{ كلا } قال مقاتل : أي لا يؤمنون ، ثم استأنف : { بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } .
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الصمد الترابي ، حدثنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي ، أنبأنا إبراهيم بن حزيم الشاشي ، أنبأنا أبو محمد عبد الله بن حميد الكمتي ، حدثنا صفوان بن عيسى ، عن ابن عجلان ، عن القعقاع بن حكيم ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه ، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه منها ، وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه ، فذلك الران الذي ذكر الله في كتابه : { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } " . وأصل الرين : الغلبة ، يقال : رانت الخمر على عقله ترين ريناً وريوناً إذا غلبت عليه حتى سكر . ومعنى الآية ، غلبت على قلوبهم المعاصي وأحاطت بها . قال الحسن : هو الذنب على الذنب حتى يموت القلب . قال ابن عباس : { ران على قلوبهم } : طبع عليها .
وأما من أنصف ، وكان مقصوده الحق المبين ، فإنه لا يكذب بيوم الدين ، لأن الله قد أقام عليه من الأدلة القاطعة ، والبراهين الساطعة ، ما يجعله حق اليقين ، وصار لقلوبهم مثل الشمس للأبصار{[1382]} ، بخلاف من ران على قلبه كسبه ، وغطته معاصيه ، فإنه محجوب عن الحق .
ويعقب على هذا التطاول والتكذيب بالزجر والردع : ( كلا ! )ليس كما يقولون . .
ثم يكشف عن علة هذا التطاول وهذا التكذيب ؛ وهذه الغفلة عن الحق الواضح وهذا الانطماس في قلوب المكذبين :
( بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ) . .
أي غطى على قلوبهم ما كانوا يكسبونه من الإثم والمعصية . والقلب الذي يمرد على المعصية ينطمس ويظلم ؛ ويرين عليه غطاء كثيف يحجب النور عنه ويحجبه عن النور ، ويفقده الحساسية شيئا فشيئا حتى يتبلد ويموت . .
روى ابن جرير والترمذي والنسائي وابن ماجة من طرق ، عن محمد بن عجلان ، عن القعقاع بن حكيم ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] قال : " إن العبد إذا أذنب ذنبا كانت نكتة سوداء في قلبه . فإن تاب منها صقل قلبه وإن زاد زادت " . . وقال الترمذي حسن صحيح . ولفظ النسائي : " إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكت في قلبه نكتة سوداء . فإن هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه فإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه ، فهو الران الذي قال الله تعالى : ( كلا ! بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ) . . "
وقال الحسن البصري : هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب فيموت . .
ذلك حال الفجار المكذبين . وهذه هي علة الفجور والتكذيب . . ثم يذكر شيئا عن مصيرهم في ذلك اليوم العظيم . يناسب علة الفجور والتكذيب :
اعتراض بالردع وبيان له ، لأن { كلاّ } ردع لقولهم أساطير الأولين ، أي أن قولهم باطل . وحرف { بل } للإِبطال تأكيداً لمضمون { كلاّ } وبياناً وكشفاً لما حملهم على أن يقولوا في القرآن ما قالوا وأنه ما أعمى بصائرَهم من الرّيْن .
والرّين : الصدأ الذي يعلو حديدَ السيف والمِرآةِ ، ويقال في مصدر الرَّين الرانُ مثل العيب والعَاب ، والذيْم والذام .
وأصل فعله أن يسند إلى الشيء الذي أصابه الريْن ، فيقال : ران السيف وران الثوب ، إذا أصابه الريْن ، أي صار ذا رين ، ولما فيه من معنى التغطئة أطلق على التغطية فجاء منه فعل ران بمعنى غشي ، فقالوا : ران النعاس على فلان ، ورانت الخمر ، وكذلك قوله تعالى : { ران على قلوبهم } هو من باب رَان الرينُ على السيف ، وليس من باب رانَ السيفُ ، ومن استعمال القرآن هذا الفعل صار الناس يقولون : رِين على قلب فلان وفلان مَرينٌ على قلبه .
والمعنى : غَطَّت على قلوبهم أعمالهم أن يدخلها فهمُ القرآن والبوننِ الشاسِع بينه وبين أساطير الأولين .
وقرأ الجمهور بإدغام اللام في الراء بعد قلبها راء لتقارب مخرجيها .
