إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{إِذۡ رَءَا نَارٗا فَقَالَ لِأَهۡلِهِ ٱمۡكُثُوٓاْ إِنِّيٓ ءَانَسۡتُ نَارٗا لَّعَلِّيٓ ءَاتِيكُم مِّنۡهَا بِقَبَسٍ أَوۡ أَجِدُ عَلَى ٱلنَّارِ هُدٗى} (10)

وقوله تعالى : { إِذْ رَأَى نَاراً } ظرفٌ للحديث ، وقيل : لمضمر مؤخّر أي حين رأى ناراً كان كيتَ وكيت ، وقيل : مفعولٌ لمضمر مقدّم أي اذكرْ وقتَ رؤيته ناراً . روي أنه عليه الصلاة والسلام استأذن شعيباً عليهما الصلاة والسلام في الخروج إلى أمّه وأخيه فخرج بأهله وأخذ على غير الطريق مخافةً من ملوك الشام ، فلما وافى واديَ طُوّى وهو الجانبُ الغربيُّ من الطور وُلد له وَلدٌ في ليلة مظلمةٍ شاتية مُثلجة وكانت ليلةَ الجمعة وقد ضل الطريقَ وتفرّقت ماشيتُه ولا ماءَ عنده ، وقَدَح فصَلَد زندُه ، فبينما هو في ذلك إن رأى ناراً على يسار الطريق من جانب الطور { فَقَالَ لأَهْلِهِ امكثوا } أي أقيموا مكانَكم ، أمرهم عليه الصلاة والسلام بذلك لئلا يتْبعوه فيما عزم عليه الصلاة والسلام من الذهاب إلى النار كما هو المعتادُ ، لا لئلا ينتقلوا إلى موضع آخرَ فإنه مما لا يخطُر بالبال ، والخطابُ للمرأة والولدِ والخادمِ ، وقيل : لها وحدها والجمعُ إما لظاهر لفظ الأهلِ أو للتفخيم كما في قول مَنْ قال : [ الطويل ]

وإن شئتِ حرمتُ النساءَ سواكمُ *** . . . . . . . .

{ إِنّي آنَسْتُ نَاراً } أي أبصرتُها إبصاراً بيّناً لا شُبهةَ فيه ، وقيل : الإيناسُ خاصٌّ بإبصار ما يؤنَس به والجملةُ تعليلٌ للأمر أو المأمورِ به { لَّعَلِّى آتِيكُم مِّنْهَا } أي أجيئكم من النار { بِقَبَسٍ } أي بشُعلة مقتبَسةٍ من معظم النارِ وهي المُرادةُ بالجذوة في سورة القَصص وبالشهاب القبسُ { أَوْ أَجِدُ عَلَى النار هُدًى } هادياً يدلني على الطريق على أنه مصدرٌ سمّي به الفاعلُ مبالغةً ، أو حُذف منه المضافُ أي ذا هدايةٍ ، أو على أنه إذا وُجد الهادي فقد وجد الهُدى ، وقيل : هادياً يهديني إلى أبواب الدين فإن أفكارَ الأبرارِ معمورةٌ بالهمّة الدينية في عامة أحوالِهم لا يشغَلهم عنها شاغلٌ ، والأولُ هو الأظهرُ لأن مساقَ النظمِ الكريم لتسلية أهلِه ، وقد نُصّ عليه في سورة القَصص حيث قيل : { لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة } الآية ، وكلمةُ أو في الموضعين لمنع الخلوِّ دون منْعِ الجمعِ ، ومعنى الاستعلاء في قوله تعالى : { عَلَى النار } أن أهلَ النارِ يستعلون المكانَ القريب منها أو لأنهم عند الاصطلاءِ يكتنفونها قِياماٍ وقعوداً فيُشرفون عليها . ولما كان الإتيانُ بهما مترقَّباً غيرَ محقَّقِ الوقوعِ صُدّر الجملة بكلمة الترجي ، وهي إما علةٌ لفعل قد حذف ثقةً بما يدل عليه من الأمر بالمُكث والإخبار بإيناس النارِ وتفادياً عن التصريح بما يوحشهم ، وإما حالٌ من فاعله أي فأَذهب إليها لآتيَكم أو كي آتيَكم أو راجياً أن آتيَكم منها بقبس . . الآية ، وقد مر تحقيق ذلك مفصلاً في تفسير قوله تعالى : { قَدِيرٌ يا أيها الناس اعبدوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } .