مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَيَزِيدُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ٱهۡتَدَوۡاْ هُدٗىۗ وَٱلۡبَٰقِيَٰتُ ٱلصَّـٰلِحَٰتُ خَيۡرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابٗا وَخَيۡرٞ مَّرَدًّا} (76)

واعلم أنه تعالى بين بعد ذلك أنه كما يعامل الكفار بما ذكره فكذلك يزيد المؤمنين المهتدين هدى ، واعلم أنا نبين إمكان ذلك بحسب العقل ، فنقول : إنه لا يبعد أن يكون بعض أنواع الاهتداء مشروطا بالبعض فإن حاصل الاهتداء يرجع إلى العلم ولا امتناع في كون بعض العلم مشروطا بالبعض ، فمن اهتدى بالهداية التي هي الشرط صار بحيث لا يمتنع أن يعطي الهداية التي هي المشروط ، فصح قوله : { ويزيد الله الذين اهتدوا هدى } مثاله الإيمان هدى والإخلاص في الإيمان زيادة هدى ولا يمكن تحصيل الإخلاص إلا بعد تحصيل الإيمان فمن اهتدى بالإيمان زاده الله الهداية بالإخلاص ، هذا إذا أجرينا لفظ الهداية على ظاهره ومن الناس من حمل الزيادة في الهدى على الثواب أي ويزيد الله الذين اهتدوا ثوابا على ذلك الاهتداء ومنهم من فسر هذه الزيادة بالعبادات المترتبة على الإيمان ، قال صاحب «الكشاف » : يزيد معطوف على موضع فليمدد لأنه واقع موقع الخبر وتقديره من كان في الضلالة يمد له الرحمن مدا ويزيد أي يزيد في ضلال الضلال بخذلانه بذلك المد ويزيد المهتدين هداية بتوفيقه ، ثم إنه تعالى بين أن ما عليه المهتدون هو الذي ينفع في العاقبة فقال : { والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا } وذلك لأن ما عليه المهتدون ضرر قليل متناه يعقبه نفع عظيم غير متناه ، والذي عليه الضالون نفع قليل متناه يعقبه ضرر عظيم غير متناه ، وكل أحد يعلم بالضرورة أن الأول أولى ، وبهذا الطريق تسقط الشبهة التي عولوا عليها واختلفوا في المراد بالباقيات الصالحات فقال المحققون إنها الإيمان والأعمال الصالحة سماها باقية لأن نفعها يدوم ولا يبطل ومنهم من قال المراد بها بعض العبادات ولعلهم ذكروا ما هو أعظم ثوابا فبعضهم ذكر الصلوات وبعضهم ذكر التسبيح وروي عن أبي الدرداء قال :

« جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وأخذ عودا يابسا فأزال الورق عنه ثم قال : إن قول لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله يحط الخطايا حطا كما يحط ورق هذه الشجرة الريح خذهن يا أبا الدرداء قبل أن يحال بينك وبينهن هن الباقيات الصالحات وهن من كنوز الجنة ، وكان أبو الدرداء يقول : لأعلمن ذلك ولأكثرن منه حتى إذا رآني جاهل حسب أني مجنون » . والقول الأول أولى لأنه تعالى إنما وصفها بالباقيات الصالحات من حيث يدوم ثوابها ولا ينقطع فبعض العبادات وإن كان أنقص ثوابا من البعض فهي مشتركة في الدوام فهي بأسرها باقية صالحة نظرا إلى آثارها التي هي الثواب ثم إنه تعالى أخبر أنها : { خير عند ربك ثوابا وخير مردا } ولا يجوز أن يقال : هذا خير إلا والمراد أنه خير من غيره فالمراد إذن أنها خير مما ظنه الكفار بقولهم : { خير مقاما وأحسن نديا } .