الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَإِذَا رَأَيۡتَ ٱلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِيٓ ءَايَٰتِنَا فَأَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيۡرِهِۦۚ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ ٱلشَّيۡطَٰنُ فَلَا تَقۡعُدۡ بَعۡدَ ٱلذِّكۡرَىٰ مَعَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (68)

قوله تعالى : { وَإِذَا رَأَيْتَ } : " إذا " منصوب بجوابها وهو " فأعرضْ " أي : أعرضْ عنهم في هذا الوقت ، و " رأيت " هنا تحتمل أن تكون البَصرية وهو الظاهر ولذلك تعدَّت لواحد . قال الشيخ : " ولا بد من تقدير حالٍ محذوفة أي : رأيت الذين يخوضون في آياتنا وهم خائضون فيها ، أي : وإذا رأيتم ملتبسين بالخوض فيها " انتهى . قلت : ولا حاجةَ إلى ذلك لأنَّ قوله " يخوضون " مضارع والراجح حاليَّتُه ، وأيضاً فإن " الذين يخوضون " في قوة الخائضين ، واسم الفاعل حقيقةٌ في الحال بلا خلاف ، فيُحمل هذا على حقيقته ، فيُستغنى عن حذف هذه الحال التي قَدَّرها وهي حال مؤكدة . ويحتمل أن تكون عِلْميَّة ، وضعَّفه الشيخ بأنه يلزم منه ح‍َذْفُ المفعول الثاني ، وحذفه : إمَّا اقتصارٌ وإمَّا اختصار ، فإن كان الأول فممنوعٌ انفاقاً ، وإن كان الثاني فالصحيح المنع حتى منع ذلك بعض النحويين .

قوله : { غَيْرِهِ } الهاء فيها وجهان ، أحدهما : أنه تعود على الآيات ، وعاد مفرداً مذكراً ؛ لأن الآيات في معنى الحديث والقرآن . وقيل : إنها تعود على الخوض أي : المدلول عليه بالفعل كقوله :

إذا نُهِي السَّفيهُ جرى إليه *** وخالف والسفيهُ إلى خلافِ

أي : جرى إلى السَّفه ، دل عليه الصفة كما دل الفعل على مصدره أي : حتى يخوضوا في حديث غيرِ الخوض .

قوله : { يُنسِيَنَّكَ } قراءة العامة : " يُنْسِيَنَّك " بتخفيف السين من " أنساه " كقوله : { وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ } [ الكهف : 63 ] { فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ }

[ يوسف : 42 ] . وقرأ ابن عامر بتشديدها مِنْ " نَسَّاه " والتعدّي جاء في هذا الفعلِ بالهمزة مرةً وبالتضعيف أخرى كما تقدم في أنجى ونجَّى ، وأمهل ومهَّل . والمفعول الثاني محذوف في القراءتين ، تقديره : وإمَّا يُنْسِيَنَّك الشيطان الذكرَ أو الحق . والأحسنُ أن تقدِّر ما يليق بالمعنى أي : وإمَّا يُنْسِيَنَّك الشيطان ما أُمِرْت به من تَرْك مجالسه الخائضين بعد تذكيرك فلا تقعد بعد ذلك معهم ، وإنما أبرازهم ظاهرين تسجيلاً عليهم بصفة الظلم ، وجاء الشرط الأول ب " إذا " لأنَّ خوضهم في الآيات محقق ، وفي الشرط الثاني ب " إنْ " لأنَّ إنساءَ الشيطان له ليس أمراً محققاً بل قد يقع وقد لا يقع وهو معصومٌ منه .

ولم يَجِيءْ مصدرٌ على فِعْلى غيرُ " ذكرى " وقال ابن عطية : " وإمَّا " شرط ، ويلزمُها في الأغلب النون الثقيلة ، وقد لا تلزم ، كقوله :

إمَّا يُصيبْكَ عدوٌّ في مُنَاوَأَةٍ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وهذا الذي ذكره مِنْ لزوم التوكيد هو مذهب الزجاج ، والناس على خلافه وأنشدوا ما أنشده ابن عطية وأبياتاً أُخَرَ ذكرتها في " شرح التسهيل " كقوله :

إمَّا تَرَيْني اليومَ أمَّ حَمْزِ

على أني قد ضممت كثيراً من أطراف هذه المسألة في أوائل البقرة ، إلا أن أحداً لم يقل يلزم توكيده بالثقيلة دون الخفيفة ، وإن كان ظاهر عبارة أبي محمد ذلك .