نزلت بعد سورة المؤمنون ، وتضمنت الحديث عن تنزيل الكتاب ومهمة الرسول صلى الله عليه وسلم وخلق السماوات والأرض ، وشأنه تعالى في التدبير ، وأطوار خلق الإنسان ، ومقالة منكري البعث والرد عليهم ، وحال المجرمين يوم الحساب ، وموقف المؤمنين عند التذكير بالآيات ، وبيان الجزاء للمؤمنين والفاسقين ، وإنزال التوراة على موسى عليه الصلاة والسلام ومعاملة الله تعالى لبني إسرائيل ، وتوجيه كفار مكة إلى الاعتبار بهلاك من سبقهم ، ولفت أنظارهم ، ليؤمنوا بالبعث ، وسخريتهم من يوم الفتح ، والرد عليهم .
وأهم أهداف هذه السورة : لفت الأنظار إلى الآيات الكونية ، والحديث عن البعث ، والرد على منكريه ، وتوجيه الكفار إلى الاعتبار بهلاك من سبقهم .
1- ا . ل . م : حروف صيغ منها القرآن ، كما صيغ منها كلامكم ، فإذا عجزتم عن الإتيان بمثله كان عجزكم دليلا على أنه من عند الله ، ولم يقله بشر .
تفسير سورة السجدة{[1]}
قال البخاري في " كتاب الجمعة " : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا سفيان ، عن سعد بن إبراهيم ، عن عبد الرحمن بن هُرْمُز الأعرج ، {[2]} عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : كان النبي{[3]} صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر يوم الجمعة : { الم * تَنزيلُ } السجدة ، و{ هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ } .
ورواه مسلم أيضًا من حديث سفيان الثوري ، به . {[4]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا أسود بن عامر ، أخبرنا الحسن بن صالح ، عن لَيْث ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ { الم * تَنزيلُ } السجدة و{ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ } تفرد به أحمد . {[5]}
قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أول سورة " البقرة " بما أغنى عن إعادته .
القول في تأويل قوله تعالى : { الَمَ * تَنزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رّبّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقّ مِن رّبّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مّآ أَتَاهُم مّن نّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ لَعَلّهُمْ يَهْتَدُونَ } .
قال أبو حعفر : قد مضى البيان عن تأويل قوله الم بما فيه الكفاية . وقوله : تَنزِيلُ الكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ يقول تعالى ذكره : تنزيل الكتاب الذي نزّل على محمد صلى الله عليه وسلم ، لا شكّ فيه من ربّ العالمين : يقول : من ربّ الثقلين : الجنّ ، والإنس . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : الم تَنْزِيلُ الكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ لا شكّ فيه . وإنما معنى الكلام : أن هذا القرآن الذي أُنزل على محمد لا شكّ فيه أنه من عند الله ، وليس بشعر ولا سجع كاهن ، ولا هو مما تخرّصه محمد صلى الله عليه وسلم ، وإنما كذّب جلّ ثناؤه بذلك قول الذين قالُوا أساطِيرُ الأوّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وأصِيلاً وقول الذين قالوا : إنْ هَذَا إلاّ إفْكٌ افْتَرَاهُ وأعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ .
أشهر أسماء هذه السورة هو{ سورة السجدة } ، وهو أخصر أسمائها ، وهو المكتوب في السطر المجعول لاسم السورة من المصاحف المتداولة . وبهذا الاسم ترجم لها الترمذي في جامعه وذلك بإضافة كلمة { سورة } إلى كلمة { السجدة } . ولا بد من تقدير كلمة { ألم } محذوفة للاختصار إذ لا يكفي مجرد إضافة سورة إلى السجدة في تعريف هذه السورة ، فإنه لا تكون سجدة من سجود القرآن إلا في سورة من السور .
وتسمى أيضا { ألم تنزيل } ؛ روى الترمذي عن جابر بن عبد الله إن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا ينام حتى يقرأ { ألم تنزيل } و{ تبارك الذي بيده الملك } .
