ثم عزاهم فقال :{ ولقد فتنا الذين من قبلهم } يعني الأنبياء والمؤمنين ، فمنهم من نشر بالمنشار ومنهم من قتل ، وابتلي بنو إسرائيل بفرعون فكان يسومهم سوء العذاب ، { فليعلمن الله الذين صدقوا } في قولهم آمناً ، { وليعلمن الكاذبين } والله أعلم بهم قبل الاختبار . ومعنى الآية : وليظهرن الله الصادقين من الكاذبين حتى يوجد معلومه ، وقال مقاتل : فليرين الله . وقيل : ليميزن الله كقوله : { ليميز الله الخبيث من الطيب } .
يخبر تعالى عن [ تمام ] حكمته وأن حكمته لا تقتضي أن كل من قال " إنه مؤمن " وادعى لنفسه الإيمان ، أن يبقوا في حالة يسلمون فيها من الفتن والمحن ، ولا يعرض لهم ما يشوش عليهم إيمانهم وفروعه .
فإنهم لو كان الأمر كذلك ، لم يتميز الصادق من الكاذب ، والمحق من المبطل ، ولكن سنته وعادته في الأولين وفي هذه الأمة ، أن يبتليهم بالسراء والضراء ، والعسر واليسر ، والمنشط والمكره ، والغنى والفقر ، وإدالة الأعداء عليهم في بعض الأحيان ، ومجاهدة الأعداء بالقول والعمل ونحو ذلك من الفتن ، التي ترجع كلها إلى فتنة الشبهات المعارضة للعقيدة ، والشهوات المعارضة للإرادة ، فمن كان عند ورود الشبهات يثبت إيمانه ولا يتزلزل ، ويدفعها{[619]} بما معه من الحق وعند ورود الشهوات الموجبة والداعية إلى المعاصي والذنوب ، أو الصارفة عن ما أمر اللّه به ورسوله ، يعمل بمقتضى الإيمان ، ويجاهد شهوته ، دل ذلك على صدق إيمانه وصحته .
ومن كان عند ورود الشبهات تؤثر في قلبه شكا وريبا ، وعند اعتراض الشهوات تصرفه إلى المعاصي أو تصدفه عن الواجبات ، دلَّ ذلك على عدم صحة إيمانه وصدقه .
والناس في هذا المقام درجات لا يحصيها إلا اللّه ، فمستقل ومستكثر ، فنسأل اللّه تعالى أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، وأن يثبت قلوبنا على دينه ، فالابتلاء والامتحان للنفوس بمنزلة الكير ، يخرج خبثها وطيبها .
أي : الذين صدقوا في دعواهم الإيمان مِمَّنْ هو كاذب في قوله ودعواه . والله سبحانه وتعالى يعلم ما كان وما يكون ، وما لم يكن لو كان كيف يكون{[22485]} . وهذا مجمع عليه عند أئمة السنة والجماعة ؛ ولهذا يقول ابن عباس وغيره في مثل : { إِلا لِنَعْلَمَ } [ البقرة : 143 ] : إلا لنرى ؛ وذلك أن الرؤية إنما تتعلق بالموجود ، والعلم أعم من الرؤية ، فإنه [ يتعلق ]{[22486]} بالمعدوم والموجود .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ فَتَنّا الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنّ اللّهُ الّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنّ الْكَاذِبِينَ } .
يقول تعالى ذكره : ولقد اختبرنا الذين من قبلهم من الأمم ، ممن أرسلنا إليهم رسلنا ، فقالوا مثل ما قالته أمتك يا محمد بأعدائهم ، وتمكيننا إياهم من أذاهم ، كموسى إذا أرسلناه إلى بني إسرائيل ، فابتليناهم بفرعون وملئهم ، وكعيسى إذ أرسلناه إلى بني إسرائيل ، فابتلَينا من اتبعه بمن توَلى عنه ، فكذلك ابتلينا أتباعك بمخالفيك من أعدائك فَلَيَعْلَمَنّ اللّهُ الّذِينَ صَدَقُوا منهم في قيلهم آمنا وَلَيَعْلَمَنّ الكاذِبِين منهم في قيلهم ذلك ، والله عالم بذلك منهم قبل الاختبار ، وفي حال الاختبار ، وبعد الاختبار ، ولكن معنى ذلك : ولَيُظْهِرَنّ الله صدق الصادق منهم في قيله آمنا بالله من كذب الكاذب منهم بابتلائه إياه بعدوّه ، ليعلم صدقه من كذبه أولياؤه ، على نحو ما قد بيّناه فيما مضى قبلُ .
وذكر أن هذه الاَية نزلت في قوم من المسلمين عذّبهم المشركون ، ففتن بعضهم ، وصبر بعضهم على أذاهم حتى أتاهم الله بفرج من عنده . ذكر الرواية بذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : سمعت عبد الله بن عبيد بن عمير يقول : نزلت ، يعني هذه الاَية الم . أحَسِبَ الناسُ أنْ يُتْرَكُوا أنْ يَقُولُوا آمَنّا . . . إلى قوله وَلَيَعْلَمَنّ الكاذِبِينَ في عمّار بن ياسر ، إذ كان يعذّب في الله .
وقال آخرون : بل نزل ذلك من أجل قوم كانوا قد أظهروا الإسلام بمكة ، وتخلفوا عن الهجرة ، والفتنة التي فتن بها هؤلاء القوم على مقالة هؤلاء ، هي الهجرة التي امتحنوا بها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن مطر ، عن الشعبيّ ، قال : إنها نزلت ، يعني الم . أحَسِبَ النّاسُ أنْ يُترَكُوا الاَيتين في أناس كانوا بمكة أقرّوا بالإسلام ، فكتب إليهم أصحاب محمد نبيّ الله صلى الله عليه وسلم من المدينة : إنه لا يقبل منكم إقرارا بالإسلام حتى تهاجروا ، فخرجوا عامدين إلى المدينة ، فاتبعهم المشركون ، فردّوهم ، فنزلت فيهم هذه الاَية ، فكتبوا إليهم : إنه قد نزلت فيكم آية كذا وكذا ، فقالوا : نخرج ، فإن اتبعنا أحد قاتلناه قال : فخرجوا فاتبعهم المشركون فقاتلوهم ثم ، فمنهم من قتل ، ومنهم من نجا ، فأنزل الله فيهم : ثُمّ إنّ رَبّكَ لِلّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ، ثُمّ جاهَدُوا وَصَبرُوا إنّ رَبّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رحِيمٌ .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله وَلَقَدْ فَتَنّا قال : ابتلينا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثْله .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي هاشم ، عن مجاهد وَلَقَدْ فَتَنّا الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قال : ابتلينا الذين من قبلهم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن أبي هاشم ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله وَلَقَدْ فَتَنّا الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي ابتلينا .
{ ولقد فتنا الذين من قبلهم } متصل ب { أحسب } أو ب { لا يفتنون } ، والمعنى أن ذلك سنة قديمة جارية في الأمم كلها فلا ينبغي أن يتوقع خلافه . { فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين } فليتعلقن علمه بالامتحان تعلقا حاليا يتميز به الذين صدقوا في الإيمان والذين كانوا فيه ، وينوط به ثوابهم وعقابهم ولذلك قيل المعنى وليميزن أو ليجازين ، وقرئ " وليعلمن " من الإعلام أي وليعرفنهم الله الناس أو ليسمنهم بسمة يعرفون بها يوم القيامة كبياض الوجوه وسوادها .
انتقال إلى التنويه بالفتون لأجل الإيمان بالله بأنه سنة الله في سالف أهل الإيمان وتأكيد الجملة بلام القسم وحرف التحقيق لتنزيل المؤمنين حين استعظموا ما نالهم من الفتنة من المشركين واستبطأوا النصر على الظالمين ، وذهولهم عن سنة الكون في تلك الحالة منزلة من ينكر أن من يخالف الدهماء في ضلالهم ويتجافى عن أخلاقهم ورذالتهم لا بدّ أن تلحقه منهم فتنة .
ولما كان هذا السنن من آثار ما طبع الله عليه عقول غالب البشر وتفكيرهم غير المعصوم بالدلائل وكان حاصلاً في الأمم السالفة كلها أسند فتون تلك الأمم إلى الله تعالى إسناداً مجازياً لأنه خالق أسبابه كما خلق أسباب العصمة منه لمن كان أهلاً للعصمة من مثله ، وفي هذا الإسناد إيماء إلى أن الذي خلق أسباب تلك الفتن قريبها وبعيدها قادر على صرفها بأسباب تضادها . وإلى هذا يشير دعاء موسى عليه السلام المحكي في سورة [ يونس : 88 ] { وقال موسى ربنا إنك ءاتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدُد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم } فسأل الله أن يخلق ضد الأسباب التي غرّت فرعون وملأه وغشيت على قلبه بالضلال .
والمقصود التذكير بما لحق صالحي الأمم السالفة من الأذى والاضطهاد كما لقي صالحو النصارى من مشركي الرومان في عصور المسيحية الأولى ، وقد قص القرآن بعض ذلك في سورة البروج .
وحكمها سار في حال كل من يتمسك بالحق بين قوم يستخفون به من المسلمين لأن نكران الحق أنواع كثيرة .
والواو الداخلة على جملة { ولقد فتنا الذين من قبلهم } يجوز أن تكون عاطفة على جملة { أحَسِبَ الناس } [ العنكبوت : 2 ] ، ويجوز كونها عاطفة على جملة { وهم لا يفتنون } [ العنكبوت : 2 ] فتكون بمعنى الحال ، أي والحال قد فتنا الذين من قبلهم ، وعلى كلا التقديرين فالجملة معترضة بين ما قبلها وما تفرّع عنه من قوله { فليعلمنّ الله الذين صدقوا } . فلك أن تسمي تلك الواو اعتراضية . وإسناد فعل { فتنا } إلى الله تعالى لقصد تشريف هذه الفتون بأنه جرى على سنة الله في الأمم . فالفاء في قوله { فليعلمن الله الذين صدقوا } تفريع على جملة { وهم لا يفتنون } [ العنكبوت : 2 ] ، أي يفتنون فيعلم الله الذين صدقوا منهم والكاذبين . والمفرع هو علم الله الحاصل في المستقبل كما يقتضيه توكيد فعل العلم بنون التوكيد التي لا يؤكد بها المضارع إلا مستقبلاً . وهو تعلق بالمعلوم شبيه بالتعلق التنجيزي لصفتي الإرادة والقدرة وإن لم يسموه بهذا الاسم .
والمراد بالصدق هنا ثبات الشيء ورسوخه ، وبالكذب ارتفاعه وتزلزله ؛ وذلك أن المؤمنين حين قالوا { آمنا } [ العنكبوت : 2 ] لم يكن منهم من هو كاذب في إخباره عن نفسه بأنه اعتقد عقيدة الإيمان واتبع رسوله ، فإذا لحقهم الفتون من أجل دخولهم في دين الإسلام فمن لم يعبأ بذلك ولم يترك اتباع الرسول فقد تبين رسوخ إيمانه ورباطة عزمه فكان إيمانه حقاً وصدقاً ، ومن ترك الإيمان خوف الفتنة فقد استبان من حاله عدم رسوخ إيمانه وتزلزله ، وهذا كقول النابغة :
وقول الأعشى في ضده يصف راحلته :
جُمَالِيّة تَغْتَلي بالرِّدا *** فِ إذا كذب الآثِمَاتُ الهجيرا
وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى : { أن لهم قدم صدق عند ربهم } في أول سورة [ يونس : 2 ] .
ولما كان علم الله بمن يكون إيمانه صادقاً عند الفتون ومن يكون إيمانه كاذباً بهذين المعنيين متقرراً في الأزل من قبل أن يحصل الفتون والصدقُ والكذب تعين تأويل فعل { فليعلمن } بمعنى : فليعلمن بكذب إيمانهم بهذا المعنى ، فهو من تعلق العلم بحصول أمر كان في علم الله أنه سيكون وهو شبيه بتعلق الإرادة المعبر عنه بالتعلق التنجيزي ولا مانع من إثبات تعلقين لعلم الله تعالى : أحدهما قديم ، والآخر تنجيزي حادث . ولا يفضي ذلك إلى اتصاف الله تعالى بوصف حادث لأن تعلق الصفة تحقق مقتضاها في الخارج لا في ذات موصوفها ، وتقدم عند قوله تعالى { إلا لِنَعْلَم مَن يتَّبع الرسول } في سورة [ البقرة : 143 ] ، وقوله { وليعلم الله الذين ءامنوا ويتّخذ منكم شهداء } في [ آل عمران : 140 ] .
ولك أن تجعل العلم هنا مكنى به عن وعد الصادقين ووعيد الكاذبين لأن العلم سبب للجزاء بما يقتضيه فكانت الكناية مقصودة وهو المعنى الأهم .
وقد عدل في قوله { فليعلمن الله } عن طريق التكلم إلى طريق الغيبة بإظهار اسم الجلالة على أسلوب الالتفات لما في هذا الإظهار من الجلالة ليعلم أن الجزاء على ذلك جزاء مالك المُلك .
وتعريف المتصفين بصدق الإيمان بالموصول والصلة الماضوية لإفادة أنهم اشتهروا بحدثان صدق الإيمان وأن صدقهم مُحقق .
وأما تعريف المتصفين بالكذب بطريق التعريف باللام وبصيغة اسم الفاعل فلإفادة أنهم عُهدوا بهذا الوصف وتميزوا به مع ما في ذلك من التفنن والرعاية على الفاصلة .
روى الطبري عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال : نزلت هذه الآية { الم أَحَسِبَ الناس أن يتركوا } إلى قوله { وليعلمن الكاذبينا } [ لعنكبوت : 13 ] في عمار بن ياسر إذ كان يُعذَّب في الله ، أي وأمثاله عياش بن أبي ربيعة ، والوليد بن الوليد ، وسلمة بن هشام ممن كانوا يعذبون بمكة وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لهم الله بالنجاة لهم وللمستضعفين من المؤمنين .