القول في تأويل قوله تعالى { وَيَزِيدُ اللّهُ الّذِينَ اهْتَدَواْ هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مّرَدّاً } .
يقول تعالى ذكره : ويزيد الله من سلك قصد المحجة ، واهتدى لسبيل الرشد ، فآمن بربه ، وصدّق بآياته ، فعمل بما أمره به ، وانتهى عما نهاه عنه هدى بما يتجدّد له من الإيمان بالفرائض التي يفرضها عليه . ويقرّ بلزوم فرضها إياه ، ويعمل بها ، فذلك زيادة من الله في اهتدائه بآياته هدى على هداه ، وذلك نظير قوله : وإذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أيّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إيمانا فأمّا الّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيمَانا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ . وقد كان بعضهم يتأوّل ذلك : ويزيد الله الذين اهتدوا هُدىً بناسخ القرآن ومنسوخه ، فيؤمن بالناسخ ، كما آمن من قبل بالمنسوخ ، فذلك زيادة هدىً من الله له على هُداه من قبل وَالباقِياتُ الصّالحات خَيْرٌ عِنْدَ رَبّكَ ثَوَابا يقول تعالى ذكره : والأعمال التي أمر الله بها عباده ورضيها منهم . الباقيات لهم غير الفانيات الصالحات ، خير عند ربك جزاء لأهلها وَخَيْرٌ مَرَدّا عليهم من مقامات هؤلاء المشركين بالله ، وأنديتهم التي يفتخرون بها على أهل الإيمان في الدنيا .
وقد بيّنا معنى الباقيات الصالحات ، وذكرنا اختلاف المختلفين في ذلك ، ودللنا على الصواب من القول فيه فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا عمر بن راشد ، عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ، قال : جلس النبيّ صلى الله عليه وسلم ذات يوم ، فأخذ عودا يابسا ، فحطّ ورقه ثم قال : «إنّ قَوْلَ لا إلهَ إلاّ اللّهُ ، وَاللّهُ أكْبَرُ ، والحَمْدُ لِلّهِ وَسُبْحانَ اللّهِ ، تَحطّ الخَطايا ، كمَا تَحُطّ وَرَقَ هَذِهِ الشّجَرَةِ الرّيحُ ، خُذْهُنّ يا أبا الدّرْدَاءِ قَبْلَ أنْ يُحالَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُنّ ، هُنّ الباقِياتُ الصّالِحاتُ ، وَهُنّ مِنْ كُنُوزِ الجَنّةِ » ، قال أبو سلمة : فكان أبو الدرداء إذا ذكر هذا الحديث قال : لأهللنّ الله ، ولأكبرنّ الله ، ولأسبحنّ الله ، حتى إذا رآني الجاهل حسب أني مجنون .
{ ويزيد الله الذين اهتدوا هدى } عطف على الشرطية المحكية بعد القول كأنه لما بين أن إمهال الكافر وتمتيعه بالحياة الدنيا ليس لفضله ، أراد أن يبين أن قصور حظ المؤمن منها ليس لنقصه بل لأن الله عز وجل أراد به ما هو خير له وعوضه منه ، وقيل عطف على فليمدد لأنه في معنى الخبر كأنه قيل من كان في الضلالة يزيد الله الله في ضلاله ويزيد المقابل له هداية { والباقيات الصالحات } الطاعات التي تبقى عائدتها أبد الآباد ، ويدخل فيها ما قيل من الصلوات الخمس وقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر . { خير عند ربك ثوابا } عائدة مما متع به الكفرة من النعم المخدجة الفانية التي يفتخرون بها سيما ومآلها النعيم المقيم ومآل هذه الحسرة والعذاب الدائم كما أشار إليه بقوله : { وخير مردا } والخير ها هنا إما لمجرد الزيادة أو على طريقة قولهم الصيف أحر من الشتاء ، أي أبلغ في حره منه في برده .
ولما ذكر ضلالة الكفرة وارتباكهم في الافتخار بنعم الدنيا وعماهم عن الطريق المستقيم عقب ذلك بذكر نعمته على المؤمنين في أنهم يزيدهم { هدى } في الارتباط إلى الأعمال الصالحة والمعرفة بالدلائل الواضحة وزيادة العلم دأباً .
قال الطبري عن بعضهم المعنى بناسخ القرآن ومنسوخه ع : وهذا مثال .
وقوله { والباقيات الصالحات } إشارة الى ذلك الهدى الذي يزيدهم الله تعالى أي وهذه النعم على هؤلاء { خير } عند الله { ثواباً } وخير مرجعاً . والقول في زيادة الهدى سهل بين الوجوه{[8027]} ، وأما { الباقيات الصالحات } فقال بعض العلماء هو كل عمل صالح يرفع الله به درجة عامله ، وقال الحسن هي «الفرائض » ، وقال ابن عباس هي «الصلوات الخمس » وروي عن النبي عليه السلام «أنها الكلمات المشهورات سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر » وقد قال رسول الله عليه السلام لأبي الدرداء «خذهن يا أبا الدرداء ، قبل أن يحال بينك وبينهن فهن الباقيات الصالحات وهن من كنوز الجنة »{[8028]} وروي عنه عليه السلام أنه قال يوماً «خذوا جنتكم ، قالوا يا رسول الله أمن عدو حضر قال : من النار ، قالوا ما هي يا رسول الله ، قال : سبحان الله ، ولا إله الا الله ، والله أكبر ، وهن الباقيات الصالحات »{[8029]} وكان أبو الدرداء يقول إذا ذكر هذا الحديث : لأهللن ، ولأكبرن الله ، ولأسبحنه حتى إذا رآني الجاهل ظنني مجنوناً .