وقرأه عاصم بالوقف على لام ( بل ) والابتداء بكلمة ران تجنباً للإدغام .
وقرأه حفص بسكتة خفيفة على لام { بل } ليبين أنها لام . قال في « اللسان » : إظهار اللام لغة لأهل الحجاز . قال سيبويه : هما حسنان ، وقال الزجاج : الإِدغام أرجح .
والقلوب : العقول ومَحالُّ الإِدراك . وهذا كقوله تعالى : { ختم اللَّه على قلوبهم } في سورة البقرة ( 7 ) .
ومن كلام رعاة الأعراب يخاطبون إبلهم في زمن شدة البرد إذا أوردوها الماءَ فاشمأزت منه لبرده بَرِّديهِ تَجديه سَخيناً أي بَلْ رديه وذلك من المُلَح الشبيهة بالمعاياة إذ في ظاهره طلب تبريده وأنه بالتبريد يوجد سخيناً .
و{ ما كانوا يكسبون } ما عملوه سالفاً من سيئات أعمالهم وجماحهم عن التدبر في الآيات حتى صار الإعراض والعناد خُلُقاً متأصلاً فيهم فلا تفهم عقولهم دلالة الأدلة على مدلولاتها .
روى الترمذي عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن العبد إذا أخطأ خطيئة نُكتت في قلبه نُكتة سوداء فإذا هو نزع واستغفر الله وتاب صُقِلَ قلبه فإن عاد زيد فيها حتى تعلو على قلبه وهو الران الذي ذكر الله في كتابه : { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } " قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح .
ومجيء { يكسبون } بصيغة المضارع دون الماضي لإفادة تكرر ذلك الكسب وتعدده في الماضي .
وفي ذكر فعل { كانوا } دون أن يقال : ما يكسبون ، إشارة إلى أن المراد : ما كسبوه في أعمارهم من الإشراك قبل مجيء الإسلام فإنهم وإن لم يَكونوا مناط تكليف أيامئذ .
فهم مخالفون لما جاءت به الشرائع السالفة وتواتر وشاع في الأمم من الدعوة إلى توحيد الله بالإلهية على قول الأشعري وأهل السنة في توجيه مؤاخذة أهل الفترة بذنب الإشراك بالله حسبما اقتضته الأدلة من الكتاب والسنة أو مخالفون لمقتضى دلالة العقل الواضحة على قول الماتريدي والمعتزلة ولحق بذلك ما اكتسبوه من وقت مجيء الإسلام إلى أن نزلت هذه السورة فهي مدة ليست بالقصيرة .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله:"كَلاّ بَلْ رَانَ عَلى قُلُوبِهِمْ "يقول تعالى ذكره مكذّبا لهم في قيلهم ذلك: كلا، ما ذلك كذلك، ولكنه ران على قلوبهم يقول: غلب على قلوبهم وغَمَرها، وأحاطت بها الذنوب فغطتها يقال منه: رانت الخمر على عقله، فهي تَرِين عليه رَيْنا، وذلك إذا سكر، فغلبت على عقله...
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو خالد، عن ابن عجلان، عن القَعْقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هُرَيرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذَا أذْنَبَ العَبْدُ نُكِتَ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فإنْ تابَ صُقِلَ مِنْها، فإنْ عادَ عادَتْ حتى تَعْظُمْ فِي قَلْبِهِ، فَذلكَ الرّانُ الّذي قالَ اللّهُ كَلاّ بَلْ رَانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ»...
عن الحسن، في قوله: "كَلاّ بَلْ رَانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ" قال: الذنب على الذنب حتى يعمَى القلب فيموت...
