قوله تعالى : { يهدي به الله من اتبع رضوانه } . رضاه .
قوله تعالى : { سبل السلام } . قيل السلام هو الله عز وجل ، وسبيله دينه الذي شرع لعباده ، وبعث به رسله ، وقيل : السلام هو السلامة ، كاللذاذ واللذاذة بمعنى واحد ، والمراد به طرق السلامة .
قوله تعالى : { ويخرجهم من الظلمات إلى النور } ، أي : من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان .
ثم ذكر مَنْ الذي يهتدي بهذا القرآن ، وما هو السبب الذي من العبد لحصول ذلك ، فقال : { يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ ْ } أي : يهدي به من اجتهد وحرص على بلوغ مرضاة الله ، وصار قصده حسنا -سبل السلام التي تسلم صاحبها من العذاب ، وتوصله إلى دار السلام ، وهو العلم بالحق والعمل به ، إجمالا وتفصيلا .
{ وَيُخْرِجُهُم مِّن ْ } ظلمات الكفر والبدعة والمعصية ، والجهل والغفلة ، إلى نور الإيمان والسنة والطاعة والعلم ، والذكر . وكل هذه الهداية بإذن الله ، الذي ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن . { وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ْ }
{ يهدي به الله } وحد الضمير لأن المراد بهما واحد ، أو لأنهما كواحد في الحكم . { من اتبع رضوانه } من اتبع رضاه بالإيمان منهم . { سبل السلام } طرق السلامة من العذاب ، أو سبل الله . { ويخرجهم من الظلمات إلى النور } من أنواع الكفر إلى الإسلام . { بإذنه } بإرادته أو توفيقه . { ويهديهم إلى صراط مستقيم } طريق هو أقرب الطرق إلى الله سبحانه وتعالى ومؤد إليه لا محالة .
ضمير { به } راجع إلى الرسول أو إلى الكتاب المبين .
وسُبلُ السلام : طرق السلامة الّتي لا خوف على السائر فيها . وللعرب طرق معروفة بالأمن وطرق معروفة بالمخافة ، مثل وادي السباع ، الذي قال فيه سُحيم بن وثيل الرياحي :
ومررتُ على وادي السباع ولا أرى *** كوادِي السباع حين يُظلِم وادِيا
أقَلّ به ركبٌ أتـــــــوهَ تَئِيَّةً *** وأخوفَ إلاّ ما وقى اللّهُ ساريا
فسبيل السلام استعارة لطرق الحقّ . والظلماتُ والنّور استعارة للضلال والهدى . والصراط المستقيم مستعار للإيمان .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يهدي به الله}: بكتاب محمد صلى الله عليه وسلم، {من اتبع رضوانه سبل السلام}: من اتبع دين محمد صلى الله عليه وسلم ودين الإسلام، يهديه الله إلى طريق الجنة، {ويخرجهم من الظلمات إلى النور}: من الشرك إلى الإيمان، {بإذنه}: بعلمه، {ويهديهم إلى صراط مستقيم}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يهدي بهذا الكتاب المبين الذي جاء من الله جلّ جلاله، ويَعْنِي بقوله:"يَهْدِي بِهِ اللّهُ": يرشد به الله ويسدّد به. والهاء في قوله به عائدة على الكتاب. "مَنِ اتّبَعَ رِضْوَانَهُ": من اتبع رضا الله.
واختلف في معنى الرضا من الله جلّ وعزّ؛
فقال بعضهم: الرضا منه بالشيء: القبول له والمدح والثناء. قالوا: فهو قابل الإيمان ومزكّ له، ومثن على المؤمن بالإيمان، وواصف الإيمان بأنه نور وهدًى وفَصْل.
وقال آخرون: معنى الرضا من الله جلّ وعزّ معنى مفهوم، هو خلاف السّخْط، وهو صفة من صفاته على ما يعقل من معاني الرضا، الذي هو خلاف السخط، وليس ذلك بالمدح، لأن المدح والثناء قول، وإنما يثني ويمدح ما قدر رُضِي قالوا: فالرضا معنى، والثناء والمدح معنى ليس به
"سُبُلَ السّلام": طرق السلام، والسلام هو الله عزّ ذكره... عن السديّ: "مَنِ اتّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السّلامِ": سبيل الله الذي شرعه لعباده، ودعاهم إليه، وابتعث به رسله، وهو الإسلام الذي لا يَقبَل من أحد عملاً إلا به، لا اليهودية، ولا النصرانية، ولا المجوسية...
