محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَإِذَا رَأَيۡتَ ٱلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِيٓ ءَايَٰتِنَا فَأَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيۡرِهِۦۚ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ ٱلشَّيۡطَٰنُ فَلَا تَقۡعُدۡ بَعۡدَ ٱلذِّكۡرَىٰ مَعَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (68)

[ 68 ] { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ( 68 ) } .

{ وإذا رأيت الذين يخوضون } أي : بالطعن والاستهزاء ، { في آياتنا } أي : المنسوبة إلى مقام عظمتنا ، التي حقها أن تعظم بما يناسب عظمتنا . والموصول كناية عن مشركي مكة ، فقد كان ديدنهم ذلك ، { فأعرض عنهم } أي فلا تجالسهم ، وقم عنهم ، { حتى يخوضوا في حديث غيره } أي : حتى يأخذوا في كلام آخر ، غير ما كانوا فيه من الخوض في آياتنا . / و { إما ينسينك الشيطان } بأن يشغلك فتنسى النهي عن مجالستهم ، { فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين } أي : ينسينك الشيطان ، فجلست معهم ، فلا تؤاخذ به ، لكن إذا ذكرت النهي ، فلا تقعد معهم ، لأنهم ظالمون بالطعن في الكلام المعجز ، عنادا .

وفي الحديث{[3506]} : " إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه " – رواه الطبراني عن ثوبان مرفوعا . وإسناده صحيح- وهذه الآية هي المشار إليها في قوله تعالى : { وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم . . . } {[3507]} الآية ، لأن في حضور المنكر مع إمكان التباعد عنه ، مشاركة لصاحبه .

فوائد :

قال السيوطي في ( الإكليل ) : في هذه الآية وجوب اجتناب مجالس الملحدين ، وأهل اللغو ، ويستدل بها على أن الناسي غير مكلف ، وأنه إذا ذكر عاد إليه التكليف ، فيعفى عما ارتكبه في حال نسيانه . ويندرج تحت ذلك مسائل كثيرة في العبادات والتعليقات . انتهى .

وقال الرازي : ومن الحشوية من استدل بهذه الآية في النهي عن الاستدلال والمناظرة في ذات الله تعالى وصفاته . قال : لأن ذلك خوض في آيات الله ، والخوض في آيات الله حرام بدليل هذه الآية .

والجواب عنه : أن المراد من الخوض في الآية ، الشروع في الطعن والاستهزاء . فسقط هذا الاستدلال- والله أعلم- .

/ وقال بعض مفسري الزيدية ، ثمرة الآية أحكام :

الأول- وجوب الإعراض عن مجالس المستهزئين بآيات الله أو بحججه أو برسله ، وأن لا يقعد معهم ، لأن في القعود إظهار عدم الكراهية ، وذلك لأن التكليف عام لنا ، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم . وإنما يجب الإعراض ، وترك الجلوس معهم ، إذا لم يطمع في قبولهم ، فإذا انقطع طمعه إذا ، فلا فائدة في دعائهم . ويجب القيام عن مجالسهم إذا عرف أن قيامه يكون سببا في ترك الخوض ، وأنهم إنما يفعلونه مغايظة للواقف ، إذا كان وقوفه يوهم عدم الكارهة .

الحكم الثاني- جواز مجالسة الكفار ، مع عدم الخوض ، لأنه إنما أمرنا بالإعراض مع الخوض . وأيضا فقد قال تعالى : { حتى يخوضوا في حديث غيره } قال الحاكم : والآية تدل أيضا على المنع من مجالسة الظلمة والفسقة ، إذا أظهروا المنكرات . وتدل على إباحة الدخول عليهم لغرض ، كما يباح للتذكير . وفي الآية أيضا دلالة على وجوب الإنكار ، لأن الإعراض إنكار . قال : وتدل على ان التقية من الأنبياء والأئمة بإظهارهم المنكر لا تجوز ، خلاف الإمامية ، وتدل على جواز النسيان على الأنبياء .

الحكم الثالث- أن الناسي مرفوع عنه الحرج . فإن قيل : النسيان فعل الله ، فلم أضيف إلى الشيطان ؟ أجيب : بأن السبب من الشيطان ، وهو الوسوسة والإعراض عن الذكر ، فأضيف إليه لذلك . كما أن من ألقى غيره في النار فمات ، يقال : إنه القاتل ، وإن كان الإحراق فعل الله . واختلف في النسيان ما هو ؟ فقال الحاكم : هو : معنى يحدثه الله في القلب . وقال أبو هاشم وأصحابه : ليس بمعنى ، وإنما هو زوال العلم الضروري الذي جرت العادة بحصوله . انتهى .


[3506]:- أخرجه ابن ماجة في: 11- كتاب الطلاق، 16- باب طلاق المكره والناسي، حديث رقم 2045 (طبعتنا) عن ابن عباس.
[3507]:- [4/ النساء/ 140] {... إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا (140)}.