الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي - السيوطي  
{إِذۡ رَءَا نَارٗا فَقَالَ لِأَهۡلِهِ ٱمۡكُثُوٓاْ إِنِّيٓ ءَانَسۡتُ نَارٗا لَّعَلِّيٓ ءَاتِيكُم مِّنۡهَا بِقَبَسٍ أَوۡ أَجِدُ عَلَى ٱلنَّارِ هُدٗى} (10)

وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن أبي حاتم ، عن قتادة في قوله : { إني آنست ناراً } أي أحسست ناراً . { أو أجد على النار هدى } قال : من يهديني .

وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله : { أو أجد على النار هدى } قال : من يهديني إلى الطريق ، وكانوا شاتين فضلوا الطريق .

وأخرج ابن المنذر ، عن ابن عباس في قوله : { أو أجد على النار هدى } يقول : من يدل على الطريق .

وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر ، عن مجاهد في قوله : { أو أجد على النار هدى } قال : يهديه الطريق .

وأخرج عبد بن حميد ، عن عكرمة في قوله : { أو أجد على النار هدى } قال : هادٍ يهديني إلى الماء .

وأخرج أحمد في الزهد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم ، عن وهب بن منبه قال : لما رأى موسى النار ، انطلق يسير ، حتى وقف منها قريباً ، فإذا هو بنار عظيمة : تفور من ورق شجرة خضراء شديدة الخضرة ، يقال لها العليق ، لا تزداد النار فيما يرى إلا عظماً وتضرماً ، ولا تزداد الشجرة على شدة الحريق ، إلا خضرة وحسناً ! فوقف ينظر لا يدري ما يصنع ، إلا أنه قد ظن أنها شجرة تحترق ، وأوقد إليها موقد ، فنالها فاحترقت ، وإنه إنما يمنع النار ، شدة خضرتها ، وكثرة مائها ، وكثافة ورقها ، وعظم جذعها ، فوضع أمرها على هذا ، فوقف وهو يطمع أن يسقط منها شيء فيقتبسه ، فلما طال عليه ذلك ، أهوى إليها بضغث في يده وهو يريد أن يقتبس من لهبها ، فلما فعل ذلك موسى مالت نحوه كأنها تريده ، فاستأخر عنها وهاب ، ثم عاد فطاف بها ، ولم تزل تطمعه ويطمع بها ، ثم لم يكن شيء بأوشك من خمودها ، فاشتد عند ذلك عجبه وفكر موسى في أمرها ، فقال : هي نار ممتنعة لا يقتبس منها ، ولكنها تتضرم في جوف شجرة فلا تحرقها ، ثم خمودها على قدر عظمها في أوشك من طرفة عين . فلما رأى ذلك موسى قال : إن لهذه شأناً . ثم وضع أمرها على أنها مأمورة أو مصنوعة ، لا يدري من أمرها ولا بما أمرت ولا من صنعها ولا لم صنعت ، فوقف متحيراً لا يدري أيرجع أم يقيم ؟ فبينا هو على ذلك ، إذ رمى بطرفه نحو فرعها فإذا هو أشد مما كان خضرة ساطعة في السماء ، ينظر إليها يغشى الظلام ، ثم لم تزل الخضرة تنوّر وتصفر وتبيض حتى صارت نوراً ساطعاً عموداً بين السماء والأرض ، عليه مثل شعاع الشمس ، تكل دونه الأبصار ، كلما نظر إليه يكاد يخطف بصره ، فعند ذلك اشتد خوفه وحزنه ، فرد يده على عينيه ، ولصق بالأرض وسمع الحنين والوجس . إلا أنه سمع حينئذ شيئا لم يسمع السامعون بمثله عظماً ! فلما بلغ موسى الكرب واشتد عليه الهول نودي من الشجرة ، فقيل : يا موسى ، فأجاب سريعاً ، وما يدري من دعاه ؟ وما كان سرعة إجابته إلا استئناساً بالإنس ، فقال لبيك مراراً إني لأسمع صوتك ، وأحس حسك ، ولا أرى مكانك ، فأين أنت ؟ قال : أنا فوقك ومعك وخلفك وأقرب إليك من نفسك . فلما سمع هذا موسى علم أنه لا ينبغي هذا إلا لربه ، فأيقن به ، فقال : كذلك أنت يا إلهي ، فكلامك اسمع أم رسولك ؟ قال : بل أنا الذي أكلمك فادن مني ، فجمع موسى يديه في العصا ، ثم تحامل حتى استقل قائماً ، فرعدت فرائصه حتى اختلفت ، واضطربت رجلاه ، وانقطع لسانه وانكسر قلبه ، ولم يبق منه عظم يحمل آخر ، فهو بمنزلة الميت ، إلا أن روح الحياة تجري فيه ، ثم زحف على ذلك وهو مرعوب ، حتى وقف قريباً من الشجرة التي نودي منها فقال له الرب تبارك وتعالى : { ما تلك بيمينك يا موسى } قال : هي عصاي .

قال : ما تصنع بها ؟ - ولا أحد أعلم منه بذلك - قال موسى : { أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى } قد علمتها ، وكان لموسى في العصا مآرب ، كان لها شعبتان ومحجن تحت الشعبتين ، فإذا طال الغصن حناه بالمحجن ، وإذا أراد كسره لواه بالشعبتين ، وكان يتوكأ عليها ويهش بها ، وكان إذا شاء ألقاها على عاتقه ، فعلق بها قوسه وكنانته ومرجامه ومخلاته وثوبه ، وزاداً إن كان معه ، وكان إذا ارتع في البرية حيث لا ظل له ركزها ، ثم عرض بالوتد بين شعبتيها ، وألقى فوقها كساءه فاستظل بها ما كان مرتعاً ، وكان إذا ورد ماء يقصر عنه رشاؤه وصل بها ، وكان يقاتل بها السباع عن غنمه . قال له الرب { ألقها يا موسى } فظن موسى أنه يقول : ارفضها . فألقاها على وجه الرفض ، ثم حانت منه نظرة ، فإذا بأعظم ثعبان نظر إليه الناظرون يرى ! يلتمس كأنه يبتغي شيئاً يريد أخذه ، يمر بالصخرة مثل الخلفة من الإبل فيلتقمها ، ويطعن بالناب من أنيابه في أصل الشجرة العظيمة فيجتثها ، عينان توقدان ناراً ، وقد عاد المحجن عرقاً فيه شعر مثل النيازك ، وعاد الشعبتان فهما مثل القليب الواسع فيه أضراس وأنياب لها صريف ، فلما عاين ذلك موسى { ولى مدبراً ولم يعقب } [ النمل : 10 ] فذهب حتى أمعن ورأى أنه قد أعجز الحية ، ثم ذكر ربه فوقف استحياء منه ثم { نودي يا موسى } أن ارجع حيث كنت ، فرجع وهو شديد الخوف فقال : خذها بيمينك ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى . قال : وكان على موسى حينئذ مدرعة فجعلها في يده ، فقال له ملك : أرأيت يا موسى لو أذن الله بما تحاذر ؟ أكانت المدرعة تغني عنك شيئاً قال : لا . ولكني ضعيف ومن ضعف خلقت . فكشف عن يده ثم وضعها على فم الحية ، ثم سمع حس الأضراس والأنياب ، ثم قبض فإذا هي عصاه التي عهدها ، وإذا يده في موضعها الذي كان يضعها إذا تؤكأ بين الشعبتين . قال له ربه : «ادن » . فلم يزل يدنيه - حتى شد ظهره بجذع الشجرة . فاستقر وذهبت عنه الرعدة ، وجمع يديه في العصا ، وخضع برأسه وعنقه ثم قال له : إني قد أقمتك اليوم في مقام لا ينبغي لبشر بعدك أن يقوم مقامك . . . إذ أدنيتك وقربتك حتى سمعت كلامي ، وكنت بأقرب الأمكنة مني ، فانطلق برسالتي ، فإنك بعيني وسمعي ، وإن معك يدي وبصري ، وإني قد ألبستك جبة من سلطاني ، لتكمل بها القوّة في أمري ، فأنت جند عظيم من جنودي ، بعثتك إلى خلق ضعيف من خلقي ، بطر من نعمتي ، وأمن مكري ، وغرته الدنيا حتى جحد حقي ، وأنكر ربوبيتي ، وعد من دوني ، وزعم أنه لا يعرفني ، وإني لأقسم بعزتي : لولا العذر والحجة التي وضعت بيني وبين خلقي . . . لبطشت به بطشة جبار - يغضب لغضبه السماوات والأرض والجبال والبحار - فإن أمرت السماء حصبته ، وإن أمرت الأرض ابتلعته ، وإن أمرت البحار غرقته ، وإن أمرت الجبال دمرته ، ولكنه هان عليّ وسقط من عيني ، وَسعَهُ حلمي ، واستغنيت بما عندي ، وحق لي أني أنا الغني لا غني غيري ، فبلغه رسالتي وادعه إلى عبادتي وتوحيدي ، وإخلاص اسمي ، وذكره بآياتي ، وحذره نقمتي وبأسي ، وأخبره أنه لا يقوم شيء لغضبي { وقل له } فيما بين ذلك : { قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى } وأخبره أني إلى العفو والمغفرة أسرع مني إلى الغضب والعقوبة ، ولا يروعنك ما ألبسته من لباس الدنيا ، فإن ناصيته بيدي ليس يطرف ولا ينطق ولا يتنفس إلا بإذني ، وقل له : أجب ربك فإنه واسع المغفرة فإنه قد أمهلك أربعمائة سنة ؛ في كلها أنت مبارزه بالمحاربة ، تتشبه وتتمثل به وتصد عباده عن سبيله ، وهو يمطر عليك السماء ، وينبت لك الأرض ، لم تسقم ولم تهرم ولم تفتقر ولم تغلب ، ولو شاء أن يجعل لك ذلك أو يسلبكه فعل ، ولكنه ذو أناة وحلم عظيم ، وجاهده بنفسك وأخيك ، وأنتما محتسبان بجهاده ، فإني لو شئت أن آتيه بجنود لا قبل له بها فعلت ، ولكن ليعلم هذا العبد الضعيف الذي قد أعجبته نفسه وجموعه : أن الفئة القليلة ، ولا قليل مني تغلب الفئة الكبيرة بإذني ، ولا يعجبنكما زينته ولا ما متع به ، ولا تمدا إلى ذلك أعينكما ، فإنها زهرة الحياة الدنيا ، وزينة المترفين ، وإني لو شئت أن أزينكما من الدنيا بزينة ، يعلم فرعون - حين ينظر إليها - أن مقدرته تعجز عن مثل ما أوتيتما فعلت ، ولكن أرغب بكما عن ذلك وأزويه عنكما ، وكذلك أفعل بأوليائي ، وقد نما ما حويت لهم من ذلك ، فإني لأذودهم عن نعيمها ورخائها ؛ كما يذود الراعي الشفيق غنمه من مواقع الهلكة ، وإني لأجنبهم شكوها وغنمها ، كما يجنب الراعي الشفيق إبله عن مبارك الغرة ، وما ذاك لهوَانِهم عليّ ، ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي سالماً موفراً لم تكلمه الدنيا ولم يطغه الهوى ، واعلم أنه لم يتزين إليّ العباد بزينة . . . هي أبلغ فيما عندي من الزهد في الدنيا ، فإنه زينة المتقين عليهم منه : لباس يعرفون به من السكينة والخشوع { سيماهم في وجوههم من أثر السجود } [ الفتح : 29 ] «أولئك هم أوليائي حقاً فإذا لقيتهم فاخفض لهم جناحك ، وذلل لهم قلبك ولسانك ، واعلم أنه من أهان لي ولياً أو أخافه فقد بارزني بالمحاربة ، وبادأني وعرض لي نفسه ودعاني إليها ، وأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي ، فيظن الذي يحاربني أو يعاديني أن يعجزني ، أو يظن الذي يبارزني أن يسبقني أو يفوتني ، وكيف وأنا الثائر لهم في الدنيا والآخرة ؟ ! لا أكل نصرتهم إلى غيري » قال : فأقبل موسى إلى فرعون في مدينة قد جعل حولها الأسد في غيضة قد غرسها ، والأسد فيها مع ساستها إذا أرسلها على أحد أكلته ، وللمدينة أربعة أبواب في الغيضة ، فأقبل موسى من الطريق الأعظم الذي يراه فرعون ، فلما رأته الأسد صاحت صياح الثعالب ، فأنكر ذلك الساسة وفرقوا من فرعون ، فأقبل موسى حتى انتهى إلى الباب الذي فيه فرعون فقرعه بعصاه وعليه جبة من صوف وسراويل ، فلما رآه البوّاب عجب من جراءته فتركه ولم يأذن له ، فقال هل تدري باب من أنت تضرب ؟ ! إنما أنت تضرب باب سيدك .

قال : أنت وأنا وفرعون عبيد لربي ، فأنا ناصره ، فأخبر البوّاب الذي يليه من البوابين ، حتى بلغ ذلك أدناهم ودونه سبعون حاجباً ، كل حاجب منهم تحت يده من الجنود ما شاء الله ، حتى خلص الخبر إلى فرعون فقال : أدخلوه عليّ ، فأدخل فلما أتاه قال له فرعون : أعرفك ؟ قال : نعم . قال : { ألم نربك فينا وليداً } [ الشعراء : 18 ] قال : فرد إليه موسى الذي رد . قال : فرعون خذوه . فبادر موسى { فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين } [ الشعراء : 32 ] فحملت على الناس فانهزموا منها ، فمات منهم خمسة وعشرون ألفاً ، قتل بعضهم بعضاً ، وقام فرعون منهزماً حتى دخل البيت فقال لموسى : { اجعل بيننا وبينك موعداً } ننظر فيه . قال : موسى : لم أؤمر بذلك ، إنما أمرت بمناجزتك ، وإن أنت لم تخرج إليّ دخلت عليك . فأوحى الله إلى موسى : أن اجعل بينك وبينه أجلاً ، وقل له : أن يجعله هو . قال فرعون : اجعله إلى أربعين يوماً ففعل . قال : وكان فرعون لا يأتي الخلاء إلا في كل أربعين يوماً مرة ، فاختلف ذلك اليوم أربعين مرة . قال : وخرج موسى من المدينة ، فلما مر بالأسد خضعت له بأذنابها ، وسارت مع موسى تشيعه ، ولا تهيجه ، ولا أحداً من بني إسرائيل .