"ويُخْرِجُهُمْ مِنَ الظّلُماتِ إلى النّورِ بإذْنِهِ": يهدي الله بهذا الكتاب المبين من اتبع رضوان الله إلى سبل السلام، وشرائع دينه. "ويُخْرِجُهُمْ "يقول: ويخرج من اتبع رضوانه، والهاء والميم في: ويخرجهم إلى من ذكر من الظلمات إلى النور، يعني: من ظلمات الكفر والشرك إلى نور الإسلام وضيائه "بإذنه": بإذن الله جلّ وعزّ. وإذنه في هذا الموضع: تحبيبه إياه الإيمان برفع طابعَ الكفر عن قلبه، وخاتَم الشرك عنه، وتوفيقه لإبصار سبل السلام
"وَيهْدِيهِمْ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ": ويرشدهم ويسدّدهم إلى طريق مستقيم، وهو دين الله القويم الذي لا اعوجاج فيه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{سبل السلام} سمى سبلا لأن سبيل الله، وإن كان كثيرا في الظاهر فهو في الحقيقة واحد. وسمى سبيل الشيطان سبلا، وقال: {ولا تتبعوا السبل} الآية [الأنعام: 153] لأن سبله متفرقة مختلفة ليست ترجع إلى واحد. وأما سبيل الله، وإن كان سبلا في الظاهر فهي ترجع إلى واحد، وهو الهدى والصراط المستقيم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وفي السلام قولان: احدهما – هو الله في قول الحسن والسدي -والمعنى دين الله. الثاني- قال الزجاج: إنه السلامة من كل مخافة ومضرة إلا ما لا يعتد به، لأنه يؤول إلى نفع في العاقبة.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{اتبع رضوانه} معناه بالتكسب والنية والإقبال عليه، والسبل الطرق...
و {السلام} في هذه الآية يحتمل أن يكون اسماً من أسماء الله تعالى، فالمعنى طرق الله تعالى التي أمر بها عباده وشرعها لهم، ويحتمل أن يكون مصدراً كالسلامة فالمعنى طرق النجاة والسلامة من النار، وقوله تعالى: {ويخرجهم} يعني المتبعين الرضوان، فالضمير على معنى [من] لا على لفظها، و {الظلمات} الكفر، و {النور} الإيمان، وقوله تعالى: {بإذنه} أي يمكنهم من أقوال الإيمان وأفعاله، ويعلم فعلهم لذلك والتزامهم إياه، فهذا هو حد الإذن، العلم بالشيء والتمكين منه، وقد تقدم شرحه في سورة البقرة، والصراط المستقيم هو دين الله وتوحيده وما تركب عليه من شرعه.
{يهدى به الله} أي بالكتاب المبين {من اتبع رضوانه} من كان مطلوبه من طلب الدين اتباع الدين الذي يرتضيه الله تعالى، فأما من كان مطلوبه من دينه تقرير ما ألفه ونشأ عليه وأخذه من أسلافه مع ترك النظر والاستدلال، فمن كان كذلك فهو غير متبع رضوان الله تعالى.
{سبل السلام} أي طرق السلامة، ويجوز أن يكون على حذف المضاف، أي سبل دار السلام...
ثم قال: {ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه} أي من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، وذلك أن الكفر يتحير فيه صاحبه كما يتحير في الظلام، ويهتدي بالإيمان إلى طرق الجنة كما يهتدي بالنور، وقوله {بإذنه} أي بتوفيقه، والباء تتعلق بالإتباع أي اتبع رضوانه بإذنه، ولا يجوز أن تتعلق بالهداية ولا بالإخراج لأنه لا معنى له، فدل ذلك على أنه لا يتبع رضوان الله إلا من أراد الله منه ذلك.
{ويهديهم إلى صراط مستقيم} وهو الدين الحق، لأن الحق واحد لذاته، ومتفق من جميع جهاته، وأما الباطل ففيه كثرة، وكلها معوجة.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
فبين مزية النور والكتاب المبين بضمير المفرد فقال: {يَهْدِي بِهِ} ولم يقل بهما، فكان هذا مرجحا لكون المراد بهما واحدا وهو القرآن. وثم شواهد أخرى تؤيد ما اخترناه غير آيتي النساء، كقوله تعالى في المهتدين من أهل الكتاب في سورة الأعراف بعد ذكر بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليهم {فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157] وكقوله تعالى في سورة التغابن {فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا} [التغابن:8] على أن هذا المعنى لا يتغير إذا قلنا إن النور هنا هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه هو المظهر الأكمل للقرآن ببيانه له وتخلقه به كما قالت عائشة (رض): كان خلقه القرآن، ولا نعدم لذلك شاهدا من آياته فقد وصفه الله تعالى في سورة الأحزاب بقوله: {وسراجا منيرا}.
وليرجع القارئ إلى تفسيرنا لآيتي النساء اللتين ذكرناهما آنفا فقد بينا في تفسيرهما معنى كون القرآن نورا مبينا بما ينفعه في فهم ما هنا.
وقد ذكر الله هنا لهذا النور ثلاث فوائد:
الأولى: أنه يهدي به من اتبع رضوانه سبل السلام، أي أن من اتبع منهم ما يرضيه تعالى بالإيمان بهذا النور يهديه – هداية دلالة تصحبها العناية والإعانة – الطرق التي يسلم بها في الدنيا والآخرة من كل ما يرديه ويشقيه، فيقوم في الدنيا بحقوق الله تعالى وحقوق نفسه الروحية والجسدية وحقوق الناس. فيكون متمتعا بالطيبات مجتنبا للخبائث، تقيا مخلصا مصلحا، ويكون في الآخرة سعيدا منعما، جامعا بين النعيم الحسي الجسدي، والنعيم الروحي العقلي. وخلاصة هذه الفائدة أنه يتبع دينا يجد فيه جميع الطرق الموصلة إلى ما تسلم به النفس من شقاء الدنيا والآخرة، لأنه دين السلام والإخلاص لله ولعباده، دين المساواة والعدل، والإحسان والفضل.
الفائدة الثانية: الإخراج من ظلمات الوثنية والخرافات والأوهام التي أفسد بها الرؤساء جميع الأديان واستعبدوا أهلها – إلى نور التوحيد الخالص الذي يحرر صاحبه من رق رؤساء الدين والدنيا، فيكون بين الخلق حرا كريما، وبين يدي الخالق وحده عبدا خاضعا. وقوله: {بإذنه} فسروه بمشيئته وبتوفيقه. والإذن العلم. يقال أذن بالشيء إذا علم به، وآذنته به أعلمته فأذن، ويقال أذن بالتشديد وتأذن بمعنى أعلم غيره، ويقال أذن له بالشيء إذا أباحه له، وأذن له أذنا استمع. والظاهر أن الإذن هنا بمعنى العلم أي يخرجهم من الظلمات إلى النور بعلمه الذي جعل به هذا القرآن سببا لانقشاع ظلمات الشرك والضلال من نفس من يهتدي به، واستبدال نور الحق بها، بنسخه وإزالته لها، فهو إخراج يجري على سنن الله تعالى في تأثير العقائد الصحيحة والأخلاق والأعمال الصالحة في النفوس وإصلاحها إياها، لا إنه يحصل بمحض الخلق واستئناف التكوين من غير أن يكون القرآن هو المؤثر فيه.
الفائدة الثالثة: الهداية إلى الصراط المستقيم. وهو الطريق الموصل إلى المقصد والغاية من الدين في أقرب وقت، لأنه طريق لا عوج فيه ولا انحراف فيبطئ سالكه أو يضل في سيره، وهو أن يكون الاعتصام بالقرآن على الوجه الصحيح الذي أنزله الله تعالى لأجله، كما كان عليه أهل الصدر الأول قبل ظهور الخلاف والتأويل، بأن تكون عقائده وآدابه وأحكامه مؤثرة في تزكية الأنفس وإصلاح القلوب وإحسان الأعمال، وثمرة ذلك سعادة الدنيا والآخرة بحسب سنن الله في خلق الله الإنسان.
مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير لابن باديس 1359 هـ :
الهداية نوعان: قد دل الله الخلق برسوله وبكتابه على ما فيه كمالهم وسعادتهم، ومرضاة خالقهم. وهذه هي هداية الدلالة، وهي من فضل الله العام للناس أجمعين، وبها وبما يجده كل عاقل في نفسه من التمكين والاختيار قامت حجة الله على العبد، ثم يسر من شاء – وهو الحكيم العدل – إلى العمل بما دل عليه من أسباب السعادة والكمال، وهذه هي دلالة التوفيق، وهي من فضل الله الخاص بمن قبلوا دلالته، وأقبلوا على ما آتاهم من عنده؛ فآمنوا برسوله والنور الذي أنزل معه، كما قال تعالى:"والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم". أما الذين أعرضوا عن ذكره وزاغوا عما دلهم عليه، فأولئك يخذلهم ويحرمهم من ذك التيسير، كما قال تعالى: "فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين". فالمقبلون على الله القابلون لما أتاهم من عنده هدوا دلالة وتوفيقا. والذين أعرضوا قامت عليهم الحجة بالدلالة، وحرموا من التوفيق جزاء إعراضهم...
لمن تكون الهداية: أما هداية الدلالة والإرشاد وحدها، فهي كما تقدم عامة. و أما هداية الدلالة والإرشاد مع التوفيق والتسديد، فهي للذين اتبعوا ما جاء من عند اله: من رسوله وكتابه، وكانوا باتباعهم لهما متبعين لرضوانه، المقتضى لقبوله ومثوبته وكرامته لهم، ولم يتبعوا أهوائهم ومألوفاتهم، وما ألفوا عليه آبائهم ولا أهواء الناس ورضاهم، فكان اتباعهم لرضوان الله سببا في دوام إرشادهم وتوفيقهم، وبقدر ما يكون ازدياد اتباعهم، يكون توفيقهم؛ إذ قوة السبب تقتضي قوة المسبب، والخير يهدي إلى الخير والهدى يزداد بالاهتداء. وهذا الربط الشرعي بين التوفيق والاتباع، يقتضي الربط ما بين ضديهما: الاعراض والخذلان. وأنه بقدر ما يكون الاعراض عن الهدى، يكون الخذلان والحرمان، والشر يدعو بعضه إلى بعض، والسيئة تجر السيئة. وقد أفاد تخصيص التوفيق بأهل الاتباع، وجعل التوفيق مسببا عنه – بما في صلة الموصول من التعليل – قوله تعالى: "من اتبع رضوانه"...
على العبد أن يقبل ما فيه كماله وسعادته، ومرضاة خالقه، مما هداه الله إليه برسوله وكتابه، وجعل قبوله له سببا في توفيقه وإخراجه من الظلمات إلى النور، وعليه أن يعتقد أنه لا ينال شيئا من التوفيق، وحظا من النور إلا بإذن الله، أي إرادته وتيسيره، فلا يعتمد على نفسه ولا على أعماله، وإنما يكون اعتماده على الله، فيحمله ذلك على الاجتهاد في العمل، وعدم العجب به، ودوام التوجه إلى الله، وصدق الرجاء فيه، والخوف من عقابه، ودوام المراقبة له. ولأجل لزوم هذا الاعتماد على الله الميسر للأسباب، الذي لا يكون في ملكه إلا ما أراد – قرن قوله:"يهدي "و "يخرجهم "بقوله:"بإذنه"...
إن الحاجة إلى إرشاد الله وتوفيقه دائمة متجددة، فكل عمل من أعمال الإنسان، وكل حالة من أحواله هو محتاج فيه إلى هداية الله ودلالته؛ ليعرف ما يرضاه منه مما لا يرضاه. وهو محتاج فيه إلى توفيق الله وتيسيره ليقوم بما يرضاه منه، وشرعه له ودله عليه، ولن يزال العبد – غير المعصومين (صلوات الله وسلامه عليهم) – تغشاه ظلمات الشبهات والشهوات، فيحتاج إلى دلالة الله وتوفيقه، ليخرج منها إلى نور الإيمان والاستقامة. فالعبد محتاج دائما إلى الرجوع إلى كتاب الله، وما ثبت من سنة نبيه -صلى الله عليه وآله وسلم – ليهتدي إلى ما يرضي الله، مما شرعه له من أحواله وأفعاله، وإلى ما يدفع عنه شبهاته، وينقذه من شهواته. ومحتاج إلى التوسل بذلك الرجوع إليهما، وذلك الاتباع لهما إلى الله، ليفتح ه أبواب المعرفة، ويمد له أسباب التوفيق، وهذا هو القصد من صيغة المضارع، المفيد للتجدد، في قوله تعالى: "يهدي" و "يخرجهم" و "يهديهم إلى صراط مستقيم".
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
..ثم ذكر مَنْ الذي يهتدي بهذا القرآن، وما هو السبب الذي من العبد لحصول ذلك، فقال: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ ْ} أي: يهدي به من اجتهد وحرص على بلوغ مرضاة الله، وصار قصده حسنا -سبل السلام التي تسلم صاحبها من العذاب، وتوصله إلى دار السلام، وهو العلم بالحق والعمل به، إجمالا وتفصيلا. {وَيُخْرِجُهُم مِّن ْ} ظلمات الكفر والبدعة والمعصية، والجهل والغفلة، إلى نور الإيمان والسنة والطاعة والعلم، والذكر. وكل هذه الهداية بإذن الله، الذي ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن. {وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ْ}
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
..لقد رضي الله الإسلام دينا.. وهو يهدي من يتبع رضوانه هذا ويرتضيه لنفسه كما رضيه الله له.. يهديه.. (سبل السلام).. وما أدق هذا التعبير وأصدقه؛ إنه "السلام "هو ما يسكبه هذا الدين في الحياة كلها.. سلام الفرد. وسلام الجماعة. وسلام العالم.. سلام الضمير، وسلام العقل، وسلام الجوارح.. سلام البيت والأسرة، وسلام المجتمع والأمة، وسلام البشر والإنسانية.. السلام مع الحياة. والسلام مع الكون. والسلام مع الله رب الكون والحياة.. السلام الذي لا تجده البشرية -ولم تجده يوما- إلا في هذا الدين؛ وإلا في منهجه ونظامه وشريعته، ومجتمعه الذي يقوم على عقيدته وشريعته. حقا إن الله يهدي بهذا الدين الذي رضيه، من يتبع رضوان الله، (سبل السلام).. سبل السلام كلها في هذه الجوانب جميعها.. ولا يدرك عمق هذه الحقيقة كما يدركها من ذاق سبل الحرب في الجاهليات القديمة أو الحديثة.. ولا يدرك عمق هذه الحقيقة كما يدركها من ذاق حرب القلق الناشئ من عقائد الجاهلية في أعماق الضمير. وحرب القلق الناشئ من شرائع الجاهلية وأنظمتها وتخبطها في أوضاع الحياة. وقد كان المخاطبون بهذه الكلمات أول مرة يعرفون من تجربتهم في الجاهلية معنى هذا السلام. إذ كانوا يذوقونه مذاقا شخصيا؛ ويلتذون هذا المذاق المريح.. وما أحوجنا نحن الآن أن ندرك هذه الحقيقة؛ والجاهلية من حولنا ومن بيننا تذيق البشرية الويلات.. من كل ألوان الحرب في الضمائر والمجتمعات قرونا بعد قرون! ما أحوجنا نحن الذين عشنا في هذا السلام فترة من تاريخنا؛ ثم خرجنا من السلام إلى الحرب التي تحطم أرواحنا وقلوبنا، وتحطم أخلاقنا وسلوكنا، وتحطم مجتمعاتنا وشعوبنا.. بينما نملك الدخول في السلم التي منحها الله لنا؛ حين نتبع رضوانه؛ ونرضى لأنفسنا ما رضيه الله لنا إننا نعاني من ويلات الجاهلية؛ والإسلام منا قريب. ونعاني من حرب الجاهلية وسلام الإسلام في متناول أيدينا لو نشاء.. فأية صفقة خاسرة هذه التي نستبدل فيها الذي هو أدني بالذي هو خير؟ ونشتري فيها الضلالة بالهدى؟ ونؤثر فيها الحرب على السلام؟ إننا نملك إنقاذ البشرية من ويلات الجاهلية وحربها المشبوبة في شتى الصور والألوان. ولكننا لا نملك إنقاذ البشرية، قبل أن ننقذ نحن أنفسنا، وقبل أن نفيء إلى ظلال السلام، حين نفيء إلى رضوان الله ونتبع ما ارتضاه. فنكون من هؤلاء الذين يقول الله عنهم إنه يهديهم سبل السلام. (ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه).. والجاهلية كلها ظلمات.. ظلمة الشبهات والخرافات والأساطير والتصورات. وظلمة الشهوات والنزعات والاندفاعات في التيه. وظلمة الحيرة والقلق والانقطاع عن الهدى والوحشة من الجناب الآمن المأنوس. وظلمة اضطراب القيم وتخلخل الأحكام والقيم والموازين. والنور هو النور.. هو ذلك النور الذي تحدثنا عنه آنفا في الضمير وفي العقل وفي الكيان وفي الحياة وفي الأمور.. (يهديهم إلى صراط مستقيم..) مستقيم مع فطرة النفس ونواميسها التي تحكمها. مستقيم مع فطرة الكون ونواميسه التي تصرفه. مستقيم إلى الله لا يلتوي ولا تلتبس فيه الحقائق والاتجاهات والغايات.. إن الله الذي خلق الإنسان وفطرته؛ وخلق الكون ونواميسه؛ هو الذي وضع للإنسان هذا المنهج؛ وهو الذي رضي للمؤمنين هذا الدين. فطبيعي وبديهي أن يهديهم هذا المنهج إلى الصراط المستقيم، حيث لا يهديهم منهج غيره من صنع البشر العاجزين الجهال الفانين! وصدق الله العظيم. الغني عن العالمين. الذي لا يناله من هداهم أو ضلالهم شيء ولكنه بهم رحيم!
...ومادام الله هو الذي يهدي فسبحانه منزه عن الأهواء المتعلقة بهم، وهكذا نضمن أن الإسلام ليس له هوى، لأن آفة من يشرع أن يذكر نفسه أو ما يحب في ما يشرع، فالمشرع يشترط فيه ألا ينتفع بما يشرع، ولا يوجد هذا الوصف إلا في الله لأنه يشرع للجميع وهو فوق الجميع. "قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين، يهدي به الله من اتبع رضوانه "إن من اتبع رضوانه يهديه الله لسبل السلام، إذن ففيه رضوان متبع، وفيه سبل سلام كمكافأة وهل السلام طرق وسبل؟ نعم، لأن هناك سلام نفس مع نفسها وهناك سلام نفس مع أسرتها هناك سلام نفس مع جماعتها هناك سلام نفس مع أمتها وهناك سلام نفس مع العالم، وسلام نفس مع الكون كله، وهناك سلام نفس مع الله، كل هذا يجمع السلام إذن فسبل السلام متعددة، والسلام مع الله بأن تنزه ربك أيها العبد فلا تعبد معه إلها آخر، ولا تلصق به أحدا آخر أي لا تشرك به شيئا، أو لا تقل: لا يوجد إله...
" يهدي به الله من اتبع رضوانه"، مادام قد اتبع رضوانه فيهديه إلى سبل السلام، إذن فإن هناك هدايتين اثنتين: يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، وقال في آية أخرى: {والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم (17)} (سورة محمد). فإياك أن تظن أن التقوى لن تنال ثوابها وجزاءها إلا في الآخرة لأنه كلما فعلت أمرا وتلتفت وجدت آثاره في نفسك، تصلي تجد أمورك خفت عن نفسك، فلا ترتكب السيئة في غفلة من الناس، قلبك لا يكون مشغولا بأي شيء ويحيا المؤمن في سلام مع نفسه أبدا إذن فسبل السلام متعددة: سبل السلام مع الله، سبل السلام مع الكون كله، سبل السلام مع مجتمعه، سبل السلام مع أسرته سبل السلام مع نفسه.