قوله تعالى : { وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر } ، قرأ يعقوب : آزر بالرفع ، يعني آزر ، والقراءة المعروفة بالنصب ، وهو اسم أعجمي لا ينصرف ، فينصب في موضع الخفض ، قال محمد بن إسحاق ، والضحاك ، والكلبي : آزر اسم أبي إبراهيم ، وهو تارخ أيضاً ، مثل إسرائيل ويعقوب ، وكان من كوثى ، قرية من سواد الكوفة ، وقال مقاتل بن حيان وغيره : آزر لقب لأبي إبراهيم ، واسمه تارخ ، وقال سليمان التيمي : هو سب وعيب ، ومعناه في كلامهم المعوج ، وقيل : معناه الشيخ الهرم بالفارسية ، وقال سعيد بن المسيب ومجاهد : آزر اسم صنم ، فعلى هذا يكون في محل النصب تقديره : أتتخذ آزر إلهاً .
{ 74 - 83 } { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ } إلى آخر القصة .
يقول تعالى : واذكر قصة إبراهيم ، عليه الصلاة والسلام ، مثنيا عليه ومعظما في حال دعوته إلى التوحيد ، ونهيه عن الشرك ، وإذ قال لأبيه { آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً } أي : لا تنفع ولا تضر وليس لها من الأمر شيء ، { إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } حيث عبدتم من لا يستحق من العبادة شيئا ، وتركتم عبادة خالقكم ، ورازقكم ، ومدبركم .
{ وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر } هو عطف بيان لأبيه ، وفي كتب التواريخ أن اسمه تارح فقيل هما علمان له كإسرائيل ويعقوب ، وقيل العلم تارح وآزر وصف معناه الشيخ أو المعوج ، ولعل منع صرفه لأنه أعجمي حمل على موازنه أو نعت مشتق من الآزر أو الوزر ، والأقرب أنه علم أعجمي على فاعل كعابر وشالخ ، وقيل اسم صنم يعبده فلقب به للزوم عبادته ، أو أطلق عليه بحذف المضاف . وقيل المراد به الصنم ونصبه بفعل مضمر يفسره ما بعده أي أتعبد آزر ثم قال : { أتتخذ أصناما آلهة } تفسيرا وتقريرا . ويدل عليه أنه قرئ " أزرا " تتخذ أصناما بفتح همزة آزر وكسرها وهو اسم صنم . وقرأ يعقوب بالضم على النداء وهو يدل على أنه علم . { إني أراك وقومك في ضلال } عن الحق . { مبين } ظاهر الضلالة .
عطف على الجمل السابقة التي أولاها { وكذّب به قومك وهو الحقّ } [ الأنعام : 66 ] المشتملة على الحجج والمجادلة في شأن إثبات التوحيد وإبطال الشرك ، فعُقّبت تلك الحجج بشاهد من أحوال الأنبياء بذكر مجادلة أول رسول أعلَن التوحيد وناظر في إبطال الشرك بالحجّة الدامغة والمناظرة الساطعة ، ولأنَّها أعدل حجَّة في تاريخ الدين إذ كانت مجادلة رسول لأبيه ولقومه ، وكانت أكبر حجّة على المشركين من العرب بأنّ أباهم لم يكن مشركاً ولا مُقِرّاً للشرك في قومه ، وأعظم حجَّة للرسول صلى الله عليه وسلم إذ جاءهم بالإقلاع عن الشرك .
والكلام في افتتاح القصّة ب { إذْ } بتقدير اذْكُر تقدّم عند قوله تعالى : { وإذ قال ربّك للملائكة إنٌّي جاعل في الأرض خليفة } في سورة [ البقرة : 30 ] .
و{ آزر } ظاهر الآية أنَّه أبو إبراهيم . ولا شكّ أنّه عُرف عند العرب أنّ أبا إبراهيم اسمُه آزر فإنّ العرب كانوا معتنين بذكر إبراهيم عليه السلام ونسبِه وأبنائه . وليس من عادة القرآن التعرّض لذكر أسماء غير الأنبياء فما ذكر اسمه في هذه الآية إلاّ لقصد سنذكره . ولم يُذكر هذا الاسم في غير هذه الآية . والذي في كتب الإسرائيليّين أنّ اسم أبي إبراهيم ( تارح ) بمثناة فوقية فألف فراء مفتوحة فحاء مهملة . قال الزجاج : لا خلاف بين النسّابين في أنّ اسم أبي إبراهيم تارح . وتبعه محمد بن الحسن الجويني الشافعي في « تفسير النكت » . وفي كلامهما نظر لأنّ الاختلاف المنفي إنَّما هو في أنّ آزر اسم لأبي إبراهيم ولا يقتضي ذلك أنه ليس له اسم آخر بين قومه أو غيرهم أو في لغة أخرى غير لغة قومه . ومثل ذلك كثير . وقد قيل : إنّ ( آزر ) وصف . قال الفخر : قيل معناه الهرم بلغة خوارزم ، وهي الفارسية الأصلية . وقال ابن عطية عن الضحّاك : ( آزر ) الشيخ . وعن الضحَّاك : أنّ اسم أبي إبراهيم بلغة الفرس ( آزر ) . وقال ابن إسحاق ومقاتل والكلبي والضحَّاك : اسم أبي إبراهيم تارح وآزر لقب له مثل يعقوب الملقب إسرائيل ، وقال مجاهد : ( آزر ) اسم الصنم الذي كان يعبده أبو إبراهيم فلقّب به . وأظهر منه أن يقال : أنَّه الصنم الذي كان أبو إبراهيم سادن بيته .
وعن سليمان التيْمي والفرّاء : ( آزر ) كلمةُ سبّ في لغتهم بمعنى المعْوَجّ ، أي عن طريق الخير . وهذا وهم لأنَّه يقتضي وقوع لفظ غير عربي ليس بعلم ولا بمعرّب في القرآن . فإنّ المعرّب شرطه أن يكون لفظاً غير علم نقله العرب إلى لغتهم . وفي « تفسير الفخر » : أنّ من الوجوه أن يكون ( آزر ) عمّ إبراهيم وأطلق عليه اسم الأب لأنّ العمّ قد يقال له : أب . ونسب هذا إلى محمد بن كعب القرظي . وهذا بعيد لا ينبغي المصير إليه فقد تكرّر في القرآن ذكر هذه المجادلة مع أبيه ، فيبعد أن يكون المراد أنَّه عمّه في تلك الآيات كلِّها .
