فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَإِذَا رَأَيۡتَ ٱلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِيٓ ءَايَٰتِنَا فَأَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيۡرِهِۦۚ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ ٱلشَّيۡطَٰنُ فَلَا تَقۡعُدۡ بَعۡدَ ٱلذِّكۡرَىٰ مَعَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (68)

{ وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا } الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أو لكل من يصلح له ، والخوض أصله في اللغة هو الشروع في الماء والعبور فيه ثم استعمل في غمرات الأشياء التي هي مجاهل شبهها بغمرات الماء فاستعير من المحسوس للمعقول ، وقيل هو مأخوذ من الخلط وكل شيء خضته فقد خلطته ، ومنه خاض الماء بالعسل خلطه والمعنى وإذا رأيت الذين يخوضون في القرآن بالتكذيب والرد والاستهزاء .

{ فأعرض عنهم } أي فدعهم ولا تقعد معهم بسماع مثل هذا المنكر العظيم { حتى يخوضوا في حديث غيره } أي مغاير له ، الضمير للآيات والتذكير باعتبار كونها قرآنا أو باعتبار كونها حديثا فإن وصف الحديث بمغايرتها يشير إلى اعتبارها بعنوان الحديثية ، أمره الله سبحناه بالإعراض عن أهل المجالس التي يستهان فيها بآيات الله إلى غاية هي الخوض في غير ذلك .

وفي هذه الآية موعظة عظيمة لمن يتسمح بمجالسة المبتدعة الذين يحرفون كلام الله ويتلاعبون بكتابه وسنة رسوله ، ويردون ذلك إلى أهوائهم المضلة وتقليداتهم الفاسدة وبدعهم الكاسدة ، فإنه إذا لم ينكر عليهم ويغير ما هم فيه فأقل الأحوال أن يترك مجالستهم وذلك يسير عليه غير عسير ، وقد يجعلون حضوره معهم مع تنزهه عما يتلبسون به شبهة يشتبهون بها على العامة فيكون في حضوره مفسدة زائدة على مجرد سماع المنكر .

وقد شاهدنا من هذه المجالس الملعونة ما لا يأتي عليه الحصر ، وقمنا في نصرة الحق ودفع الباطل بما قدرنا عليه وبلغت إليه طاقتنا ، ومن عرف هذه الشريعة المطهرة حق معرفتها علم أن مجالسة أهل البدع المضلة فيها من المفسدة أضعاف أضعاف ما في مجالسة من يعصي الله بفعل شيء من المحرمات ، ولاسيما لمن كان غير راسخ القدم في علم الكتاب والسنة ، فإنه ربما ينفق عليه من كذباتهم وهذيانهم ما هو من البطلان بأوضح مكان ، فينقدح في قلبه ما يصعب علاجه ويعسر دفعه فيعمل بذلك مدة عمره ويلقى الله به معتقدا أنه من الحق وهو من أبطل الباطل وأنكر المنكر .

قال ابن عباس : أمر الله المؤمنين بالجماعة ونهاهم عن الاختلاف والفرقة وأخبرهم إنما أهلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله ، وعن أبي جعفر قال : لا تجالسوا أهل الخصومات فإنهم الذين يخوضون في آيات الله ، وعن محمد بن علي قال : إن أصحاب الأهواء من الذين يخوضون في آيات الله .

وقال مقاتل : كان المشركون بمكة إذا سمعوا القرآن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خاضوا واستهزؤوا فقال المسلمون : لا يصلح لنا مجالستهم ، نخاف أن نخرج حين نسمع قولهم ونجالسهم فأنزل الله هذه الآية ، وقال السدي : إن هذه الآية منسوخة بآية السيف ولا يصح .

{ وإما ينسينك الشيطان } فقعدت معهم { فلا تقعد بعد الذكرى } أي إذا ذكرت فقم عنهم ولا تقعد { مع القوم الظالمين } أي المشركين ، وفيه وضع الظاهر موضع المضمر نعيا عليهم أنهم بذلك الخوض واضعون للتكذيب والاستهزاء موضع التصديق والتعظيم راسخون في ذلك .

قال مجاهد : نهى محمد صلى الله عليه وسلم أن يقعد معهم إلا أن ينسى فإذا ذكر فليقم وذلك قول الله يعني هذه الآية ، وعن ابن سيرين : أنه كان يرى أن هذه الآية نزلت في أهل الأهواء .

وقرئ بتشديد السين والمعنى إن أنساك الشيطان أن تقوم عنهم فلا تقعد إذا ذكرت مع الذين ظلموا أنفسهم بالاستهزاء بالآيات والتكذيب بها ، قيل وهذا الخطاب وإن كان ظاهره للنبي صلى الله عليه وسلم فالمراد التعريض لأمته لتنزهه عن أن ينسيه الشيطان ، وقيل لا وجه لهذا فالنسيان جائز عليه كما نطقت بذلك الأحاديث الصحيحة إنما أنا بشر أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني ، ونحو ذلك .