الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَإِذَا رَأَيۡتَ ٱلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِيٓ ءَايَٰتِنَا فَأَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيۡرِهِۦۚ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ ٱلشَّيۡطَٰنُ فَلَا تَقۡعُدۡ بَعۡدَ ٱلذِّكۡرَىٰ مَعَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (68)

فيه مسألتان :

الأولى - قوله تعالى : " وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا " بالتكذيب والرد والاستهزاء " فأعرض عنهم " والخطاب مجرد للنبي صلى الله عليه وسلم . وقيل : إن المؤمنين داخلون في الخطاب معه . وهو صحيح ، فإن العلة سماع الخوض في آيات الله ، وذلك يشملهم وإياه . وقيل : المراد به النبي صلى الله عليه وسلم وحد ؛ لأن قيامه عن المشركين كان يشق{[6451]} عليهم ، ولم يكن المؤمنون عندهم كذلك ، فأمر أن ينابذهم بالقيام عنهم إذا استهزؤوا وخاضوا ليتأدبوا بذلك ويدعوا الخوض والاستهزاء . والخوض أصله في الماء ، ثم استعمل بعد في غمرات الأشياء التي هي مجاهل ، تشبيها بغمرات الماء فاستعير من المحسوس للمعقول . وقيل : هو مأخوذ من الخلط . وكل شيء خضته فقد خلطته ، ومنه خاض الماء بالعسل خلط . فأدب الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم{[6452]} بهذه الآية ؛ لأنه{[6453]} كان يقعد إلى قوم من المشركين يعظهم ويدعوهم فيستهزؤون بالقرآن ، فأمره الله أن يعرض عنهم إعراض منكر . ودل بهذا على أن الرجل إذا علم من الآخر منكرا وعلم أنه لا يقبل منه فعليه أن يعرض عنه إعراض منكر ولا يقبل عليه . وروى شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله : " وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا " قال : هم الذين يستهزؤون بكتاب الله ، نهاه الله عن أن يجلس معهم إلا أن ينسى فإذا ذكر قام . وروى ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : هم الذين يقولون في القرآن غير الحق .

الثانية - في هذه الآية رد من كتاب الله عز وجل على من زعم أن الأئمة الذين هم حجج وأتباعهم لهم أن يخالطوا الفاسقين ويصوبوا آراءهم تقية{[6454]} . وذكر الطبري عن أبي جعفر محمد بن علي رضي الله عنه{[6455]} أنه قال : لا تجالسوا أهل الخصومات ، فإنهم الذين يخوضون في آيات الله . قال ابن العربي : وهذا دليل على أن مجالسة أهل الكبائر لا تحل . قال ابن خويز منداد : من خاض في آيات الله تركت مجالسته وهجر ، مؤمنا كان أو كافرا . قال : وكذلك منع أصحابنا الدخول إلى أرض العدو ودخول كنائسهم والبيع ، ومجالس الكفار وأهل البدع ، وألا تعتقد مودتهم ولا يسمع كلامهم لا مناظرتهم . وقد قال بعض أهل البدع لأبي عمران النخعي : اسمع مني كلمة ، فأعرض عنه وقال : ولا نصف كلمة . ومثله عن أيوب السختياني . وقال الفضيل بن عياض : من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله وأخرج نور الإسلام من قلبه ، ومن زوج كريمته من مبتدع فقد قطع رحمها ، ومن جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة ، وإذا علم الله عز وجل من رجل أنه مبغض لصاحب بدعة رجوت أن يغفر الله له . وروى أبو عبدالله الحاكم عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام ) . فبطل بهذا كله قول من زعم أن مجالستهم جائزة إذا صانوا أسماعهم .

قوله تعالى : { وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين } . فيه مسألتان :

الأولى - قوله تعالى : " وإما ينسينك " " إما " شرط ، فيلزمها النون الثقيلة في الأغلب وقد لا تلزم ، كما قال :

إما يصبك عدو في مُنَاوَأة *** يوما فقد كنت تَسْتَعْلِي وتنتصرُ

وقرأ ابن عباس{[6456]} وابن عامر " ينسينك " بتشديد السين على التكثير ، يقال : نسَّى وأنْسَى بمعنى واحد لغتان{[6457]} ، قال الشاعر :

قالت سليمى أتسري اليوم أم تقِلِ *** وقد ينسيك بعض الحاجة الكسل{[6458]}

وقال امرؤ القيس :

تُنَسِّنِّي إذا قمت سِرْبَالِي{[6459]}

المعنى : يا محمد إن أنساك الشيطان أن تقوم عنهم فجالستهم بعد النهي . " فلا تقعد بعد الذكرى " أي إذا ذكرت فلا تقعد " مع القوم الظالمين يعني المشركين . والذكرى اسم للتذكير .

الثانية - قيل : هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته ، ذهبوا إلى تبرئته عليه السلام من النسيان . وقيل : هو خاص به ، والنسيان جائز عليه . قال ابن العربي : وإن عذرنا أصحابنا في قولهم إن{[6460]} قوله تعالى : " لئن أشركت ليحبطن عملك{[6461]} " [ الزمر : 65 ] خطاب للأمة باسم النبي صلى الله عليه وسلم لاستحالة الشرك عليه ، فلا عذر لهم في هذا لجواز النسيان عليه . قال عليه السلام ؛ ( نسي آدم فنسيت ذريته ) خرجه الترمذي وصححه . وقال مخبرا عن نفسه : ( إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني ) . خرجه في الصحيح ، فأضاف النسيان إليه . وقال وقد سمع قراءة رجل : ( لقد أذكرني آية كذا وكذا كنت أنسيتها ) . واختلفوا بعد جواز النسيان عليه ، هل يكون فيما طريقه البلاغ من الأفعال وأحكام الشرع أم لا . ؟ فذهب إلى الأول فيما ذكره القاضي عياض عامة العلماء والأئمة النظار ، كما هو ظاهر القرآن والأحاديث ، لكن شرط الأئمة أن الله تعالى ينبهه على ذلك ولا يقره عليه . ثم اختلفوا هل من شرط التنبيه اتصال بالحادثة على الفور ، وهو مذهب القاضي أبي بكر والأكثر من العلماء ، أو يجوز في ذلك التراخي ما لم ينخرم عمره وينقطع تبليغه ، وإليه نحا أبو المعالي . ومنعت طائفة من العلماء السهو عليه في الأفعال البلاغية والعبادات الشرعية ، كما منعوه اتفاقا في الأقوال البلاغية ، واعتذروا عن الظواهر الواردة في ذلك ، وإليه مال الأستاذ أبو إسحاق . وشذت الباطنية وطائفة من أرباب علم القلوب فقالوا : لا يجوز النسيان عليه ، وإنما ينسى قصدا ويتعمد صورة النسيان ليسن . ونحا إلى هذا عظيم من أئمة التحقيق وهو أبو المظفر الإسفراييني في كتابه ( الأوسط ) وهو منحى غير سديد ، وجمع الضد مع الضد مستحيل بعيد .


[6451]:في ك: أشق.
[6452]:من ك و ز.
[6453]:من ك.
[6454]:التقية والتقاة بمعنى واحد. يريد أنهم يتقون بعضهم بعضا ويظهرون الصلح والاتفاق، وباطنهم بخلاف ذلك.
[6455]:من ك، ع، ز.
[6456]:في ابن عطية: قرأ ابن عامر وحده. الخ وفي ك: قرأ ابن عياش وابن عامر وابن عمر.
[6457]:في ابن عطية: قرأ ابن عامر وحده. الخ وفي ك: قرأ ابن عياش وابن عامر وابن عمر.
[6458]:الشاهد في "ينسيك" بالشد مع عدم النون الشديدة إلا أنه بدون إما.
[6459]:والبيت بتمامه كما في اللسان: ومثلك بيضاء العوارض طفلة *** لعوب تنسي إذا قمت سربالي ورواية اللسان "تناسائي" بدل "تنسيني".
[6460]:الزيادة من ابن العربي.
[6461]:راجع ج 15 ص 276.