وتسمى { ألم تنزيل السجدة } . وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ يوم الجمعة في صلاة الفجر { ألم تنزيل السجدة } و{ هل أتى على الإنسان } . قال شارحو صحيح البخاري ضبط اللام من كلمة { تنزيل } بضمة على الحكاية ، وأما لفظ { السجدة } في هذا الحديث فقال ابن حجر هو بالنصب : وقال العيني والقسطلاني بالنصب على أنه عطف بيان يعني أنه بيان للفظ { ألم تنزيل } ، وهذا بعيد لأن لفظ السجدة ليس اسما لهذه السورة إلا بإضافة { سورة } إلى { السجدة } ، فالوجه أن يكون لفظ { السجدة } في كلام أبي هريرة مجرورا بإضافة مجموع { ألم تنزيل } إلى لفظ { السجدة } ، وسأبين كيفية هذه الإضافة .
وعنونها البخاري في صحيحه { سورة تنزيل السجدة } . ويجب أن يكون { تنزيل } مضمونا على حكاية لفظ القرآن ، فتميزت هذه السورة بوقوع سجدة تلاوة فيها من بين السور المفتتحة ب{ ألم } ، فلذلك فمن سماها { سورة السجدة } عنى تقدير مضاف أي سورة { ألم السجدة } .
ومن سماها { تنزيل السجدة } فهو على تقدير { ألم تنزيل السجدة } بجعل { ألم تنزيل } اسما مركبا ثم أضافته إلى السجدة ، أي ذات السجدة ، لزيادة التمييز والإيضاح ، وإلا فإن ذكر كلمة { تنزيل } كاف في تمييزها عما عداها من ذوات { ألم } ثم اختصر بحذف { ألم } وإبقاء { تنزيل } ، واضيف { تنزيل } إلى { السجدة } على ما سيأتي في توجيه تسميتها { ألم تنزيل السجدة } .
ومن سماها { إلم السجدة } فهو على إضافة { ألم } إلى { السجدة } إضافة على معنى اللام وجعل { ألم } اسما للسورة .
ومن سموها { ألم تنزيل السجدة } لم يتعرضوا لضبطها في شروح صحيح البخاري ولا في النسخ الصحيحة من الجامع الصحيح ، ويتعين أن يكون { ألم } مضافا إلى { تنزيل } على أن مجموع المضاف والمضاف إليه اسم لهذه السورة محكي لفظه ؛ فتكون كلمة { تنزيل } مضمونه على حكاية لفظها القرآني ، وأن يعتبر هذا المركب الإضافي اعتبار العلم مثل : عبد الله ، ويعتبر مجموع ذلك المركب الإضافي مضافا إلى السجدة إضافة المفردات ، وهو استعمال موجود ، ومنه قول تأبط شرا :
إني لمهد من ثنـائي فـقـاصـد *** به لبن عم الصدق شمس بن مالك
إذ أضاف مجموع ابن عم إلى الصدق ، ولم يرد إضافة عم إلى الصدق . وكذلك قول أحد الطائيين في ديوان الحماسة :
داو ابن السوء بالنأي والغنـى *** كفى بالغنى والنأي عنه مداويا
فإنه ما أراد وصف عمه بالسوء ولكنه أراد وصف ابن عمه بالسوء . فأضاف مجموع ابن عم إلى السوء ، ومثله قول رجل من كلب في ديوان الحماسة :
هنيئا لابن عم السوء أني *** مجاورة بني ثعل لبوني
وقال عيينة بن مرداس في الحماسة :
فلما عرفت اليأس منه وقد بدت *** أيادي سبا الحاجات للمتذكـر
فأضاف مجموع أيادي سبا وهو كالمفرد لأنه جرى مجرى المثل إلى الحاجات .
