قوله تعالى : { إذ رأى ناراً } ، وذلك أن موسى استأذن شعيباً في الرجوع من مدين إلى مصر ، لزيارة والدته وأخته ، فأذن له ، فخرج بأهله وماله ، وكان أيام الشتاء وأخذ على غير الطريق مخافة من ملوك الشام وامرأته في سقمها لا تدري أليلاً أم نهاراً فسار في البرية غير عارف بطرقها ، فألجأه المسير إلى جانب الطور الغربي الأيمن في ليلة مظلمة مثلجة شديدة البرد ، وأخذ امرأته الطلق ، فقدح زنده ، فلم يور . وقيل : إن موسى كان رجلاً غيوراً ، وكان يصحب الرفقة بالليل ويفارقهم بالنهار ، لئلا ترى امرأته ، فأخطأ مرةً الطريق في ليلة مظلمة شاتية لما أراد الله عز وجل من كرامته ، فجعل يقدح الزند ، فلا يوري ، فأبصر ناراً من بعيد عن يسار الطريق من جانب الطور ، { فقال لأهله امكثوا } أقيموا . قرأ حمزة : بضم الهاء هاهنا وفي القصص { إني آنست } أي : أبصرت { ناراً ، لعلي آتيكم منها بقبس } قطعة من نار ، والقبس : قطعة من نار تأخذها في طرف عمود من معظم النار { أو أجد على النار هدىً } أي : أجد عند النار من يدلني على الطريق .
{ فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ } أي : أبصرت { نَارًا } وكان ذلك في جانب الطور الأيمن ، { لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ } تصطلون به { أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى } أي : من يهديني الطريق . وكان مطلبه ، النور الحسي والهداية الحسية ، فوجد ثم النور المعنوي ، نور الوحي ، الذي تستنير به الأرواح والقلوب ، والهداية الحقيقية ، هداية الصراط المستقيم ، الموصلة إلى جنات النعيم ، فحصل له أمر لم يكن في حسابه ، ولا خطر بباله .
فها هو ذا موسى - عليه السلام - في الطريق بين مدين ومصر إلى جانب الطور ها هو ذا عائد بأهله بعد أن قضى فترة التعاقد بينه وبين نبي الله شعيب ، على أن يزوجه إحدى ابنتيه في مقابل أن يخدمه ثماني سنوات أو عشرا . والأرجح أنه وفى عشرا ؛ ثم خطر له أن يفارق شعيبا وأن يستقل بنفسه وبزوجه ، ويعود إلى البلد الذي نشأ فيه ، والذي فيه قومه بنو إسرائيل يعيشون تحت سياط فرعون وقهره .
لماذا عاد . وقد خرج من مصر طريدا . قتل قبطيا فيها حين رآه يقتتل مع إسرائيلي ، وغادر مصر هاربا وبنو إسرائيل فيها يسامون العذاب ألوانا ? حيث وجد الأمن والطمأنينة في مدين إلى جوار شعيب صهره الذي آواه وزوجه إحدى ابنتيه ?
إنها جاذبية الوطن والأهل تتخذها القدرة ستارا لما تهيئه لموسى من أدوار . . وهكذا نحن في هذه الحياة نتحرك . تحركنا أشواق وهواتف ، ومطامح ومطامع ، وآلام وآمال . . وإن هي إلا الأسباب الظاهرة للغاية المضمرة ، والستار الذي تراه العيون لليد التي لا تراها الأنظار ولا تدركها الأبصار . يد المدبر المهيمن العزيز القهار . .
وهكذا عاد موسى . وهكذا ضل طريقه في الصحراء ومعه زوجه وقد يكون معهما خادم . ضل طريقه والليل مظلم ، والمتاهة واسعة . نعرف هذا من قوله لأهله : ( امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى ) . . فأهل البادية يوقدون النار عادة على مرتفع من الأرض ، ليراها الساري في الصحراء ، فتكشف له عن الطريق ، أو يجد عندها القرى والضيافة ومن يهديه إلى الطريق .
ولقد رأى موسى النار في الفلاة . فاستبشر . وذهب ليأتي منها بقبس يستدفى ء به أهله ، فالليلة باردة وليالي الصحراء باردة قارة . أو ليجد عندها من يهديه إلى الطريق ؛ أو يهتدي على ضوئها إلى الطريق .
لقد ذهب يطلب قبسا من النار ؛ ويطلب هاديا في السرى . . ولكنه وجد المفاجأة الكبرى . إنها النار التي تدفىء . لا الأجسام ولكن الأرواح . النار التي تهدي لا في السرى ولكن في الرحلة الكبرى :
{ إذ رأى نارا } ظرف ل { حديث } لأنه حدث أو مفعول لا ذكر . قيل إنه استأذن شعيبا عليهما الصلاة والسلام في الخروج إلى أمه ، وخرج بأهله فلما وافى وادي طوى وفيه الطور ولد له ابن في ليلة شاتية مظلمة مثلجة ، وكانت ليلة الجمعة وقد ضل الطريق وتفرقت ماشيته إذ رأى من جانب الطور نارا . { فقال لأهله امكثوا } أقيموا مكانكم . وقرأ حمزة " لأهله امكثوا ها هنا " وفي " القصص " بضم الهاء في الوصل والباقون بكسرها . { إني آنست نارا } أبصرتها إبصارا لا شبهة فيه ، وقيل الإيناس إبصار ما يؤنس به . { لعلي آتيكم منها بقبس } بشعلة من النار وقيل جمرة . { أو أجد على النار هدى } هاديا يدلني على الطريق أو يهديني أبواب الدين ، فإن أفكار الأبرار مائلة إليها في كل ما يعن لهم . ولما كان حصولهما مترقبا بني الأمر فيهما على الرجاء بخلاف الإيناس ، فإنه كان محققا ولذلك حققه لهم ليوطنوا أنفسهم عليه ، ومعنى الاستعلاء في { على النار } أن أهلها مشرفون عليها أو مستعلون المكان القريب منها كما قال سيبويه في : مررت بزيد إنه لصوق بمكان يقرب منه .
{ إذ رأى ناراً } أو نحو هذا ، وكان من قصة موسى عليه السلام أنه رحل من مدين بأهله بنت شعيب وهو يريد أرض مصر وقد طالت مدة جنايته هنالك فرجا خفاء أمره ، وكان فيما يزعمون رجلا غيورا ، فكان يسير الليل بأهله ولا يسير النهار مخافة كشفة الناس ، فضل عن طريقه في ليلة مظلمة وندية ويروى أنه فقد الماء فلم يدر أين يطلبه فبينما هو كذلك وقد قدح بزنده فلم يور شيئاً { إذ رأى ناراً فقال لأهله امكثوا } أي أقيموا ، وذهب هو إلى النار فإذا هي مضطرمة في شجرة خضراء يانعة قيل كانت من عناب ، وقيل من عوسج ، وقيل من عليقة ، فلما دنا منها تباعدت منه ومشت ، فإذا رجع عنها اتبعته فلما رأى ذلك أيقن أن هذا أمر من أمور الله تعالى الخارقة للعادة ، وانقضى أمره كله في تلك الليلة ، هذا قول الجمهور ، وهوالحق ، وحكى النقاش عن ابن عباس أنه قال : أقام في ذلك الأمر حولاً ومكثه أهله ع : وهذا غير صحيح عن ابن عباس وضعيف في نفسه . و { آنست } معناه أحسست ومنه قول الحارث بن حلزة : [ الخفيف ]
آنست نبأة وروعها القَنْ . . . ناص ليلاً وقد دنا الإمساء{[1]}
والنار على البعد لا تحس إلا بالأبصار ، فلذلك فسر بعضهم اللفظ ب رأيت ، و «آنس » أعم من { رأى } لأنك تقول آنست من فلان خيراً أو شراً . و «القبس » الجذوة من النار تكون على رأس العود أو القصبة أو نحوه ، و «الهدى » أراد الطريق ، أي لعلي أجد ذا هدى أي مرشداً لي أو دليلا ، وان لم يكن مخبراً . و «الهدى » يعم هذا كله وإنما رجا موسى عليه السلام هدى نازلته فصادف الهدى على الإطلاق ، وفي ذكر قصة موسى بأسرها في هذه السورة تسلية للنبي عما لقي في تبليغه من المشقات وكفر الناس فإنما هي له على جهة التمثيل في أمره . وروي عن نافع وحمزة «لأهلهُ امكثوا » بضمة الهاء وكذلك في القصص{[2]} ، وكسر الباقون الهاء فيهما .
