اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِذَا رَأَيۡتَ ٱلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِيٓ ءَايَٰتِنَا فَأَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيۡرِهِۦۚ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ ٱلشَّيۡطَٰنُ فَلَا تَقۡعُدۡ بَعۡدَ ٱلذِّكۡرَىٰ مَعَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (68)

قال تعالى في الآية الأولى { وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ } فتبيَّنَ به أنه لا يجب على الرَّسُول ملازمة المكذِّبين بهذا الدِّين .

وبيَّن في هذه الآية أن أولئك المكذِّبين إن ضَمُّوا إلى كُفْرِهِمْ وتكذيبهم الاسْتِهْزَاءَ بالدَّين والطَّعْن في الرسول ، فإنه يجب الإعراض عنهم ، وترك مُجَالَسَتِهِم .

قوله : { وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ } فقيل : الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره .

وقيل : الخطاب لغيره ، أي : إذا رأيت أيها السَّامِعُ الذين يخوضون في آياتنا .

نقل الواحديُّ{[14169]} أنَّ المشركين كانوا إذا جالَسُوا المؤمنين وَقَعُوا في رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن فَشَتَمُوا واستهزءوا فأمرهم ألاَّ يقعدوا معهم حتى يَخُوضُوا في حديث غيره .

والخَوْضُ في اللغة عبارة عن المُفاوضةِ على وجه اللَّعبِ والعبثِ .

قال تعالى حكاية عن الكفار : { وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الُخَائِضِينَ }

[ المدثر :45 ] وإذا قال الرجل : تركت القوم يَخُوضُونَ أفاد أنهم شَرَعُوا في كَلِمَاتٍ لا ينبغي ذِكْرُهَا .

قوله : " إذَا " منصوب بجوابها ، وهو " فأعْرِضْ " ؛ أي : فأعرض عنهم في هذا الوَقْتِ و " رأيت " هنا تحتمل أن تكون البصريَّة ، وهو الظاهر ، ولذلك تعدَّت لواحد .

قال أبو حيَّان{[14170]} : " ولابُدَّ من تقدير حالٍ مَحْذُوفَةٍ ، أي : وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا ، وهو خائضون فيها ، أي : وإذا رأيتهم مُلْتَبِسينَ بالخَوْضِ فيها " . انتهى .

قال شهاب الدِّين{[14171]} : ولا حَاجَةَ إلى ذلك ؛ لأن قوله : " يَخُوضُونَ " مُضارع ، والراجح حَاليَّتُهُ وأيضاً فإن " الذينَ يَخُوضُونَ " في قُوَّةِ الخائضين ، واسم الفاعل حَقيقَةٌ في الحال بلا خلاف ، فيحمل هذا على حقيقته ، فيُسْتَغْنَى عن حذف هذه الحال التي قدَّرها وهي حال مؤكدة .

ويحتمل أن تكون علمية ، وضعَّفَهُ أبو حيان{[14172]} بأنه يَلْزَمُ منه حذف المفعول الثاني ، وحذفه إما اقْتِصَارٌ ، وإما اختِصَارٌ ، فإن كان الأوَّل : فممنوع اتفاقاً وإن كان الثاني : فالصحيح المَنْعُ حتى منع ذلك بعض النحويين .

قوله : " غَيْرِهِ " " الهاء " فيها وجهان :

أحدهما : أنها تعود على الآياتِ ، وعاد مفرداً مذكراً ؛ لأن الآيات في معنى الحديثِ والقرآن .

وقيل : إنها تعود على الخَوْضِ ، أي : المدلول عليه بالفِعْلِ كقوله : [ الوافر ]

إذَا نُهِيَ السَّفِيهُ جَرَى إلَيْهِ *** وخَالَفَ والسَّفِيهُ إلى خلافِ{[14173]}

أي : جرى إلى السَّفَهِ ، دَلَّ عليه الصِّفَةُ كما دَلَّ الفعل على مصدره ؛ أي : حتى يخوضوا في حديث غير الخَوْضِ .

وقوله : " وإمَّا يُنْسِيَنَّكَ " قراءة{[14174]} العامّة " يُنْسِيَنَّكَ " بتخفيف السِّين من " أنْسَاهُ " كقوله : { وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ } [ الكهف :63 ]

{ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ } [ يوسف :42 ] .

وقرأ ابن عامر{[14175]} : بتشديدها من " نسَّاهُ " ، والتعدِّي جاء في هذا الفعل بالهمزة مرة ، وبالتضعيف أخرى ، كما تقدم في " أنْجَى " و " نَجَّى " و " أمْهَل " و " مَهَّلَ " .

والمفعول الثاني محذوف في القراءتين ؛ تقديره : وإما يُنْسِيَنَّك الشَّيْطانُ الذِّكرَ أو الحقَّ .

والأحسن أن يقدر ما يليق بالمعنى ، أي : وإما ينسينك الشيطان ما أمرت به من ترك مُجَالَسَةِ الخائضين بعد تذكيرك ، فلا تقعدْ بعد ذلك معهم ، وإنما أبرزهم ظاهرين تسجيلاً عليهم بصفة الظُّلْم ، وجاء الشرط الأول ب " إذا " ؛ لأن خَوْضَهُمْ في الآيات مُحَقَّقٌ ، وفي الشرط الثاني ب " إن " لأن إنْسَاءَ الشيطان له ليس أمراً مُحَقَّقاً ، بل قد يقع وقد لا يقع ، وهو مَعْصُومٌ منه .

ولم يجئ مصدر على " فِعْلَى " غير " ذِكْرَى " .

وقال ابن عطيَّة{[14176]} : " وإمَّا " شرط ، ويلزمها في الأغلب النون الثقيلة ، وقد لا تلزم كقوله : [ البسيط ]

إمَّا يُصِبْكَ عَدُوُّ في مُنَاوَأةٍ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[14177]}

وهذا الذي ذكره من لُزُوم التوكيد هو مذهب الزَّجَّاجِ ، والنَّاسُ على خلافه ، وأنشدوا ما أنشده ابن عطية وأبياتاً أُخَرَ منها : [ الرجز ]

إمَّا تَرَيْنِي اليَوْمَ أمَّ حَمْزِ{[14178]} *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقد تقدَّم طرفٌ من هذه المسألة أوَّل البقرة ، إلا أن أحداً لم يَقُلْ : يلزم توكيده بالثقيلة دون الخفيفة ، وإن كان ظاهر كلام ابن عطية ذلك .


[14169]:ينظر: الرازي 13/21.
[14170]:ينظر: البحر المحيط 4/157.
[14171]:ينظر: الدر المصون 3/87.
[14172]:ينظر: البحر المحيط 4/157.
[14173]:تقدم.
[14174]:ينظر: الدر المصون 3/88، البحر المحيط 4/157 ـ 158.
[14175]:ينظر: الدر المصون 3/88، البحر المحيط 4/157.
[14176]:ينظر: المحرر الوجيز 2/304.
[14177]:صدر بيت وعجزه: يوما فقد كنت تستعلي وتنتصر *** ........................ ينظر: القرطبي 7/11، فتح القدير 2/122، الدر المصون 3/88.
[14178]:تقدم.