُ فذكّروني» فذلك نسيان استحضارها بعد أن بلَّغها. وليس نظرنا في جواز ذلك وإنَّما نظرنا في إسناد ذلك إلى الشيطان فإنَّه يقتضي أنّ للشيطان حظّاً له أثر في نفس الرسول، فيجوز أن تكون بعض الأعراض البشرية التي يجوز طروّها على الأنبياء قد جعلها الله في أصل الخلقة من عمل الشياطين، كما جعل بعض الأعراض موكولة للملائكة، ويكون النسيان من جملة الأعراض الموكولة إلى الشياطين كما تكرّر إسناده إلى الشيطان في آيات كثيرة منها. وهذا مثل كون التثاؤب من الشيطان، وكوْن ذات الجَنْب من الشيطان. وقد قال أيّوب {أنِّي مسَّني الشيطان بنُصب وعَذَاب} [ص: 41]، وحينئذٍ فالوجه أنّ الأعراض البشرية الجائزة على الأنبياء التي لا تخلّ بتبليغ ولا تُوقعُ في المعصية قد يكون بعضها من أثر عمل الشيطان وأنّ الله عصمهم من الشيطان فيما عدا ذلك.
ويجوز أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم قد خصّ من بين الأنبياء بأن لا سلطة لعمل شيطاني عليه ولو كان ذلك من الأعراض الجائزة على مقام الرسالة، فإنَّما يتعلَّق به من تلك الأعراض ما لا أثر للشيطان فيه.
وقد يدلّ لهذا ما ورد في حديث شقّ الصدر: أنّ جبريل لمَّا استخرج العلقة قال: هذا حظّ الشيطان منك، يعني مركز تصرّفاته، فيكون الشيطان لا يتوصّل إلى شيء يقع في نفس نبيّنا صلى الله عليه وسلم إلاّ بواسطة تدبير شيء يشغل النبي حتَّى ينسى مثل ما ورد في حديث « الموطأ» حين نام رسول الله صلى الله عليه وسلم ووكَّل بلالاً بأن يكلأ لهم الفجر، فنام بلال حتَّى طلعت الشمس، فإنّ النبي قال:"إنّ الشيطَان أتى بلالاً فلم يزل يُهَدّئُه كما يُهَدّأ الصبيّ حتّى نام" فأمّا نوم النبي والمسلمين عدا بلالاً فكان نوماً معتاداً ليس من عمل الشيطان. وإلى هذا الوجه أشار عياض في « الشفاء». وقريب منه ما ورد أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ليلة القدر، فخرج ليُعلم الناس فتَلاحَى رجلان فرُفعت. فإنّ التلاحي من عمل الشيطان، ولم يكن يستطيع رفع ليلة القدر بنفسه فوسوس بالتلاحي.
والحاصل أنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم معصوم من الوسوسة، وأمّا ما دونها مثل الإنساء والنزْغ فلا يلزم أن يعصم منه. وقد يفرّق بين الأمرين: أنّ الوسوسة آثارها وجودية والإنساء والنزغ آثارهما عدمية، وهي الذهول والشغل ونحو ذلك:
فالمعنى إن أنساك الشيطان الإعراض عنهم فإن تذكّرتَ فلا تقعد معهم، فهذا النسيان ينتقل به الرسول صلى الله عليه وسلم من عبادة إلى عبادة، ومن أسلوب في الدّعوة إلى أسلوب آخر، فليس إنساء الشيطان إيَّاه إيقاعاً في معصية إذ لا مفسدة في ارتكاب ذلك ولا يحصل به غرض من كيد الشيطان في الضلال، وقد رفع الله المؤاخذة بالنسيان، ولذلك قال: {فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين}، أي بعد أن تتذكَّر الأمر بالإعراض. فالذكرى اسم للتذكّر وهو ضدّ النّسيان، فهي اسم مصدر، أي إذا أغفلت بَعد هذا فقعدت إليهم فإذا تذكَّرت فلا تقعد، وهو ضدّ فأعرض، وذلك أنّ الأمر بالشيء نهي عن ضدّه.
وقرأ الجمهور: {يُنْسِيَنّك} بسكون النون وتخفيف السين. وقرأه ابن عامر بفتح النون وتشديد السين من التنسية، وهي مبالغة في أنساه. ومن العلماء من تأوّل هذه الآية بأنَّها مما خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمَّته، كقوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطنّ عملك} [الزمر: 65] قال أبو بكر بن العربي إذا عذرنا أصحابنا في قولهم ذلك في {لئن أشركت ليحبطنّ عملك} لاستحالة الشرك عليه فلا عذر لهم في هذه الآية لجواز النسيان عليه.
والقوم الظالمون هم الذين يخوضون في آيات الله، فهذا من الإظهار في مقام الإضمار لزيادة فائدة وصفهم بالظلم، فيعلم أنّ خوضهم في آيات الله ظلم، فيعلم أنَّه خوض إنكار للحقّ ومكابرة للمشاهدة.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
ولأجل بيان بعض مرامي النص نتكلم في النواحي الآتية: الأولى: أن التأكيد إنما هو في النسيان، وأن السبب هو الشيطان. وإذا كان الشيطان هو السبب في الوسوسة التي أدت إلى ذلك النسيان فإنه يجب التوقي منه ومحاربته وعدم الأخذ بما يدعو إليه، والتوبة والإقلاع عما دعا. الثانية: أن النهي جاء بعد التذكر، فلا نهى في حال النسيان، لأنه رفع عن الامة الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، وقال سبحانه: (فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين)، عبر سبحانه وتعالى عن الذكر بالذكرى ومعنى الذكرى كثرة الذكر، والتحري له والحرص عليه، وذلك فيه إيماء إلى وجوب التحرز من النسيان ما أمكن، حتى لا يزداد الداعي تعبا، ويزداد لجاجة، فلا دعوة إلى الحق مع الإعراض عنه واللجاجة في الإعراض.