إذْ } ظرف للحديث . وقد تقدّم نظائره ، وخص هذا الظرف بالذكر لأنه يزيد تشويقاً إلى استعلام كنه الخبر ، لأن رؤية النار تحتمل أحوالاً كثيرة .
ورؤية النار تدلّ على أن ذلك كان بليل ، وأنه كان بحاجة إلى النار ؛ ولذلك فرع عليه : { فَقَالَ لأَهْله امْكُثُوا } . . . الخ .
والأهل : الزوج والأولاد . وكانوا معه بقرينة الجمع في قوله { امكثوا . وفي سفر الخروج من التّوراة فأخذ موسى امرأته وبنيه وأركبهم على الحمير ورجع إلى أرض مصر .
وقرأ الجمهور بكسر هاء ضمير أهلِه على الأصل . وقرأه حمزة وخلف : بضم الهاء ، تبعاً لضمة همزة الوصل في امكثوا .
والإيناس : الإبصار البيّن الذي لا شبهة فيه .
وتأكيد الخبر بإن لقصد الاهتمام به بشارة لأهله إذ كانوا في الظلمة .
والقبَس : ما يؤخذ اشتعاله من اشتعال شيء ويقبس ، كالجَمرة من مجموع الجمر والفتيلة ونحو ذلك . وهذا يقتضي أنه كان في ظلمة ولم يجد ما يقتدح به . وقيل : اقتدح زَنده فَصَلَد ، أي لم يقدح .
ومعنى { أو أجدُ على النار هدى } : أو ألقَى عارفاً بالطريق قاصداً السير فيما أسير فيه فيهديني إلى السبيل . قيل : كان موسى قد خفي عليه الطريق من شدّة الظلمة وكان يحب أن يسير ليلاً .
و { أوْ } هنا للتخيير ، لأنّ إتيانه بقبس أمر محقق ، فهو إما أن يأخذ القبس لا غير ، وإما أن يزيد فيجد صاحب النار قاصداً الطريق مثله فيصحبه .
وحرف { على } في قوله : { أو أجِدُ على النَّارِ هُدىً } مستعمل في الاستعلاء المجازي ، أي شدّة القرب من النار قرباً أشبه الاستعلاء ، وذلك أنّ مُشعِل النار يستدني منها للاستنارة بضوئها أو للاصطلاء بها . قال الأعشى :
وباتَ على النار النّدى والمحلّقُ *** وأراد بالهدى صاحب الهدى .
وقد أجرى الله على لسان موسى معنى هذه الكلمة إلهاماً إياه أنه سيجد عند تلك النار هُدى عظيماً ، ويبلّغ قومه منه ما فيه نفعهم .
