في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{الٓمٓ} (1)

مقدمة السورة:

سورة السجدة مكية وآياتها ثلاثون

هذه السورة المكية نموذج آخر من نماذج الخطاب القرآني للقلب البشري بالعقيدة الضخمة التي جاء القرآن ليوقظها في الفطر ، ويركزها في القلوب : عقيدة الدينونة لله الأحد الفرد الصمد ، خالق الكون والناس ، ومدبر السماوات والأرض وما بينهما وما فيهما من خلائق لا يعلمها إلا الله . والتصديق برسالة محمد [ صلى الله عليه وسلم ] الموحى إليه بهذا القرآن لهداية البشر إلى الله . والاعتقاد بالبعث والقيامة والحساب والجزاء .

هذه هي القضية التي تعالجها السورة ؛ وهي القضية التي تعالجها سائر السور المكية . كل منها تعالجها بأسلوب خاص ، ومؤثرات خاصة ؛ تلتقي كلها في أنها تخاطب القلب البشري خطاب العليم الخبير ، المطلع على أسرار هذه القلوب وخفاياها ، ومنحنياتها ودروبها ، العارف بطبيعتها وتكوينها ، وما يستكن فيها من مشاعر ، وما يعتريها من تأثرات واستجابات في جميع الأحوال والظروف .

وسورة السجدة تعالج تلك القضية بأسلوب وبطريقة غير أسلوب وطريقة سورة لقمان السابقة . فهي تعرضها في آياتها الأولى ؛ ثم تمضي بقيتها تقدم مؤثرات موقظة للقلب ، منيرة للروح ، مثيرة للتأمل والتدبر ؛ كما تقدم أدلة وبراهين على تلك القضية معروضة في صفحة الكون ومشاهده ؛ وفي نشأة الإنسان وأطواره ؛ وفي مشاهد من اليوم الآخر حافلة بالحياة والحركة ؛ وفي مصارع الغابرين وآثارهم الناطقة بالعبرة لمن يسمع لها ويتدبر منطقها !

كذلك ترسم السورة صورا للنفوس المؤمنة في خشوعها وتطلعها إلى ربها . وللنفوس الجاحدة في عنادها ولجاجها ؛ وتعرض صورا للجزاء الذي يتلقاه هؤلاء وهؤلاء ، وكأنها واقع مشهود حاضر للعيان ، يشهده كل قارئ لهذا القرآن .

وفي كل هذه المعارض والمشاهد تواجه القلب البشري بما يوقظه ويحركه ويقوده إلى التأمل والتدبر مرة ، وإلى الخوف والخشية مرة ، وإلى التطلع والرجاء مرة . وتطالعه تارة بالتحذير والتهديد ، وتارة بالإطماع ، وتارة بالإقناع . . ثم تدعه في النهاية تحت هذه المؤثرات وأمام تلك البراهين . تدعه لنفسه يختار طريقه ، وينتظر مصيره على علم وعلى هدى وعلى نور .

ويمضي سياق السورة في عرض تلك القضية في أربعة مقاطع أو خمسة متلاحقة متصلة : يبدأ بالأحرف المقطعة ( ألف . لام . ميم )منبها بها إلى تنزيل الكتاب من جنس هذه الأحرف . ونفي الريب عن تنزيله والوحي به : ( من رب العالمين ) . . ويسأل سؤال استنكار عما إذا كانوا يقولون : افتراه . ويؤكد أنه الحق من ربه لينذر قومه ( لعلهم يهتدون ) . .

وهذه هي القضية الأولى من قضايا العقيدة : قضية الوحي وصدق الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] في التبليغ عن رب العالمين .

ثم يعرض قضية الألوهية وصفتها في صفحة الوجود : في خلق السماوات والأرض وما بينهما ، وفي الهيمنة على الكون وتدبير الأمر في السماوات والأرض ، ورفع الأمر إليه في اليوم الآخر . . ثم في نشأة الإنسان وأطواره وما وهبه الله من السمع والبصر والإدراك . والناس بعد ذلك قليلا ما يشكرون .

وهذه هي القضية الثانية : قضية الألوهية وصفتها : صفة الخلق ، وصفة التدبير ، وصفة الإحسان ، وصفة الإنعام ، وصفة العلم . وصفة الرحمة . وكلها مذكورة في سياق آيات الخلق والتكوين .

ثم يعرض قضية البعث ، وشكهم فيه بعد تفرق ذراتهم في التراب : وقالوا : أئذا ضللنا في الأرض أئنا لفي خلق جديد ? ويرد على هذا الشك بصيغة الجزم واليقين .

وهذه هي القضية الثالثة : قضية البعث والمصير .

ومن ثم يعرض مشهدا من مشاهد القيامة : إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم يعلنون يقينهم بالآخرة ويقينهم بالحق الذي جاءتهم به الدعوة . ويقولون الكلمة التي لو قالوها في الدنيا لفتحت لهم أبواب الجنة ؛ ولكنها في موقفهم ذاك لا تجدي شيئا ولا تفيد . لعل هذا المشهد أن يوقظهم - قبل فوات الأوان - لقول الكلمة التي سيقولونها في الموقف العصيب . فيقولوها الآن في وقتها المطلوب .

وإلى جوار هذا المشهد البائس المكروب يعرض مشهد المؤمنين في هذه الأرض : إذا ذكروا بآيات ربهم . . ( خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون . تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون ) . . وهي صورة موحية شفيفة ترف حولها القلوب . يعرض إلى جوارها ما أعده الله لهذه النفوس الخاشعة الخائفة الطامعة من نعيم يعلو على تصور البشر الفانين : ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ) . . ويعقب عليه بمشهد سريع لمصائر المؤمنين والفاسقين في جنة المأوى وفي نار الجحيم وبتهديد المجرمين بالانتقام منهم في الأرض أيضا قبل أن يلاقوا مصيرهم الأليم .

ثم ترد إشارة إلى موسى - عليه السلام - ووحدة رسالته ورسالة محمد [ صلى الله عليه وسلم ] والمهتدين من قومه ، وصبرهم على الدعوة ، وجزائهم على هذا الصبر بأن جعلهم الله أئمة . وفي هذه الإشارة إيحاء بالصبر على ما يلقاه الدعاة إلى الإسلام من كيد ومن تكذيب .

وتعقب هذه الإشارة جولة في مصارع الغابرين من القرون ، وهم يمشون في مساكنهم غافلين . . ثم جولة في الأرض الميتة ينزل عليها الماء بالحياة والنماء ؛ فيتقابل مشهد البلى ومشهد الحياة في سطور .

وتختم السورة بحكاية قولهم : ( متى هذا الفتح ? )وهم يتساءلون في شك عن يوم الفتح الذي يتحقق فيه الوعيد . والجواب بالتخويف من هذا اليوم والتهديد . وتوجيه الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ليعرض عنهم ويدعهم لمصيرهم المحتوم .

والآن نأخذ في عرض السورة بالتفصيل :

ألم . تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين . أم يقولون : افتراه ? بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون . .

ألف . لام . ميم . . هذه الأحرف التي يعرفها العرب المخاطبون بهذا الكتاب ؛ ويعرفون ما يملكون أن يصوغوا منها ومن نظائرها من كلام ، ويدركون الفارق الهائل بين ما يملكون أن يصوغوه منها وبين هذا القرآن ؛ وهو فارق يدركه كل خبير بالقول ، وكل من يمارس التعبير باللفظ عن المعاني والأفكار . كما يدرك أن في النصوص القرآنية قوة خفية ، وعنصرا مستكنا ، يجعل لها سلطانا وإيقاعا في القلب والحس ليسا لسائر القول المؤلف من أحرف اللغة ، مما يقوله البشر في جميع الأعصار . وهي ظاهرة ملحوظة لا سبيل إلى الجدال فيها ، لأن السامع يدركها ، ويميزها ، ويهتز لها ، من بين سائر القول ، ولو لم يعلم سلفا أن هذا قرآن ! والتجارب الكثيرة تؤكد هذه الظاهرة في شتى أوساط الناس .

والفارق بين القرآن وما يصوغه البشر من هذه الحروف من كلام ، هو كالفارق بين صنعة الله وصنعة البشر في سائر الأشياء . صنعة الله واضحة مميزة ، لا تبلغ إليها صنعة البشر في أصغر الأشياء . وإن توزيع الألوان في زهرة واحدة ليبدو معجزة لأمهر الرسامين في جميع العصور . . وكذلك صنع الله في القرآن وصنع البشر فيما يصوغون من هذه الحروف من كلام !

ألف . لام . ميم ، تنزيل الكتاب - لا ريب فيه - من رب العالمين . . قضية مقطوع بها ، لا سبيل إلى الشك فيها . قضية تنزيل الكتاب من رب العالمين . . ويعجل السياق بنفي الريب في منتصف الآية ، بين المبتدأ فيها والخبر ، لأن هذا هو صلب القضية ، والنقطة المقصودة في النص . والتمهيد لها بذكر هذه الأحرف المقطعة يضع المرتابين الشاكين وجها لوجه أمام واقع الأمر ، الذي لا سبيل إلى الجدل فيه . فهذا الكتاب مصوغ من جنس هذه الأحرف التي يعرفون ؛ ونمطه هو هذا النمط المعجز الذي لا يمارون في إعجازه ، أمام التجربة الواقعة ، وأمام موازين القول التي يقر بها الجميع .

إن كل آية وكل سورة تنبض بالعنصر المستكن العجيب المعجز في هذا القرآن ؛ وتشي بالقوة الخفية المودعة في هذا الكلام . وإن الكيان الإنساني ليهتز ويرتجف ويتزايل ولا يملك التماسك أمام هذا القرآن ، كلما تفتح القلب ، وصفا الحس ، وارتفع الإدراك ، وارتفعت حساسية التلقي والاستجابة . وإن هذه الظاهرة لتزداد وضوحا كلما اتسعت ثقافة الإنسان ، ومعرفته بهذا الكون وما فيه ومن فيه . فليست هي مجرد وهلة تأثيرية وجدانية غامضة . فهي متحققة حين يخاطب القرآن الفطرة خطابا مباشرا . وهي متحققة كذلك حين يخاطب القلب المجرب ، والعقل المثقف ، والذهن الحافل بالعلم والمعلومات . وإن نصوصه ليتسع مدى مدلولاتها ومفهوماتها وإيقاعاتها على السواء كلما ارتفعت درجة العلم والثقافة والمعرفة ، ما دامت الفطرة مستقيمة لم تنحرف ولم تطمس عليها الأهواء مما يجزم بأن هذا القرآن صنعة غير بشرية على وجه اليقين ، وأنه تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين .