قوله : { إذْ رَأَى } يجوز أن يكون منصوباً بالحديث وهو الظاهر ويجوز أن ينتصب ب ( اذكر ) مقدراً{[23201]} قاله أبو البقاء{[23202]} . أو بمحذوف بعده ، أي إذا رأى ناراً{[23203]} كان كيت وكيت كما{[23204]} قاله الزمخشري{[23205]} . و " هَلْ " على بابها من كونها استفهام تقرير{[23206]} . وقيل : بمعنى قد . وقيل : بمعنى النفي{[23207]} . وقرأ " لإِهْلِهُ امْكُثُوا " بضم الهاء حمزة ، وقد تقدم أنه الأصل وهو لغة الحجاز{[23208]} .
وقاله أبو البقاء : إن الضم ( للإتباع ){[23209]} {[23210]} .
قوله : { آنَسْتُ } أي أبصرت ، والإيناس : الإبصار والتبيُّن ومنه إنسان{[23211]} العين ، لأنه يبصر به الأشياء ، والإنس لظهورهم كما قيل : الجن لاستتارهم . وقيل : هو الوجدان . وقيل : هو{[23212]} الإحساس فهو أعم من الإبصار . وأنشدوا للحارث بن حلزة :
آنَسْتُ نَبْأَةً وَأَفْزَعَهَا القُن *** نَاصُ عَصْراً وَقَدْ دَنَا الإمْسَاءُ{[23213]}
والقَبَس : الجَذْوَةُ{[23214]} من النار ، وهي الشعلة في رأس عود أو قصبة و{[23215]} نحوهما وهو فعلٌ بمعنى مفعول كالقَبَض{[23216]} والنَّفَض{[23217]} بمعنى المقبوض والمنفوض . ويقال : أقبست{[23218]} الرجل علما ، وقبسته نارا ، ففرقوا بينهما ، هذا قول المبرد{[23219]} . قال الكسائي : إن فعل وأَفْعَل يقالان في المعنيين فيقال : قَبَسْتُه ناراً وعِلماً وأَقْبَستُهُ أيضاً ( ناراً وعلماً ){[23220]} {[23221]} وقوله : " مِنْهَا " يجوز أن يتعلق ( ب " آتِيكُمْ " أو ){[23222]} بمحذوف على أنه حال من " قَبَس " {[23223]} وأما بعضهم ألف " هُدًى " وقفاً ، والجيد أن لا تُمال ، لأن الأشهر أنها بدل{[23224]} من التنوين{[23225]} .
قال المفسرون{[23226]} : استأذن موسى شعيباً{[23227]} في الرجوع من مَدْيَنَ إلى مصر لزيارة والدته وأخته ، فأذن له ، فخرج بأهله ، وأخذ على غير الطريق مخافة ملوك الشام .
فولدت امرأته في ليلة شاتية ، وكانت ليلة الجمعة فألجأه السير إلى جانب الطور الغربي الأيمن ، فقدح زنده فلم يورِهِ ، فبينما{[23228]} هو في مزاولة{[23229]} ذلك إذ أبصر ناراً من بعيد على{[23230]} يسار الطريق من جانب الطور{[23231]} .
قال السُّدي : فظن أنها نارٌ من نيران{[23232]} الرعاة .
وقال آخرون{[23233]} : إنه عليه السلام{[23234]} رآها في شجرة وليس في القرآن ما يدل على ذلك . وقال بعضهم : الذي رآه لم يكن ناراً{[23235]} ( بل تخيله ناراً ){[23236]} والصحيح أنه رأى ناراً ليكون صادقاً في خبره ، إذا الكذب لا يجوز على الأنبياء{[23237]} . قيل : النار أربعة أقسام :
نارٌ{[23238]} تأكل ولا تشرب ، وهي نار الدنيا . ونارٌ تشرب ولا تأكل وهي نار الشجر لقوله تعالى{[23239]} : { جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشجر الأخضر نَاراً }{[23240]} .
ونار تأكل وتشرب وهي نار{[23241]} المعدة . ونارٌ لا تأكل ولا تشرب ، وهي نار موسى عليه السلام{[23242]} .
وقيل أيضاً : النار أربعة : أحدها : نارٌ لها نور بلا حرقة ، وهي نار موسى عليه السلام{[23243]} .
ونارٌ لها حرقة بلا نور ، وهي نار جهنم . ونارٌ لها حرقة ونور ، وهي نار الدنيا . ونار لا حرقة لها ولا نور وهي نار الأشجار . فلما أبصر النار { قَالَ لأهْلِهِ امْكُثُوا } يجوز أن يكون هذا الخطاب للمرأة{[23244]} وولدها والخادم .