قال الفخر : وقالت الشيعة : لا يكون أحد من آباء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجداده كافراً . وأنكروا أنّ ( آزر ) أب لإبراهيم وإنَّما كان عمّه . وأمَّا أصحابنا فلم يلتزموا ذلك . قلت : هو كما قال الفخر من عدم التزام هذا وقد بيّنتُ في « رسالة » لي في طهارة نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ الكفر لا ينافي خلوص النسب النبوي خلوصاً جبليّاً لأنّ الخلوص المبحوث عنه هو الخلوص ممَّا يتعيّر به في العادة .
والذي يظهر لي أنَّه : أنّ ( تارح ) لُقِّب في بلد غربة بلقب ( آزر ) باسم البلد الذي جاء منه ، ففي « معجم ياقوت » آزر بفتح الزاي وبالراء ناحية بين سوق الأهواز ورامهرمز . وفي الفصل الحادي عشر من سفر التكوين من التوراة أنّ بلد تارح أبي إبراهيم هو ( أور الكَلْدَانيين ) . وفي « معجم ياقوت » ( أور ) بضم الهمزة وسكون الواو من أصقاع رامهرمز من خوزستان » . g ولعلّه هو أور الكلدانيين أو جزء منه أضيف إلى سكّانه . وفي سفر التكوين أنّ ( تارح ) خرج هو وابنه إبراهيم من بلده أور الكلدانيين قاصديْن أرض كنعان وأنهما مرّا في طريقهما ببلد ( حَاران ) وأقاما هناك ومات تارح في حَاران . فلعلّ أهل حاران دعَوه آزر لأنَّه جاء من صقع آزر . وفي الفصل الثاني عشر من سفر التكوين ما يدلّ على أنّ إبراهيم عليه السلام نُبِّىء في حاران في حياة أبيه .
ولم يرد في التوراة ذكر للمحاورة بين إبراهيم وأبيه ولا بينه وبين قومه .
ولذا فالأظهر أن يكون { آزر } في الآية منادى وأنَّه مبني على الفتح . ويؤيد ذلك قراءة يعقوب { آزر } مضموماً . ويؤيّده أيضاً ما روي : أنّ ابن عباس قرأه أإزر بهمزتين أولاهما مفتوحة والثانية مكسورة ، وروي : عنه أنَّه قرأه بفتح الهمزتين وبهذا يكون ذكر اسمه حكاية لخطاب إبراهيم إيّاه خطاب غلظة ، فذلك مقتضى ذكر اسمه العلم .
وقرأ الجمهور { آزر } بفتح الراء وقرأه يعقوب بضمّها . واقتصر المفسّرون على جعله في قراءة فتح الراء بياناً من { أبيه } ، وقد علمت أنَّه لا مقتضي له .
والاستفهام في { أتتَّخذ أصناماً آلهة } استفهام إنكار وتوبيخ .
والظاهر أنّ المحكي في هذه الآية موقف من مواقف إبراهيم مع أبيه ، وهو موقف غلظة ، فيتعيَّن أنَّه كان عندما أظهر أبوه تصلّباً في الشّرك . وهو ما كان بعد أن قال له أبوه { لئن لم تنته لأرجمنَّك } [ مريم : 46 ] وهو غير الموقف الذي خاطبه فيه بقوله : { يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر } الآيات في سورة [ مريم : 42 ] .
و { تتّخذ } مضارع اتّخذ ، وهو افتعال من الأخذ ، فصيغة الافتعال فيه دالَّة على التكلّف للمبالغة في تحصيل الفعل .
قال أهل اللغة : قلبت الهمزة الأصلية تاء لقصد الإدغام تخفيفاً وليَّنوا الهمزة ثم اعتبروا التاء كالأصلية فربما قالوا : تخذ بمعنى اتّخذ ، وقد قرىء بالوجهين قوله تعالى : { لو شئت لاتَّخذت عليه أجراً } [ الكهف : 77 ] و { لتَخَذْت عليه أجراً } فأصل فعل اتّخذ أن يتعدّى إلى مفعول واحد وكان أصل المفعول الثاني حالاً ، وقد وعدنا عند قوله تعالى : { قالوا أتتَّخذنا هزؤاً } في سورة [ البقرة : 67 ] بأن نبيِّن استعمال ( اتَّخذ ) وتعديته في هذه السورة . ومعنى تتّخذ هنا تصطفي وتختار ؛ فالمراد أتعبد أصناماً . وفي فعل { تتّخذ } إشعار بأنّ ذلك شيء مصطنع مفتعل وأنّ الأصنام ليست أهلاً للإلهية . وفي ذلك تعريض بسخافة عقله أن يجعل إلهه شيئاً هو صنعه .
والأصنام جمع صنم ، والصنم الصورة التي تمثّل شكل إنسان أو حيوان ، والظاهر أنّ اعتبار كونه معبوداً داخل في مفهوم اسم صنم كما تظافرت عليه كلمات أهل اللغة فلا يطلق على كلّ صورة ، وفي « شفاء الغليل » : أنّ صنم مُعرّب عن ( شَمَن ) ، وهو الوثن ، أي مع قلب في بعض حروفه ، ولم يذكر اللغة المعرّب منها ، وعلى اعتبار كون العبادة داخلة في مفهوم الاسم يكون قوله { أصناماً } مفعول { تتَّخذ } على أن تتّخذ متعدّ إلى مفعول واحد على أصل استعماله ومحلّ الإنكار هو المفعول ، أي { أصناماً } ، ويكون قوله { آلهة } حالاً من { أصناماً } مؤكّدة لمعنى صاحب الحال ، أو بدلاً من { أصناماً } . وهذا الذي يناسب تنكير { أصناماً } لأنَّه لو كان مفعولاً أوّل ل { تتّخذ } لكان معرّفاً لأنّ أصله المبتدأ . وعلى احتمال أنّ الصنم اسم للصورة سواء عبدت أم لم تعبد يكون قوله { آلهة } مفعولاً ثانياً ل { تتّخذ } على أنّ { تتّخذ } مضمّن معنى تجعل وتصيِّر ، أي أتجعل صوراً آلهة لك كقوله { أتعبدون ما تنحتون } [ الصافات : 95 ] .
وقد تضمَّن ما حكي من كلام إبراهيم لأبيه أنَّه أنكر عليه شيئين : أحدهما جعله الصور آلهة مع أنَّها ظاهرة الانحطاط عن صفة الإلهية ، وثانيهما تعدّد الآلهة ولذلك جُعل مفعولا { تتّخذ } جَمْعَيْن ، ولم يُقل : أتتّخذ الصنم إلهاً .
وجملة : { إنِّي أراك وقومك في ضلال } مبيِّنَة للإنكار في جملة : { أتتَّخذ أصناماً آلهة } . وأكّد الإخبار بحرف التأكيد لما يتضمَّنه ذلك الإخبار من كون ضلالهم بيّناً ، وذلك ممَّا ينكره المخاطب ؛ ولأنّ المخاطب لَمَّا لم يكن قد سمع الإنكارَ عليه في اعتقاده قبْل ذلك يحسب نفسه على هدى ولا يحسب أنّ أحداً ينكر عليه ما هو فيه ، ويظن أنّ إنكار ابنه عليه لا يبلغ به إلى حدّ أن يراه وقومه في ضلال مبين . فقد يتأوّله بأنَّه رام منه ما هو أولَى .
والرؤية يجوز أن تكون بصرية قصد منها في كلام إبراهيم أنّ ضلال أبيه وقومه صار كالشيء المشاهَد لوضوحه في أحوال تقرّباتهم للأصنام من الحجارة فهي حالة مشاهد ما فيها من الضلال .
وعليه فقوله : { في ضلال مبين } في موضع الحال . ويجوز كون الرؤية علمية ، وقوله : { في ضلال مبين } في موضع المفعول الثاني .
وفائدة عطف { وقومك } على ضمير المخاطب مع العلم بأنّ رؤيته أباه في ضلال يقتضي أن يرى مماثليه في ضلال أيضاً لأنّ المقام مقام صراحة لا يكتفي فيه بدلالة الالتزام ولينبئه من أول وهلة على أنّ موافقة جمع عظيم إياه على ضلاله لا تعصّد دينه ولا تشكّك من ينكر عليه ما هو فيه . و { مبين } اسم فاعل من أبان بمعنى بان ، أي ظاهر . ووصف الضلال ب { مبين } نداء على قوة فساد عقولهم حيث لم يتفطّنوا لضلالهم مع أنَّه كالمشاهد المرئي .
ومباشرتُه إيَّاه بهذا القول الغليظ كانت في بعض مجادلاته لأبيه بعد أن تقدّم له بالدعوة بالرفق ، كما حكى الله عنه في موضع آخر { يا أبَت لِمَ تعبد ما لا يسمع ولا يُبصر ولا يغني عنك شيئاً يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتَّبعني أهْدك صراطاً سويّاً } إلى قوله { سلام عليك سأستغفر لك ربِّي إنَّه كان بي حفيّاً } [ مريم : 42 47 ] . فلما رأى تصميمه على الكفر سلك معه الغلظة استقصاء لأساليب الموعظة لعلّ بعضها أن يكون أنجع في نفس أبيه من بعض فإنّ للنفوس مسالك ولمجال أنظارها ميادين متفاوتة ، ولذلك قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم { ادْعُ إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن } [ النحل : 125 ] ، وقال له في موضع آخر { واغلُظْ عليهم } [ التوبة : 73 ] . فحكى الله تعالى عن إبراهيم في هذه الآية بعض مواقفه مع أبيه وليس في ذلك ما تنافي البُرور به لأنّ المجاهرة بالحقّ دون سبّ ولا اعتداء لا ينافي البرور . ولم يزل العلماء يخطّئون أساتذتهم وأئمّتهم وآباءهم في المسائل العلمية بدون تنقيص . وقد قال أرسطاليس في اعتراض على أفلاطون : أفلاطون صديق والحقّ صديق لكن الحقّ أصدق . على أنّ مراتب برّ الوالدين متفاوتة في الشرائع . وقد قال أبناء يعقوب { تالله إنَّك لفي ضلالك القديم } [ يوسف : 95 ] .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واذكر يا محمد لحجاجك الذي تحاجّ به قومك وخصومتك إياهم في آلهتهم وما تراجعهم فيها، مما نلقيه إليك ونعلمكه من البرهان، والدلالة على باطل ما عليه قومك مقيمون وصحة ما أنت عليه مقيم من الدين وحقية ما أنت عليهم محتج، حجاجَ إبراهيم خليلي قومه، ومراجعته إياهم في باطل ما كانوا عليه مقيمين من عبادة الأوثان، وانقطاعه إلى الله والرضا به واليا وناصرا دون الأصنام فاتخِذْهُ إماما واقْتَدِ به، واجعل سيرته في قومك لنفسك مثالاً، "إذ قال لأبيه "مفارقا لدينه وعائبا عبادته الأصنام دون بارئه وخالقه: يا آزر.
ثم اختلف أهل العلم في المعنيّ بآزر، وما هو؟ اسم أم صفة؟ وإن كان اسما، فمن المسمى به؟
فقال بعضهم: هو اسم أبيه. وكان فيما ذكر لنا والله أعلم رجلاً من أهل كُوثَى، من قرية بالسواد، سواد الكوفة.
هو آزر، وهو تارح، مثل إسرائيل ويعقوب.
وقال آخرون: إنه ليس أبا إبراهيم. عن مجاهد قال: آزر لم يكن بأبيه إنما هو صنم.
وقال آخرون: هو سبّ وعيب بكلامهم، ومعناه: معوجّ. كأنه تأوّل أنه عابه بزيغه واعوجاجه عن الحقّ.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الأمصار: "وَإذْ قالَ إبْرَاهِيمُ لأَبيهِ آزَرَ" بفتح «آزرَ» على إتباعه الأب في الخفض، ولكنه لما كان اسما أعجميا فتحوه إذ لم يجرّوه وإن كان في موضع خفض. وذكر عن أبي زيد المديني والحسن البصري أنهما كانا يقرآن ذلك: «آزرُ»، بالرفع على النداء، بمعنى: «يا آزرُ». فأما الذي ذكر عن السديّ من حكايته أن آزر اسم صنم، وإنما نصبه بمعنى: «أتتخذ آزر أصناما آلهة، فقول من الصواب من جهة العربية بعيد وذلك أن العرب لا تنصب اسما بفعل بعد حرف الاستفهام، لا تقول: أخاك أكلمت، وهي تريد: أكلمت أخاك.
والصواب من القراءة في ذلك عندي، قراءة من قرأ بفتح الراء من «آزرَ»، على إتباعه إعراب «الأب»، وأنه في موضع خفض، ففُتح إذ لم يكن جاريا لأنه اسم عجميّ. وإنما أجيزت قراءة ذلك كذلك لإجماع الحجة من القراء عليه.
وإذ كان ذلك هو الصواب من القراءة وكان غير جائز أن يكون منصوبا بالفعل الذي بعد حرف الاستفهام، صحّ لك فتحه من أحد وجهين: إما أن يكون اسما لأبي إبراهيم صلوات الله عليه وعلى جميع أنبيائه ورسله، فيكون في موضع خفض ردّا على الأب، ولكنه فتح لما ذكرت من أنه لما كان اسما أعجميّا ترك إجراؤه، ففتح كما فتح العرب في أسماء العجم. أو يكون نعتا له، فيكون أيضا خفضا بمعنى تكرير اللام عليه، ولكنه لما خرج مخرج أحمر وأسود ترك إجراؤه وفعل له كما يفعل بأشكاله. فيكون تأويل الكلام حينئذ: وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر: أتتخذ أصناما آلهة؟ وإن لم يكن له وجهة في الصواب إلاّ أحد هذين الوجهين، فأولى القولين بالصواب منهما عندي، قول من قال: هو اسم أبيه، لأن الله تعالى أخبر أنه أبوه. وهو القول المحفوظ من قول أهل العلم دون القول الآخر الذي زعم قائله أنه نعت.
فإن قال قائل: فإن أهل الأنساب إنما ينسبون إبراهيم إلى تارح، فكيف يكون آزر اسما له والمعروف به من الاسم تارح؟ قيل له: غير محال أن يكون له اسمان، كما لكثير من الناس في دهرنا هذا، وكان ذلك فيما مضى لكثير منهم. وجائز أن يكون لقبا، والله تعالى أعلم.
"أتَتّخِذُ أصْناما آلِهَة إنّي أرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ": وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن قيل إبراهيم لأبيه آزر أنه قال: "أتتخذ أصناما آلهة" تعبدها وتتخذها ربّا دون الله الذي خلقك فسوّاك ورزقك، والأصنام: جمع صنم: التمثال من حجر أو خشب أو من غير ذلك في صورة إنسان، وهو الوثن. وقد يقال للصورة المصوّرة على صورة الإنسان في الحائط وغيره: صنم ووثن. "إنّي أرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ": إني أراك يا آزر وقومك الذين يعبدون معك الأصنام ويتخذونها آلهة "في ضَلالٍ": في زوال عن محجة الحق، وعدول عن سبيل الصواب "مُبِين": يتبين لمن أبصره أنه جور عن قصد السبيل وزوال عن محجة الطريق القويم. يعني بذلك: أنه قد ضلّ هو وهم عن توحيد الله وعبادته الذي استوجب عليهم إخلاص العبادة له بآلائه عندهم، دون غيره من الآلهة والأوثان.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: {أتتخذ} استعظاما لما يعبد من الأصنام دون الله؛ لأن مثل هذا إنما يقال على العظيم من الفعل. وقال أبو بكر الكيساني: قوله: {آزر} قيل: هو اسم عبث عندهم كأنه قال: يا ضال أتتخذ أصناما آلهة؟ كقول الرجل لآخر: يا ضال. وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة [أن] كان اسم أبيه أو اسم صنم. وفي الآية دلالة أن أباه كان من رؤساء قومه بقوله: {إني أراك وقومك في ضلال مبين} وفيه دلالة أن لا بأس للرجل أن يشتم أباه لمكان ربه؛ لأن إبراهيم عليه السلام سماه ضالا. وفيه دلالة أن الإيمان والتوحيد يلزم أهل الفترة لأن إبراهيم عليه السلام سماهم ضلالا، [وجعل ضلالهم] لا شك فيه، ولا شبهة؛ وهو ما ذكر في آية أخرى حين عبد ما ذكر بقوله: ِ {يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا} [مريم: 42] هذا الضلال البين.
المسألة الأولى: اعلم أنه سبحانه كثيرا يحتج على مشركي العرب بأحوال إبراهيم عليه السلام وذلك لأنه يعترف بفضله جميع الطوائف والملل فالمشركون كانوا معترفين بفضله مقرين بأنهم من أولاده واليهود والنصارى والمسلمون كلهم معظمون له معترفون بجلالة قدره. فلا جرم ذكر الله حكاية حاله في معرض الاحتجاج على المشركين.
واعلم أن هذا المنصب العظيم وهو اعتراف أكثر أهل العلم بفضله وعلو مرتبته لم يتفق لأحد كما اتفق للخليل عليه السلام، والسبب فيه أنه حصل بين الرب وبين العبد معاهدة. كما قال: {أوفوا بعهدي أوف بعهدكم} فإبراهيم وفى بعهد العبودية، والله تعالى شهد بذلك على سبيل الإجمال تارة وعلى سبيل التفصيل أخرى. أما الإجمال ففي آيتين إحداهما قوله: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن} وهذا شهادة من الله تعالى بأنه تمم عهد العبودية. والثانية قوله تعالى: {إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين} وأما التفصيل: فهو أنه عليه السلام ناظر في إثبات التوحيد وإبطال القول بالشركاء والأنداد في مقامات كثيرة.
فالمقام الأول: في هذا الباب مناظراته مع أبيه حيث قال له: {يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا}.
والمقام الثاني: مناظرته مع قومه وهو قوله: {فلما جن عليه الليل}.
والمقام الثالث: مناظرته مع ملك زمانه، فقال: {ربي الذي يحيي ويميت}.
والمقام الرابع: مناظرته مع الكفارة بالفعل، وهو قوله تعالى: {فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم} ثم إن القوم قالوا: {حرقوه وانصروا آلهتكم} ثم إنه عليه السلام بعد هذه الواقعة بذل ولده فقال: {إني أرى في المنام أني أذبحك} فعند هذا ثبت أن إبراهيم عليه السلام كان من الفتيان، لأنه سلم قلبه للعرفان ولسانه للبرهان وبدنه للنيران وولده للقربان وماله للضيفان، ثم إنه عليه السلام سأل ربه فقال: {واجعل لي لسان صدق في الآخرين} فوجب في كرم الله تعالى أنه يجيب دعاءه ويحقق مطلوبه في هذا السؤال، فلا جرم أجاب دعاءه، وقبل نداءه وجعله مقبولا لجميع الفرق والطوائف إلى قيام القيامة، ولما كان العرب معترفين بفضله لا جرم جعل الله تعالى مناظرته مع قومه حجة على مشركي العرب.