وإظهار النّار لموسى رمْز رباني لطيف ؛ إذ جعل اجتلابه لتلقي الوحي باستدعاء بنور في ظلمة رمزاً على أنه سيتلقى ما به إنارة ناس بدين صحيح بعد ظلمة الضلال وسوء الاعتقاد .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم مسليه عما يلقى من الشدّة من مشركي قومه، ومعرفه ما إليه صائر أمره وأمرهم، وأنه معليه عليهم، وموهن كيد الكافرين، ويحثه على الجدّ في أمره، والصبر على عبادته، وأن يتذكر فيما ينوبه فيه من أعدائه من مُشركي قومه وغيرهم، وفيما يزاول من الاجتهاد في طاعته ما ناب أخاه موسى صلوات الله عليه من عدوّه، ثم من قومه، ومن بني إسرائيل وما لقي فيه من البلاء والشدّة طفلاً صغيرا، ثم يافعا مترعرعا، ثم رجلاً كاملاً:"وَهَل أتاكَ يا محمد حَدِيثُ مُوسَى" ابن عمران "إذْ رأى نارا "ذكر أن ذلك كان في الشتاء ليلاً، وأن موسى كان أضلّ الطريق فلما رأى ضوء النار قالَ لأَهْلِهِ ما قال...
عن ابن عباس، قال: لما قضى موسى الأجل، سار بأهله فضلّ الطريق. قال: كان في الشتاء، ورُفعت لهم نار فلما رآها ظنّ أنها نار، وكانت من نور الله "قالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إنّي آنَسْتُ نارا"...
وعنى بقوله: "آنَسْتُ نارا" وجدت،...وهو مأخوذ من الأنس...
" لَعَلّي آتِيكُمْ مِنْها بقَبسٍ "يقول: لعلي أجيئكم من النار التي آنست بشُعْلة. والقَبَس: هو النار في طَرَف العود أو القصبة...
وإنما أراد موسى بقوله لأهله:"لَعَلّي آتِيكُمْ مِنْها بقَبَسٍ "لعلي آتيكم بذلك لتصطلوا به...
وقوله: "أوْ أجِدُ عَلى النّارِ هُدًى" دلالة تدلّ على الطريق الذي أضللناه، إما من خبر هاد يهدينا إليه، وإما من بيان وعلم نتبينه به ونعرفه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{امكثوا} أقيموا في مكانكم. الإيناس: الإبصار البين الذي لا شبهة فيه، ومنه إنسان العين لأنه يتبين به الشيء، والإنس: لظهورهم، كما قيل الجنّ لاستتارهم وقيل: هو إبصار ما يؤنس به. لما وجد منه الإيناس فكان مقطوعاً متيقناً، حققه لهم بكلمة «إنّ» ليوطن أنفسهم، ولما كان الإتيان بالقبس ووجود الهدى مترقبين متوقعين، بني الأمر فيهما على الرجاء والطمع وقال {لعلي} ولم يقطع فيقول: إني {ءَاتِيكُمْ} لئلا يعد ما ليس بمستيقن الوفاء به... {هُدًى} أي قوماً يهدونني الطريق أو ينفعونني بهداهم في أبواب الدين...وذلك لأنّ أفكار الأبرار مغمورة بالهمة الدينية في جميع أحوالهم لا يشغلهم عنها شاغل. والمعنى: ذوي هدى. و إذا وجد الهداة فقد وجد الهدى. ومعنى الاستعلاء في {عَلَى النار} أنّ أهل النار يستعلون المكان القريب منها... أو لأنّ المصطلين بها والمستمتعين بها إذا تكنفوها قياماً وقعوداً كانوا مشرفين عليها.
{فقال لأهله امكثوا}. فيجوز أن يكون الخطاب للمرأة وولدها والخادم الذي معها ويجوز أن يكون للمرأة وحدها ولكن خرج على ظاهر لفظ الأهل فإن الأهل يقع على الجمع، وأيضا فقد يخاطب الواحد بلفظ الجماعة تفخيما أي أقيموا في مكانكم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{إذ} أي حديثه حين {رأى ناراً} وهو راجع من بلاد مدين {فقال لأهله امكثوا} أي مكانكم واتركوا ما أنتم عليه من السير؛ ثم علل أمره بقوله: {إني ءانست} أي أبصرت في هذا الظلام إبصاراً بيناً لا شبهة فيه من إنسان العين الذي تبين به الأشياء، وهو مع ذلك مما يسر من الإنس الذين هم ظاهرون ما ترك بهم {ناراً} فكأنه قيل، فكان ماذا؟ فقال معبراً بأداة الترجي لتخصيصه الخبر الذي عبر به في النمل بالهدى: {لعلي ءاتيكم} أي أترجى أن أجيئكم {منها بقبس} أي بشعلة من النار في رأس حطبة فيها جمرة تعين على برد هذه الليلة {أو أجد على} مكان {النار هدى} أي ما أهتدي به لأن الطريق كانت قد خفيت عليهم.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
أي: من يهديني الطريق. وكان مطلبه، النور الحسي والهداية الحسية، فوجد ثم النور المعنوي، نور الوحي، الذي تستنير به الأرواح والقلوب، والهداية الحقيقية، هداية الصراط المستقيم، الموصلة إلى جنات النعيم، فحصل له أمر لم يكن في حسابه، ولا خطر بباله.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فها هو ذا موسى -عليه السلام- في الطريق بين مدين ومصر إلى جانب الطور ها هو ذا عائد بأهله بعد أن قضى فترة التعاقد بينه وبين نبي الله شعيب، على أن يزوجه إحدى ابنتيه في مقابل أن يخدمه ثماني سنوات أو عشرا. والأرجح أنه وفى عشرا؛ ثم خطر له أن يفارق شعيبا وأن يستقل بنفسه وبزوجه، ويعود إلى البلد الذي نشأ فيه، والذي فيه قومه بنو إسرائيل يعيشون تحت سياط فرعون وقهره. لماذا عاد. وقد خرج من مصر طريدا. قتل قبطيا فيها حين رآه يقتتل مع إسرائيلي، وغادر مصر هاربا وبنو إسرائيل فيها يسامون العذاب ألوانا؟ حيث وجد الأمن والطمأنينة في مدين إلى جوار شعيب صهره الذي آواه وزوجه إحدى ابنتيه؟ إنها جاذبية الوطن والأهل تتخذها القدرة ستارا لما تهيئه لموسى من أدوار.. وهكذا نحن في هذه الحياة نتحرك. تحركنا أشواق وهواتف، ومطامح ومطامع، وآلام وآمال.. وإن هي إلا الأسباب الظاهرة للغاية المضمرة، والستار الذي تراه العيون لليد التي لا تراها الأنظار ولا تدركها الأبصار. يد المدبر المهيمن العزيز القهار.. وهكذا عاد موسى. وهكذا ضل طريقه في الصحراء ومعه زوجه وقد يكون معهما خادم. ضل طريقه والليل مظلم، والمتاهة واسعة. نعرف هذا من قوله لأهله: (امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى).. فأهل البادية يوقدون النار عادة على مرتفع من الأرض، ليراها الساري في الصحراء، فتكشف له عن الطريق، أو يجد عندها القرى والضيافة ومن يهديه إلى الطريق. ولقد رأى موسى النار في الفلاة. فاستبشر. وذهب ليأتي منها بقبس يستدفئ به أهله، فالليلة باردة وليالي الصحراء باردة قارة. أو ليجد عندها من يهديه إلى الطريق؛ أو يهتدي على ضوئها إلى الطريق. لقد ذهب يطلب قبسا من النار؛ ويطلب هاديا في السرى.. ولكنه وجد المفاجأة الكبرى. إنها النار التي تدفئ. لا الأجسام ولكن الأرواح. النار التي تهدي لا في السرى ولكن في الرحلة الكبرى.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... وقد أجرى الله على لسان موسى معنى هذه الكلمة إلهاماً إياه أنه سيجد عند تلك النار هُدى عظيماً، ويبلّغ قومه منه ما فيه نفعهم.
وإظهار النّار لموسى رمْز رباني لطيف؛ إذ جعل اجتلابه لتلقي الوحي باستدعاء بنور في ظلمة رمزاً على أنه سيتلقى ما به إنارة ناس بدين صحيح بعد ظلمة الضلال وسوء الاعتقاد.