عن ابن عباس، قوله "كَلاّ بَلْ رَانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ" قال: طبع على قلوبهم ما كسبوا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قيل: الرين: الستر والغطاء، وقيل: الرين: الصدأ. فالله تعالى سمى الإيمان الذي، هو في النهاية من الخيرات، نورا، وسمى الكفر الذي، هو في النهاية من الشرور، ظلمة. فإذا كان الإيمان منورا للقلب، والكفر مظلما، فإذا اشتغل بالأسباب الداعية إلى الكفر شيئا بعد شيء من الآثام، فكل سبب من ذلك يعمل في إظلام القلب حتى تتم الظلمة... فذلك الرين...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{كَلاَّ} ردع للمعتدي الأثيم عن قوله: {رَانَ على قُلُوبِهِمْ} ركبها كما يركب الصدأ وغلب عليها: وهو أن يصر على الكبائر ويسوّف التوبة حتى يطبع على قلبه، فلا يقبل الخير ولا يميل إليه...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{كلا} زجر ورد لقولهم: {أساطير الأولين}، ثم أوجب أن ما كسبوا من الكفر والطغيان، والعتو، قد {ران على قلوبهم}، أي غطى عليها وغلب فهم مع ذلك لا يبصرون رشداً ولا يخلص إلى قلوبهم خير...
ليس المراد من الرين أن قلبهم قد تغير وحصل فيه منع، بل المراد أنهم صاروا لإيقاع الذنب حالا بعد حال متجرئين عليه وقويت دواعيهم إلى ترك التوبة وترك الإقلاع، فاستمروا وصعب الأمر عليهم، ولذلك بين أن علة الرين كسبهم، ومعلوم أن إكثارهم من اكتساب الذنوب لا يمنع من الإقلاع والتوبة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{كلا} أي ليرتدع ارتداعاً عظيماً ولينزجر انزجاراً شديداً، فليس الأمر كما قال في المتلو ولا هو- معتقد له اعتقاداً جازماً، لأنه لم يقله عن بصيرة {بل ران} أي غلب وأحاط وغطى تغطية الغيم للسماء والصدأ للمرآة، وجمع اعتباراً بمعنى "كل " لئلا يتعنت متعنت، فقال معبراً بجمع الكثرة إشارة إلى كثرتهم: {على قلوبهم} أي كل من قال هذا القول {ما كانوا} أي بجبلاتهم الفاسدة {يكسبون} أي يجددون كسبه مستمرين عليه من الأعمال الردية، فإن كثرة الأفعال سبب لحصول الملكات إن خيراً فخيراً وإن شراً فشراً، فيتراكم الذنب على القلب فيسود...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويعقب على هذا التطاول والتكذيب بالزجر والردع: (كلا!) ليس كما يقولون..
ثم يكشف عن علة هذا التطاول وهذا التكذيب؛ وهذه الغفلة عن الحق الواضح وهذا الانطماس في قلوب المكذبين:
(بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون)..
أي غطى على قلوبهم ما كانوا يكسبونه من الإثم والمعصية. والقلب الذي يمرد على المعصية ينطمس ويظلم؛ ويرين عليه غطاء كثيف يحجب النور عنه ويحجبه عن النور، ويفقده الحساسية شيئا فشيئا حتى يتبلد ويموت..
روى ابن جرير والترمذي والنسائي وابن ماجة من طرق، عن محمد بن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي [صلى الله عليه وسلم] قال: "إن العبد إذا أذنب ذنبا كانت نكتة سوداء في قلبه. فإن تاب منها صقل قلبه وإن زاد زادت".. وقال الترمذي حسن صحيح. ولفظ النسائي: " إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكت في قلبه نكتة سوداء. فإن هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه فإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه، فهو الران الذي قال الله تعالى: (كلا! بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون).. "
وقال الحسن البصري: هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب فيموت..
ذلك حال الفجار المكذبين. وهذه هي علة الفجور والتكذيب.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ويعري القرآن مرّة أخرى جذر طغيانهم وعنادهم، بالقول: (كلاّ بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون). ما أشد تقريع العبارة! فقد احتوى صدأ أعمالهم كلّ قلوبهم، فأُزيل عنها ما جعل اللّه فيها من نور الفطرة الأولى وذهب صفائها، ولذا.. فلا يمكن لشمس الحقيقة أن تشرق بعد في أفق قلوبهم، ولا يمكن لتلك القلوب التعسة من أن تتقبل نفوذ أنوار الوحي الإلهي إلى دواخلها. «ران»: من (الرين) على وزن (عين)، وهو: الصدأ يعلو الشيء الجليل (كما يقول الراغب في مفرداته)، ويقول عنه بعض أهل اللغة: إنّه قشرة حمراء تتكون على سطح الحديد عند ملامسته لرطوبة الهواء، وهي علامة لتلفه، وضياع بريقه وحسن ظاهره...