المسألة الثانية: اعلم أنه ليس في العالم أحد يثبت لله تعالى شريكا يساويه في الوجوب والقدرة والعلم والحكمة، لكن الثنوية يثبتون إلهين، أحدهما حكيم يفعل الخير، والثاني سفيه يفعل الشر، وأما الاشتغال بعبادة غير الله. ففي الذاهبين إليه كثرة. فمنهم عبدة الكواكب، وهم فريقان منهم من يقول أنه سبحانه خلق هذه الكواكب، وفوض تدبير هذا العالم السفلي إليها، فهذه الكواكب هي المدبرات لهذا العالم، قالوا: فيجب علينا أن نعبد هذه الكواكب، ثم إن هذه الأفلاك والكواكب تعبد الله وتطبعه، ومنهم قوم غلاة ينكرون الصانع، ويقولون هذه الأفلاك والكواكب أجسام واجبة الوجود لذواتها ويمتنع عليها العدم والفناء، وهي المدبرة لأحوال هذا العالم الأسفل، وهؤلاء هم الدهرية الخالصة، وممن يعبد غير الله النصارى الذين يعبدون المسيح ومنهم أيضا عبدة الأصنام.
واعلم أن هنا بحثا لا بد منه وهو: أنه لا دين أقدم من دين عبدة الأصنام، والدليل عليه أن أقدم الأنبياء الذين وصل إلينا تواريخهم على سبيل التفصيل هو نوح عليه السلام، وهو إنما جاء بالرد على عبدة الأصنام كما قال تعالى حكاية عن قومه أنهم قالوا: {لا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا} وذلك يدل على أن دين عبدة الأصنام قد كان موجودا قبل نوح عليه السلام وقد بقي ذلك الدين إلى هذا الزمان فإن أكثر سكان أطراف الأرض مستمرون على هذا الدين والمذهب الذي هذا شأنه يمتنع أن يكون معلوم البطلان في بديهة العقل، لكن العلم بأن هذا الحجر المنحوت في هذه الساعة ليس هو الذي خلقني وخلق السماء والأرض علم ضروري، والعلم الضروري يمتنع إطباق الخلق الكثير على إنكاره، فظهر أنه ليس دين عبدة الأصنام كون الصنم خالقا للسماء والأرض، بل لا بد وأن يكون لهم فيه تأويل، والعلماء ذكروا فيه وجوها كثيرة وقد ذكرنا هذا البحث في أول سورة البقرة، ولا بأس بأن نعيده ههنا تكثيرا للفوائد.
فالتأويل الأول: وهو الأقوى أن الناس رأوا تغيرات أحوال هذا العالم الأسفل مربوطة بتغيرات أحوال الكواكب، فإن بحسب قرب الشمس وبعدها من سمت الرأس تحدث الفصول الأربعة، وبسبب حدوث الفصول الأربعة تحدث الأحوال المختلفة في هذا العالم، ثم إن الناس ترصدوا أحوال سائر الكواكب فاعتقدوا ارتباط السعادات والنحوسات بكيفية وقوعها في طوالع الناس على أحوال مختلفة فلما اعتقدوا ذلك غلب على ظنون أكثر الخلق أن مبدأ حدوث الحوادث في هذا العالم هو الاتصالات الفلكية والمناسبات الكوكبية فلما اعتقدوا ذلك بالغوا في تعظيمها ثم منهم من اعتقد أنها واجبة الوجود لذواتها ومنهم من اعتقد حدوثها وكونها مخلوقة للإله الأكبر، إلا أنهم قالوا إنها وإن كانت مخلوقة للإله الأكبر، إلا أنها هي المدبرة لأحوال هذا العالم وهؤلاء هم الذين أثبتوا الوسائط بين الإله الأكبر، وبين أحوال هذا العالم. وعلى كلا التقديرين فالقوم اشتغلوا بعبادتها وتعظيمها ثم إنهم لما رأوا أن هذه الكواكب قد تغيب عن الأبصار في أكثر الأوقات اتخذوا لكل كوكب صنما من الجوهر المنسوب إليه واتخذوا صنم الشمس من الذهب وزينوه بالأحجار المنسوبة إلى الشمس وهي الياقوت والألماس واتخذوا صنم القمر من الفضة وعلى هذا القياس ثم أقبلوا على عبادة هذه الأصنام وغرضهم من عبادة هذه الأصنام هو عبادة تلك الكواكب والتقرب إليها وعند هذا البحث يظهر أن المقصود الأصلي من عبادة هذه الأصنام هو عبادة الكواكب. وأما الأنبياء صلوات الله عليهم فلهم ههنا مقامان: أحدهما: إقامة الدلائل على أن هذه الكواكب لا تأثير لها البتة في أحوال هذا العالم كما قال الله تعالى:
{ألا له الخلق والأمر} بعد أن بين في الكواكب أنها مسخرة. والثاني: أنها بتقدير أنها تفعل شيئا ويصدر عنها تأثيرات في هذا العالم إلا أن دلائل الحدوث حاصلة فيها فوجب كونها مخلوقة والاشتغال بعبادة الأصل أولى من الاشتغال بعبادة الفرع، والدليل على أن حاصل دين عبدة الأصنام ما ذكرناه. أنه تعالى لما حكى عن الخليل صلوات الله عليه أنه قال لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة؟ إني أراك وقومك في ضلال مبين فأفتى بهذا الكلام أن عبادة الأصنام جهل، ثم لما اشتغل بذكر الدليل أقام الدليل على أن الكواكب والقمر والشمس لا يصلح شيء منها للإلهية وهذا يدل على أن دين عبدة الأصنام حاصله يرجع إلى القول بإلهية هذه الكواكب وإلا لصارت هذه الآية متنافية متنافرة. وإذا عرفت هذا ظهر أنه لا طريق إلى إبطال القول بعبادة الأصنام إلا بإبطال كون الشمس والقمر وسائر الكواكب آلهة لهذا العالم مدبرة له.
الوجه الثاني: في شرح حقيقة مذهب عبدة الأصنام ما ذكره أبو معشر جعفر بن محمد المنجم البلخي رحمه الله فقال في بعض كتبه: إن كثيرا من أهل الصين والهند كانوا يثبتون الإله والملائكة إلا أنهم يعتقدون أنه تعالى جسم وذو صورة كأحسن ما يكون من الصور وللملائكة أيضا صور حسنة إلا أنهم كلهم محتجبون عنا بالسماوات، فلا جرم اتخذوا صورا وتماثيل أنيقة المنظر حسنة الرؤيا والهيكل فيتخذون صورة في غاية الحسن ويقولون إنها هيكل الإله، وصورة أخرى دون الصورة الأولى ويجعلونها على صورة الملائكة، ثم يواظبون على عبادتها قاصدين بتلك العبادة طلب الزلفى من الله تعالى ومن الملائكة، فإن صح ما ذكره أبو معشر فالسبب في عبادة الأوثان اعتقاد أن الله تعالى جسم وفي مكان.
الوجه الثالث: في هذا الباب أن القوم يعتقدون أن الله تعالى فوض تدبير كل واحد من الأقاليم إلى ملك بعينه. وفوض تدبير كل قسم من أقسام ملك العالم إلى روح سماوي بعينه فيقولون مدبر البحار ملك، ومدبر الجبال ملك آخر، ومدبر الغيوم والأمطار ملك، ومدبر الأرزاق ملك، ومدبر الحروب والمقاتلات ملك آخر، فلما اعتقدوا ذلك اتخذوا لكل واحد من أولئك الملائكة صنما مخصوصا وهيكلا مخصوصا ويطلبون من كل صنم ما يليق بذلك الروح الفلكي من الآثار والتدبيرات، وللقوم تأويلات أخرى سوى هذه الثلاثة ذكرناها في أول سورة البقرة، ولنكتف ههنا بهذا القدر من البيان والله أعلم...
المسألة السادسة: اختلف الناس في تفسير لفظ «الإله» والأصح أنه هو المعبود، وهذه الآية تدل على هذا القول لأنهم ما أثبتوا للأصنام إلا كونها معبودة، ولأجل هذا قال إبراهيم لأبيه: {أتتخذ أصناما آلهة} وذلك يدل على أن تفسير لفظ «الإله» هو المعبود.
المسألة السابعة: اشتمل كلام إبراهيم عليه السلام في هذه الآية على ذكر الحجة العقلية على فساد قول عبدة الأصنام من وجهين: الأول: أن قوله: {أتتخذ أصناما آلهة} يدل على أنهم كانوا يقولون بكثرة الآلهة؛ إلا أن القول بكثرة الآلهة باطل بالدليل العقلي الذي فهم من قوله تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} والثاني: أن هذه الأصنام لو حصلت لها قدرة على الخير والشر لكان الصنم الواحد كافيا، فلما لم يكن الواحد كافيا دل ذلك على أنها وإن كثرت فلا نفع فيها البتة.
المسألة الثامنة: احتج بعضهم بهذه الآية على أن وجوب معرفة الله تعالى ووجوب الاشتغال بشكره معلوم بالعقل لا بالسمع. قال لأن إبراهيم عليه السلام حكم عليهم بالضلال، ولولا الوجوب العقلي لما حكم عليهم بالضلال. لأن ذلك المذهب كان متقدما على دعوة إبراهيم. ولقائل أن يقول: إنه كان ضلالا بحكم شرع الأنبياء الذين كانوا متقدمين على إبراهيم عليه السلام.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان مضمون هذه الآيات مضمون الآيات الثلاث المفتتح بها السورة الهادمة لمذهب الثنوية، وهم أهل فارس قوم إبراهيم عليه السلام، وكان إبراهيم عليه السلام يعرف بفضله جميع الطوائف، لأن أكثرهم من نسله كاليهود والنصارى والمشركين من العرب، والمسلمون لما يعلمون من إخلاصه لله تعالى وانتصابه لمحاجة من أشرك به واحتمال الأذى فيه سبحانه، تلاها بمحاجته لهم بما أبطل مذهبهم وأدحض حججهم فقال: {وإذ} أي اذكر ذلك المتقدم كله لهم في الدلائل على اختصاصنا بالخلق وتمام القدرة، ما أعظمه وما أجله وأضخمه! وتفكر في عجائبه وتدبر في دقائقه وغرائبه تجد ما لا يقدر على مثله إلا الله، واذكر إذ {قال إبراهيم} أي اذكر قوله، وحكمة التذكير بوقته التنبيهُ على أن هذا لم يزل ثابتاً مقرراً على ألسنة جميع الأنبياء في جميع الدهور، وكان في هذه المحاجة التصريح بما لوح إليه أول هذه السورة من إبطال هذا المذهب، وانعطف هذا على ذاك أيّ انعطاف! وصار كأنه قيل: ثم الذين كفروا بربهم يعدلون الأصنام والنجوم والنور والظلمة، فنبههم يا رسول الله على ذلك بأنه لا متصرف غيرنا، اذكر لهم أني أنا الذي خلقتهم وخلقت جميع ما يشاهدون من الجواهر والأعراض، فإن تنبهوا فهو حظهم، وإلا فاذكر لهم محاجة خليلنا إبراهيم عليه السلام إذ قال {لأبيه} ثم بينه في قراءة الجر بقوله: {آزر} وناداه في قراءة يعقوب بالضم؛ قال البخاري في تاريخه الكبير: إبراهيم بن آزر، وهو في التوراة: تارح -انتهى.
وقد مضى ذلك عن التوراة في البقرة، فلعل أحدهما لقب، وكان أهل تلك البلاد وهم الكلدانيون، ويقال لهم أيضاً الكسدانيون- بالمهملة موضع اللام -يعتقدون إلهية النجوم في السماء والأصنام في الأرض ويجعلون لكل نجم صنماً، إذا أرادوا التقرب إلى ذلك النجم عبدوا ذلك الصنم ليشفع لهم- كما زعموا -إلى النجم، فقال عليه السلام لأبيه منكراً عليه منبهاً له على ظهور فساد ما هو مرتكبه: {أتتخذ} أي أتكلف نفسك إلى خلاف ما تدعو إليه الفطرة الأولى بأن تجعل {أصناماً آلهة} أي تعبدها وتخضع لها ولا نفع فيها ولا ضر، فنبهه بهذا الإنكار على أن معرفة بطلان ما هو متدين به لا يحتاج إلى كثير تأمل، بل هو أمر بديهي أو قريب منه، فإنهم يباشرون أمرها بجميع جوانبهم ويعلمون أنها مصنوعة وليست بصانعة، وكثرتها تدل على بطلان إلهيتها بما أشار إليه قوله تعالى
{لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} [الأنبياء: 22].
ولما خص بالنصيحة أقرب الخلق إليه، عم بقية أقاربه فقال: {إني أراك وقومك} أي في اتفاقكم على هذا {في ضلال} أي بُعد عن الطريق المستقيم {مبين} أي ظاهر جداً ببديهة العقل مع مخالفته لكل نبي نبأه الله تعالى من آدم عليه السلام فمن بعده، فهو مع ظهوره في نفسه مظهر للحق من أن الإله لا يكون إلا كافياً لمن يعبده، وإلا كان فقيراً إلى تأله من يكفيه.
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
قال بعض مفسري الزيدية: ثمرة الآية الدلالة على وجوب النصيحة في الدين، لا سيما للأقارب، فإن من كان أقرب، فهو أهم. ولهذا قال تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين}، وقال تعالى: {قوا أنفسكم وأهليكم نارا}. وقال صلى الله علي وسلم:"ابدأ بنفسك ثم بمن تعول". ولهذا بدأ صلى الله عليه وسلم بعلي وخديجة وزيد، وكانوا معه في الدار، فآمنوا وسبقوا، ثم بسائر قريش، ثم بالعرب، ثم بالموالي. وبدأ إبراهيم بأبيه، ثم بقومه. وتدل هذه الآية على أن النصيحة في الدين والذم والتوبيخ لأجله. ليس من العقوق، كالهجرة – هكذا في "التهذيب "انتهى.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
بدأ الله سبحانه هذه السورة بعد حمد نفسه ببيان أصول الدين ومحاجة المشركين، فبين استحقاقه للعبادة وحده وإشراكهم به وتكذيبهم بالآيات التي أيد بها رسوله ورد ما لهم من الشبهة على الرسالة ثم لقن رسوله طوائف من الآيات البينات في إثبات التوحيد والرسالة والبعث مبدوءة بقوله: قل. قل، ثم أمره في هذه الآيات بالتذكير بدعوة أبيه إبراهيم عليهما الصلاة والسلام إلى مثل ما دعا إليه من التوحيد وتضليل عبدة الأصنام وما أراه الله من ملكوت السماوات والأرض وما استنبطه هو منه من آيات التوحيد وبطلان الشرك وإقامة الحجة على أهله، تأييدا لمصداق دعوته في سلالة ولده إسماعيل، عليهم الصلاة والتسليم. ولإبراهيم المكانة العليا من إجلال الأمة العربية كما أن اليهود والنصارى متفقون على إجلاله...
{وإذا قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة} هذه الجملة معطوفة على جملة « قل أندعو من دون الله» وما في حيزها (وهو آخر حجاج للمشركين في العقائد مبدوء بالأمر القولي. وسيعاد هذا الأسلوب في السورة حجاجا في الأحكام العلمية أيضا) والظرف فيها متعلق بفعل عهد حذفه تقديره اذكر، أي واذكر أيها الرسول لهؤلاء المشركين الذين لقناك ما تقدم من الحجج على بطلان شركهم، وضلالهم في عبادة ما لا يضرهم ولا ينفعهم، ومن بيان هدى الله تعالى والإسلام له – اذكر لهم عقب هذا – قصة إبراهيم جدهم الذي يجلونه ويدعون اتباع ملته حين قال لأبيه آزر منكرا عليه وعلى قومه شركهم: أتتخذ أصناما آلهة تعبدها من دون الله الذي خلقك وخلقها، وهو المستحق للعبادة من دونها؟
{إني أراك وقومك في ضلال مبين} الضلال العدول عن الطريق الموصل إلى الغاية التي يطلبها العاقل من سيره الحسي أو المعنوي. وغاية الدين تزكية النفس بمعرفة الله وعبادته وما شرعه من الأعمال والآداب للفوز بسعادة الدارين، وعبادة غير الله تعالى ولو بقصد التقرب إليه مدس للنفس مفسد لها فلا يوصلها إلا إلى الهلاك الأبدي، والتعبير عنها بالضلال ليس فيه سب ولا جفاء ولا غلظة كما زعم من استشكله من الولد للوالد وقابله بأمر الله تعالى لموسى وهارون أن يقولا لفرعون قولا لينا. وأجاب عنه بأنه حسن للمصلحة كالشدة في تربية الأولاد أحيانا، ومن استدل به على أن آزر كان عم إبراهيم لا والده. فالصواب أن التعبير بالضلال البين هنا بيان للواقع باللفظ الذي يدل عليه لغة كقوله تعالى: {ووجدك ضالا فهدى} [الضحى: 7] وكقولك لمن تراه منحرفا عن الطريق الحسي: إن الطريق من هنا فأنت حائد أو ضال عنه.
ومعنى قول إبراهيم لأبيه: إني أراك وقومك الذين يعبدون هذه الأصنام مثلك في ضلال عن صراط الحق المستقيم بين ظاهر لا شبهة فيه، فإن هذه الأصنام التي اتخذتموها آلهة لكم، لم تكن آلهة في أنفسها بل باتخاذكم وجعلكم، ولستم من خلقها وصنعها بل هي من صنعكم، ولا تقدر على نفعكم ولا ضركم، وذلك أنها تماثيل تنحتونها من الحجارة أو تقتطعونها من الخشب أو تصوغونها من المعدن فأنتم أفضل منها، ومساوون في أصل الخلقة لمن جعلت ممثلة لهم من الناس، أو لما صنعت مذكرة به من النيرات، ولا يليق بالإنسان أن يعبد ما دونه ولا ما هو مساو له في كونه مخلوقا مقهورا بتصرف الخالق، ومربوبا فقيرا محتاجا إلى الرب الغني القادر. وقد دلت آثار أولئك القوم التي اكتشفت في العراق على صحة ما عرف في التاريخ من عبادتهم للأصنام الكثيرة حتى كان يكون لكل منهم صنم خاص به سواء الملوك والسوقة في ذلك، وكانوا يعبدون الفلك ونيراته عامة، والدراري السبع خاصة، كما يعلم من قوله تعالى: {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض}.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
يقول تعالى: واذكر قصة إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، مثنيا عليه ومعظما في حال دعوته إلى التوحيد، ونهيه عن الشرك، وإذ قال لأبيه {آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً} أي: لا تنفع ولا تضر وليس لها من الأمر شيء، {إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} حيث عبدتم من لا يستحق من العبادة شيئا، وتركتم عبادة خالقكم، ورازقكم، ومدبركم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذا الدرس بطوله لحمة واحدة؛ يتناول موضوعا متصل الفقرات.. إنه يعالج الموضوع الأساسي في السورة -وهو بناء العقيدة على قاعدة من التعريف الشامل بحقيقة الألوهية وحقيقة العبودية، وما بينهما من ارتباطات- ولكنه يعالجه في أسلوب آخر غير ما جرى به السياق منذ أول السورة.. يعالجه في أسلوب القصص والتعقيب عليه.. مع استصحاب المؤثرات الموحية التي تزخر بها السورة؛ ومنها مشهد الاحتضار الكامل السمات؛ وذلك كله في نفس طويل رتيب يتوسط الموجات المتلاحقة التي تحدثنا عنها في تقديم السورة.. والدرس -في جملته- يعرض موكب الإيمان الموصول منذ نوح -عليه السلام، إلى محمد صلى الله عليه وسلم وفي مطلع هذا الموكب يستعرض حقيقة الألوهية- كما تتجلى في فطرة عبد من عباد الله الصالحين -إبراهيم عليه السلام- ويرسم مشهدا رائعا حقا للفطرة السليمة، وهي تبحث عن إلهها الحق، الذي تجده في أعماقها، بينما هي تصطدم في الخارج بانحرافات الجاهلية وتصوراتها. إلى أن يخلص لها تصور حق، يطابق ما ارتسم في أعماقها عن إلهها الحق. ويقوم على ما تحده في أطوائها من برهان داخلي هو أقوى وأثبت من المشهود المحسوس! ذلك حين يحكي السياق عن إبراهيم عليه السلام بعد اهتدائه إلى ربه الحق، واطمئنانه إلى ما وجده في قلبه منه: (وحاجه قومه. قال:أتحاجوني في الله وقد هدان؟ ولا أخاف ما تشركون به، إلا أن يشاء ربي شيئا، وسع ربي كل شيء علما، أفلا تتذكرون؟ وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا؟ فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون؟). ثم يمضي السياق مع موكب الإيمان الموصول؛ يقوده الرهط الكريم من رسل الله على توالي العصور؛ حيث يبدو شرك المشركين وتكذيب المكذبين لغوا لا وزن له، يتناثر على جانبي الموكب الجليل، الماضي في طريقه الموصول. وحيث يلتحم آخره مع أوله؛ فيؤلف الأمة الواحدة، يقتدي آخرها بالهدى الذي اهتدى به أولها، دون اعتبار لزمان أو مكان؛ ودون اعتبار لجنس أو قوم، ودون اعتبار لنسب أو لون.. فالحبل الموصول بين الجميع هو هذا الدين الواحد الذي يحمله ذلك الرهط الكريم. إنه مشهد رائع كذلك؛ يبدو من خلال قول الله تعالى لرسوله الكريم بعد استعراض الموكب العظيم: (ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده، ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون. أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة. فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين. أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده. قل:لا أسألكم عليه أجرا، إن هو إلا ذكرى للعالمين) وبعد استعراض هذا الموكب الجليل يجيء التنديد بمن يزعمون أن الله لم يرسل رسلا، ولم ينزل على بشر كتابا.. إنهم لم يقدروا الله حق قدره. فما قدر الله حق قدره من يقول:إنه -سبحانه- تارك الناس لأنفسهم وعقولهم وما يتعاورها من الأهواء والشهوات والضعف والقصور. فما يليق هذا بألوهية الله وربوبيته، وعلمه وحكمته وعدله ورحمته.. إنما اقتضت رحمة الله وعلمه ورحمته وعدله أن يرسل إلى عباده رسلا، وأن ينزل على بعض الرسل كتبا، ليحاولوا جميعا هداية البشرية إلى بارئها، واستنقاد فطرتها من الركام الذي يرين عليها، ويغلق منافذها، ويعطل أجهزة الالتقاط والاستجابة فيها.. ويضرب مثلا الكتاب الذي أنزل على موسى. وهذا الكتاب الذي يصدق ما بين يديه من الكتب جميعا.. وينتهي الدرس الطويل المتلاحم الفقرات باستنكار الافتراء ممن يفتري على الله، وادعاء من يزعم أنه يوحى إليه من الله، وادعاء القدرة على تنزيل مثل ما أنزل الله.. وهي الدعاوى التي كان يدعيها بعض من يواجهون الدعوة الإسلامية، وفيهم من ادعى الوحي وفيهم من ادعى النبوة. وفي الختام يجيء مشهد الاحتضار المكروب للمشركين: ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت، والملائكة باسطوا أيديهم:أخرجوا أنفسكم، اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون. ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة، وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم، وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء! لقد تقطع بينكم، وضل عنكم ما كنتم تزعمون!.. وهو مشهد كئيب مكروب رعيب؛ يجلله الهوان ويصاحبه التنديد والتأنيب. جزاء الاستكبار والإعراض والافتراء والتكذيب..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وقد تضمَّن ما حكي من كلام إبراهيم لأبيه أنَّه أنكر عليه شيئين: أحدهما جعله الصور آلهة مع أنَّها ظاهرة الانحطاط عن صفة الإلهية، وثانيهما تعدّد الآلهة ولذلك جُعل مفعولا {تتّخذ} جَمْعَيْن، ولم يُقل: أتتّخذ الصنم إلهاً... فحكى الله تعالى عن إبراهيم في هذه الآية بعض مواقفه مع أبيه وليس في ذلك ما تنافي البُرور به لأنّ المجاهرة بالحقّ دون سبّ ولا اعتداء لا ينافي البرور. ولم يزل العلماء يخطّئون أساتذتهم وأئمّتهم وآباءهم في المسائل العلمية بدون تنقيص.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
إنه الموقف الصلب الذي لا يهادن ولا يجامل ولا يغلّف الأشياء بغلافٍ سحري؛ بل يدفع الموقف إلى الأمام، بكل وضوحٍ وصراحة، بعيداً عن اللياقة التي تفرضها علاقة الابن بأبيه، لأن قضية العقيدة لا تخضع للجانب العاطفي من العلاقات، فعلاقة الإنسان بالحقيقة التي تربطه بالله أقوى من أيّة علاقة بأيّ إنسان كان.