ويجوز أن يكون للمرأة وحدها خرج على ظاهر لفظ الأهل فإن الأهل يقع على الجمع وأيضاً فقد يخاطب الواحد بلفظ الجمع تفخيماً ، أي : أقيموا في مكانكم . " إنِّي آنَسْتُ نَاراً " . أي أبصرتُ ناراً ، والإيناس : الإبصار وقيل : إبصار{[23245]} ما يُؤنَسُ بِهِ ولما وجد الإيناس -وكان منتفياً- حقيقة لهم أتى بكلمة " إنِّي " ليوطن أنفسهم{[23246]} . ولما كان الإتيان بالقَبَس ووجود الهدى مترقبين متوقعين بنى{[23247]} الأمر فيهما على الرجاء والطمع ، فقال : " لَعَلِّي " ولم يقطع فيقول : إنِّي آتيكُمْ ، لئلا يعد ما لم يتيقن الوفاء به ، والنكتة فيه أن قوماً قالوا : كَذَبَ إبراهيمُ للمصلحة وهو{[23248]} محال ، لأن موسى عليه السلام{[23249]} قبل نبوته احترز فلم يقل : إِنِّي آتِيكُمْ ، بل قال " لَعَلِّي آتِيكُمْ " . والقَبَسُ : النارُ المقتبسةُ في رأس عودٍ أو فتيلةٍ أو غيرهما . " أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى " أي ما يهتدي به وهو اسم مصدر{[23250]} ، فكأنه قال : أجِدُ على النار ما أهتدي به من دليل أو علامة .
ومعنى الاستعلاء على{[23251]} النار " ( أنَّ أهلَ النارِ ){[23252]} يستعلون المكان القريب منها ، ولأن المصطلين بها{[23253]} إذا أحاطوا مشرفين عليها{[23254]} ، فكأنه{[23255]} قال : أُجِدُ على النارِ مَنْ يَدُلُّنِي . " فَلَمَّا أتَاهَا " أي النار ، قال ابن عباس : رأى شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها{[23256]} أطافت بها نار بيضاء تتّقد{[23257]} كأضوأ ما يكون فوقف متعجباً من شدة ضوء تلك{[23258]} النار وشدة خضرة تلك الشجرة ، فلا النار تغير خضرتها ، ولا كثرة ماء الشجرة تغير ضوء{[23259]} النار{[23260]} .
قال ابن مسعود{[23261]} : كانت الشجرة سمرة خضراء .
وقال قتادة ومقاتل والكلبي : كانت من العَوْسَج{[23262]} .
وقال وهب : كانت من العُلِّيْق{[23263]} . وقيل : كانت من العِنَّاب{[23264]} {[23265]} .
قال أكثر المفسرين : إنَّ الذي رآه موسى{[23266]} لم يكن ناراً بل كان نورَ الربِّ ( تبارك وَتَعالى ){[23267]} ذُكِرَ{[23268]} بلفظ النار ، لأن موسى عليه السلام{[23269]} حسبه ناراً فلما دَنَا مِنْهَا سمع تسبيح الملائكة ورأى نوراً عظيماً{[23270]} .
قال وهب{[23271]} : ظن موسى أنها{[23272]} نار{[23273]} أوقدت{[23274]} ، فأخذ من دقاق الحطب وهو الحشيش اليابس ليقتبس من لهبها فمالت إليه كأنها تريده ، فتأخر عنها وهابَها ، ثم لم تزل تطعمه{[23275]} ، ويطمع{[23276]} فيها ، ثم لم يكن بأسرع من خمودها كأنها لم تكن ثم رمى موسى ببصره إلى فروعها ، فإذا{[23277]} خضرتها ساطعة في السماء ، وإذا{[23278]} نور بين السماء والأرض له شعاع تكل عنه الأبصار ، فلما رأى موسى{[23279]} ذلك وضع يديه على عينيه ، فنودي يا موسى .
قال القاضي : الذي يروى من أن الزند ما كان يروى فجائز ، وما رُوِي من{[23280]} أن النار كانت تتأخر عنه ، فإن كانت النبوة قد تقدمت له جاز ذلك وإلا فهو ممنوع إلاَّ أن يكون معجزة لغيره من الأنبياء ، لأن{[23281]} قوله : { وَأنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى }{[23282]} دليل على أنه إنما أوحي إليه في هذه الحالة{[23283]} ، وجعله نبيًّا . وعلى هذا يبعدُ ما ذكروه من تأخر النار عنه وبيَّنَ فسادَ ذلك ،