اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِذۡ رَءَا نَارٗا فَقَالَ لِأَهۡلِهِ ٱمۡكُثُوٓاْ إِنِّيٓ ءَانَسۡتُ نَارٗا لَّعَلِّيٓ ءَاتِيكُم مِّنۡهَا بِقَبَسٍ أَوۡ أَجِدُ عَلَى ٱلنَّارِ هُدٗى} (10)

قوله : { إذْ رَأَى } يجوز أن يكون منصوباً بالحديث وهو الظاهر ويجوز أن ينتصب ب ( اذكر ) مقدراً{[23201]} قاله أبو البقاء{[23202]} . أو بمحذوف بعده ، أي إذا رأى ناراً{[23203]} كان كيت وكيت كما{[23204]} قاله الزمخشري{[23205]} . و " هَلْ " على بابها من كونها استفهام تقرير{[23206]} . وقيل : بمعنى قد . وقيل : بمعنى النفي{[23207]} . وقرأ " لإِهْلِهُ امْكُثُوا " بضم الهاء حمزة ، وقد تقدم أنه الأصل وهو لغة الحجاز{[23208]} .

وقاله أبو البقاء : إن الضم ( للإتباع ){[23209]} {[23210]} .

قوله : { آنَسْتُ } أي أبصرت ، والإيناس : الإبصار والتبيُّن ومنه إنسان{[23211]} العين ، لأنه يبصر به الأشياء ، والإنس لظهورهم كما قيل : الجن لاستتارهم . وقيل : هو الوجدان . وقيل : هو{[23212]} الإحساس فهو أعم من الإبصار . وأنشدوا للحارث بن حلزة :

آنَسْتُ نَبْأَةً وَأَفْزَعَهَا القُن *** نَاصُ عَصْراً وَقَدْ دَنَا الإمْسَاءُ{[23213]}

والقَبَس : الجَذْوَةُ{[23214]} من النار ، وهي الشعلة في رأس عود أو قصبة و{[23215]} نحوهما وهو فعلٌ بمعنى مفعول كالقَبَض{[23216]} والنَّفَض{[23217]} بمعنى المقبوض والمنفوض . ويقال : أقبست{[23218]} الرجل علما ، وقبسته نارا ، ففرقوا بينهما ، هذا قول المبرد{[23219]} . قال الكسائي : إن فعل وأَفْعَل يقالان في المعنيين فيقال : قَبَسْتُه ناراً وعِلماً وأَقْبَستُهُ أيضاً ( ناراً وعلماً ){[23220]} {[23221]} وقوله : " مِنْهَا " يجوز أن يتعلق ( ب " آتِيكُمْ " أو ){[23222]} بمحذوف على أنه حال من " قَبَس " {[23223]} وأما بعضهم ألف " هُدًى " وقفاً ، والجيد أن لا تُمال ، لأن الأشهر أنها بدل{[23224]} من التنوين{[23225]} .

فصل

قال المفسرون{[23226]} : استأذن موسى شعيباً{[23227]} في الرجوع من مَدْيَنَ إلى مصر لزيارة والدته وأخته ، فأذن له ، فخرج بأهله ، وأخذ على غير الطريق مخافة ملوك الشام .

فولدت امرأته في ليلة شاتية ، وكانت ليلة الجمعة فألجأه السير إلى جانب الطور الغربي الأيمن ، فقدح زنده فلم يورِهِ ، فبينما{[23228]} هو في مزاولة{[23229]} ذلك إذ أبصر ناراً من بعيد على{[23230]} يسار الطريق من جانب الطور{[23231]} .

قال السُّدي : فظن أنها نارٌ من نيران{[23232]} الرعاة .

وقال آخرون{[23233]} : إنه عليه السلام{[23234]} رآها في شجرة وليس في القرآن ما يدل على ذلك . وقال بعضهم : الذي رآه لم يكن ناراً{[23235]} ( بل تخيله ناراً ){[23236]} والصحيح أنه رأى ناراً ليكون صادقاً في خبره ، إذا الكذب لا يجوز على الأنبياء{[23237]} . قيل : النار أربعة أقسام :

نارٌ{[23238]} تأكل ولا تشرب ، وهي نار الدنيا . ونارٌ تشرب ولا تأكل وهي نار الشجر لقوله تعالى{[23239]} : { جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشجر الأخضر نَاراً }{[23240]} .

ونار تأكل وتشرب وهي نار{[23241]} المعدة . ونارٌ لا تأكل ولا تشرب ، وهي نار موسى عليه السلام{[23242]} .

وقيل أيضاً : النار أربعة : أحدها : نارٌ لها نور بلا حرقة ، وهي نار موسى عليه السلام{[23243]} .

ونارٌ لها حرقة بلا نور ، وهي نار جهنم . ونارٌ لها حرقة ونور ، وهي نار الدنيا . ونار لا حرقة لها ولا نور وهي نار الأشجار . فلما أبصر النار { قَالَ لأهْلِهِ امْكُثُوا } يجوز أن يكون هذا الخطاب للمرأة{[23244]} وولدها والخادم .

ويجوز أن يكون للمرأة وحدها خرج على ظاهر لفظ الأهل فإن الأهل يقع على الجمع وأيضاً فقد يخاطب الواحد بلفظ الجمع تفخيماً ، أي : أقيموا في مكانكم . " إنِّي آنَسْتُ نَاراً " . أي أبصرتُ ناراً ، والإيناس : الإبصار وقيل : إبصار{[23245]} ما يُؤنَسُ بِهِ ولما وجد الإيناس -وكان منتفياً- حقيقة لهم أتى بكلمة " إنِّي " ليوطن أنفسهم{[23246]} . ولما كان الإتيان بالقَبَس ووجود الهدى مترقبين متوقعين بنى{[23247]} الأمر فيهما على الرجاء والطمع ، فقال : " لَعَلِّي " ولم يقطع فيقول : إنِّي آتيكُمْ ، لئلا يعد ما لم يتيقن الوفاء به ، والنكتة فيه أن قوماً قالوا : كَذَبَ إبراهيمُ للمصلحة وهو{[23248]} محال ، لأن موسى عليه السلام{[23249]} قبل نبوته احترز فلم يقل : إِنِّي آتِيكُمْ ، بل قال " لَعَلِّي آتِيكُمْ " . والقَبَسُ : النارُ المقتبسةُ في رأس عودٍ أو فتيلةٍ أو غيرهما . " أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى " أي ما يهتدي به وهو اسم مصدر{[23250]} ، فكأنه قال : أجِدُ على النار ما أهتدي به من دليل أو علامة .

ومعنى الاستعلاء على{[23251]} النار " ( أنَّ أهلَ النارِ ){[23252]} يستعلون المكان القريب منها ، ولأن المصطلين بها{[23253]} إذا أحاطوا مشرفين عليها{[23254]} ، فكأنه{[23255]} قال : أُجِدُ على النارِ مَنْ يَدُلُّنِي . " فَلَمَّا أتَاهَا " أي النار ، قال ابن عباس : رأى شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها{[23256]} أطافت بها نار بيضاء تتّقد{[23257]} كأضوأ ما يكون فوقف متعجباً من شدة ضوء تلك{[23258]} النار وشدة خضرة تلك الشجرة ، فلا النار تغير خضرتها ، ولا كثرة ماء الشجرة تغير ضوء{[23259]} النار{[23260]} .

قال ابن مسعود{[23261]} : كانت الشجرة سمرة خضراء .

وقال قتادة ومقاتل والكلبي : كانت من العَوْسَج{[23262]} .

وقال وهب : كانت من العُلِّيْق{[23263]} . وقيل : كانت من العِنَّاب{[23264]} {[23265]} .

قال أكثر المفسرين : إنَّ الذي رآه موسى{[23266]} لم يكن ناراً بل كان نورَ الربِّ ( تبارك وَتَعالى ){[23267]} ذُكِرَ{[23268]} بلفظ النار ، لأن موسى عليه السلام{[23269]} حسبه ناراً فلما دَنَا مِنْهَا سمع تسبيح الملائكة ورأى نوراً عظيماً{[23270]} .

قال وهب{[23271]} : ظن موسى أنها{[23272]} نار{[23273]} أوقدت{[23274]} ، فأخذ من دقاق الحطب وهو الحشيش اليابس ليقتبس من لهبها فمالت إليه كأنها تريده ، فتأخر عنها وهابَها ، ثم لم تزل تطعمه{[23275]} ، ويطمع{[23276]} فيها ، ثم لم يكن بأسرع من خمودها كأنها لم تكن ثم رمى موسى ببصره إلى فروعها ، فإذا{[23277]} خضرتها ساطعة في السماء ، وإذا{[23278]} نور بين السماء والأرض له شعاع تكل عنه الأبصار ، فلما رأى موسى{[23279]} ذلك وضع يديه على عينيه ، فنودي يا موسى .

قال القاضي : الذي يروى من أن الزند ما كان يروى فجائز ، وما رُوِي من{[23280]} أن النار كانت تتأخر عنه ، فإن كانت النبوة قد تقدمت له جاز ذلك وإلا فهو ممنوع إلاَّ أن يكون معجزة لغيره من الأنبياء ، لأن{[23281]} قوله : { وَأنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى }{[23282]} دليل على أنه إنما أوحي إليه في هذه الحالة{[23283]} ، وجعله نبيًّا . وعلى هذا يبعدُ ما ذكروه من تأخر النار عنه وبيَّنَ فسادَ ذلك ،


[23201]:في ب: مقدم ما. وهو تحريف.
[23202]:انظر التبيان 2/885.
[23203]:نارا سقط من ب.
[23204]:كما: سقط من ب.
[23205]:قال الزمخشري: أو المضمر، أي: حين (رأى نارا) كان كيت وكيت الكشاف 2/428.
[23206]:في ب: استفهام تقديره. وهو تحريف.
[23207]:البحر المحيط 6/229. قال أبو حيان بعد قوله: وقيل هل بمعنى قد: (والظاهر خلاف هذا، لأن السورة مكية، والظاهر أنه لم يكن أطلعه على قصة موسى قبل هذا) وفي ب: وقيل بمعنى بعد، وقيل بمعنى قد أو النفي.
[23208]:قرأ حمزة وابن سعدان عن إسحاق المسيبي "لأهله امكثوا" بضم الهاء والباقون يكسرون الهاء فيهما. انظر السبعة : 417 وحجة من ضم الهاء أنه أتى بالهاء على أصلها موصولة بالواو للتقوية، فلقيت الواو وهي ساكنة الميم من "امكثوا" وهي ساكنة فحذفت الواو لالتقاء الساكنين، وبقيت الضمة تدل عليها. وحجة من كسر الهاء أنه أبدل من ضمة الهاء كسرة للكسرة التي قبلها، فانقلبت الواو ياء ثم حذفت الياء لسكونها وسكون الميم بعدها، وبقيت الكسرة تدل عليها. انظر الكشف 2/95.
[23209]:قال أبو البقاء: (لأهله بكسر الهاء وضمها، وقد ذكر، ومن ضم أتبعه ما بعده) التبيان 2/885.
[23210]:في ب: لاتباع. وهو تحريف.
[23211]:في ب: إيناس. وهو تحريف.
[23212]:هو سقط من ب.
[23213]:في الأصل: آنست نبأة وقد روعها القُنّاص وقدَّد بالإمساء. وفي ب: آنست نبأة وقد روعها القنّاص وقد بالإمساء. وما أثبته هو الصواب. والبيت من بحر الخفيف من معلقته. آنست: أحسّت. وهو موطن الشاهد. النبـأة: الصوت الخفي يسمعه الإنسان أو يتخيله. الإفزاع: الإخافة. القُنّاص: جمع قانص، وهو الصياد، العصر: العشيّ.
[23214]:في ب: الجذو.
[23215]:في ب: أو.
[23216]:القَبَض: ما قُبض من الأموال.
[23217]:النقض – بالتحريك: ما تساقط من الورق والثمر، وهو فعل بمعنى مفعول، كالقبض بمعنى المقبوض.
[23218]:في ب: أقبس.
[23219]:لم أعثر على هذا القول فيها رجعت إليه من كتب المبرد، وهو في البحر المحيط 6/222. والمبرد هو محمد بن يزيد الأزدي البصري أبو العباس المبرد، إمام العربية ببغداد في زمانه، أخذ عن المازني وأبي حاتم السجستاني ومن مصنفاته معاني القرآن ، الكامل، والمقتضب وغير ذلك. مات سنة 285 هـ ببغداد. بغية الوعاة 1/269 – 271.
[23220]:اللسان (قبس).
[23221]:ما بين القوسين في ب: عالما ونارا.
[23222]:ما بين القوسين سقط من ب.
[23223]:انظر التبيان 2/885.
[23224]:في ب: بدلا. وهو تحريف.
[23225]:قال أبو البقاء: (والجيد في هدى هنا أن يكتب بالألف، ولا تمال: لأن الألف بدل من التنوين في القول المحقق. وقد أمالها قوم، وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون شبه ألف التنوين بلام الكلمة إذ اللفظ بهما في المقصور واحد. والثاني : أن تكون لام الكلمة، ولم تبدل من التنوين شيئا في النصب كما جاء: وآخذ من كل حي عصم. والثالث: أن تكون على رأي من وقف في الأحوال الثلاثة من غير إبدال) التبيان 2/885.
[23226]:من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 22/15 – 16.
[23227]:في الأصل: شعيب.
[23228]:في ب: فيبنا. وهو تحريف.
[23229]:المزاولة: معالجة الشيء، يقال: فلان يزاول حاجة له. اللسان (زَوَلَ).
[23230]:في ب: عن.
[23231]:انظر البغوي 5/413.
[23232]:في الأصل: نار. وهو تحريف.
[23233]:في ب: وقيل.
[23234]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[23235]:في ب: نار. وهو تحريف.
[23236]:ما بين القوسين سقط من ب.
[23237]:في ب: الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
[23238]:ما بين القوسين سقط من ب.
[23239]:ما بين القوسين تكلمة من الفخر الرازي.
[23240]:من قوله تعالى: {الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم به توقدون} [يس:80].
[23241]:في الأصل: النار. وهو تحريف.
[23242]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[23243]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[23244]:في ب: إلى المرأة.
[23245]:في ب: أيضا. وهو تحريف.
[23246]:في ب: أهله.
[23247]:في ب: بين. وهو تحريف.
[23248]:في ب: وهي. وهو تحريف.
[23249]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[23250]:اسم المصدر: هو ما ساوى المصدر في الدلالة على معناه وخالفه بخلوه لفظا وتقديرا دون عوض من بعض ما فعله، مثل توضأ وضوءا وتكلم كلاما. انظر شرح الأشموني 2/287.
[23251]:في الأصل: في. وهو تحريف.
[23252]:ما بين القوسين سقط من ب.
[23253]:في الأصل لها. وهو تحريف.
[23254]:في ب: إذا أشرفوا بها كأنهم أحاطوا بها.
[23255]:في ب: كأنه.
[23256]:في ب: من أعلاها إلى أسفلها.
[23257]:في ب: متعد. وهو تحريف.
[23258]:ضوء سقط من ب.
[23259]:في ب: لون.
[23260]:آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي 22/10- 16 بتصرف.
[23261]:من هنا ما نقله ابن عادل عن البغوي 5/413.
[23262]:العَوْسَج: شجر من شجر الشوك. وله ثمر أحمر مدوّر كأنه العقيق. اللسان (عسج).
[23263]:العُليق: شجر من شجر الشوك لا يعظم، وإذا نشب فيه شيء لم يكد يتخلص من كثرة شوكه، وشوكه حجز شداد. اللسان (علق).
[23264]:العنّاب: من الثمر معروف الواحدة عنابة، وربما سمي ثمر الأراك عنّابا. اللسان (عنب).
[23265]:آخر ما نقله هنا عن البغوي 5/413.
[23266]:في ب: موسى عليه الصلاة والسلام.
[23267]:ما بين القوسين سقط من ب.
[23268]:في ب: ذكر موسى.
[23269]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[23270]:انظر البغوي 5/413. وهو تحريف.
[23271]:من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 22/16.
[23272]:في ب: أنه. وهو تحريف.
[23273]:في النسختين: نارا. والصواب ما أثبته.
[23274]:في ب: وقدت.
[23275]:في ب: قطعه، وهو تحريف.
[23276]:في ب: وطمع.
[23277]:في ب: فإذا هي.
[23278]:في ب: إذا.
[23279]:موسى: سقط من ب.
[23280]:من: سقط من ب.
[23281]:في ب: إلا أن.
[23282]:الآية: [13] من سورة طه.
[23283]:في ب: الحال.