أنا ابن عم الليل وابن خاله *** إذا دجى دخلت في سرباله
فأضاف ( ابن عم ) إلى لفظ ( الليل ) ، وأضاف ( ابن خال ) إلى ضمير ( الليل ) على معنى أنا مخالط الليل ، ولا يريد إضافة عم ولا خال إلى الليل .
ومن هذا اسم عبد الله بن قيس الرقيات ، فالمضاف إلى الرقيات هو مجموع المركب إما عبد الله ، أو ابن قيس لا أحد مفرداته .
وهذه الإضافة قريبة من إضافة العدد المركب إلى من يضاف إليه مع بقاء اسم العدد على بنائه كما تقول : أعطه خمسة عشره .
وتسمى هذه السورة أيضا { سورة المضاجع } لوقوع لفظ { المضاجع } في قوله تعالى : { تتجافى جنوبهم عن المضاجع } .
وفي تفسير القرطبي عن مسند الدرامي أن خالد بن معدان{[1]} سماها { المنجية } . قال : بلغني أن رجلا يقرؤها ما يقرأ شيئا غيرها ، وكان كثير الخطايا فنشرت جناحها وقالت : رب اغفر له فإنه كان يكثر من قراءتي فشفعها الرب فيه وقال : اكتبوا له بكل خطيئة حسنة وارفعوا له درجة اهـ .
وقال الطبرسي : تسمى { سورة سجدة لقمان } لوقوعها بعد سورة لقمان لئلا تلتبس بسورة { حم السجدة } ، أي كما سموا سورة { حم السجدة } وهي سورة فصلت { سورة سجدة المؤمن } لوقوعها بعد { سورة المؤمنين } .
وهي مكية في إطلاق أكثر المفسرين وإحدى روايتين عن ابن عباس ، وفي رواية أخرى عنه استثناء ثلاث آيات مدنية وهي { أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا } إلى { لعلهم يرجعون } . قيل نزلت يوم بدر في علي بن أبي طالب والوليد ابن عقبة وسيأتي إبطاله . وزاد بعضهم آيتين { تتجافى جنوبهم عن المضاجع } إلى { بما كانوا يعملون } لما روي في سبب نزولها وهو ضعيف .
والذي نعول عليه أن السورة كلها مكية وأن ما خالف ذلك إن هو إلا تأويل أو إلحاق خاص بعام كما أصلنا في المقدمة الخامسة .
نزلت بعد سورة النحل وقبل سورة نوح ، وقد عدت الثالثة والسبعين في النزول .
وعدت آياتها عند جمهور العادين ثلاثين ، وعدها البصريون سبعا وعشرين .
أولها التنويه بالقرآن أنه منزل من عند الله ، وتوبيخ المشركين على ادعائهم أنه مفترى بأنهم لم يسبق لهم التشرف بنزول كتاب .
والاستدلال على إبطال إلهية أصنامهم بإثبات انفراد الله بأنه خالق السماوات والأرض ومدبر أمورهما .
وذكر البعث والاستدلال على كيفية بدء خلق الإنسان ونسله ، وتنظيره بإحياء الأرض ، وأدمج في ذلك أن إحياء الأرض نعمة عليهم كفروا بمسديها .
والإنحاء على الذين أنكروه ووعيدهم .
والثناء على المصدقين بآيات الله ووعدهم ، ومقابلة إيمانهم بكفر المشركين ، ثم إثبات رسالة رسول عظيم قبل محمد صلى الله عليه وسلم هدى به أمة عظيمة .
والتذمير بما حل بالمكذبين السابقين ليكون ذلك عظة للحاضرين ، وتهديدهم بالنصر الحاصل للمؤمنين .
وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالإعراض عنه تحقيرا لهم ، ووعده بانتظار نصره عليهم .
ومن مزايا هذه السورة وفضائلها ما رواه الترمذي والنسائي وأحمد والدرامي عن جابر بن عبد الله قال كان النبي لا ينام حتى يقرأ { ألم تنزيل السجدة } و{ تبارك الذي بيده الملك } .