قوله تعالى :{ قال سنشد عضدك بأخيك } أي : نقويك بأخيك ، وكان هارون يومئذ بمصر ، { ونجعل لكما سلطاناً } حجةً وبرهاناً ، { فلا يصلون إليكما بآياتنا } أي : لا يصلون إليكما بقتل ولا سوء لمكان آياتنا ، وقيل : فيه تقديم وتأخير ، تقديره : ونجعل لكما سلطاناً بآياتنا بما نعطيكما من المعجزات { فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون } أي : لكما ولأتباعكما الغلبة على فرعون وقومه .
{ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ } أي : نعاونك به ونقويك .
ثم أزال عنه محذور القتل ، فقال : { وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا } أي : تسلطا ، وتمكنا من الدعوة ، بالحجة ، والهيبة الإلهية من عدوهما لهما ، { فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا } وذلك بسبب آياتنا ، وما دلت عليه من الحق ، وما أزعجت به من باشرها ونظر إليها ، فهي التي بها حصل لكما السلطان ، واندفع بها عنكم ، كيد عدوكم{[602]} وصارت لكم أبلغ من الجنود ، أولي الْعَدَدِ والْعُدَدِ .
{ أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ } وهذا وعد لموسى في ذلك الوقت ، وهو وحده فريد ، وقد رجع إلى بلده ، بعد ما كان شريدا ، فلم تزل الأحوال تتطور ، والأمور تنتقل ، حتى أنجز الله له موعوده ، ومكنه من العباد والبلاد ، وصار له ولأتباعه ، الغلبة والظهور .
وهنا يتلقى موسى الإستجابة والتطمين :
( قال : سنشد عضدك بأخيك ، ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما . بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون ) . .
لقد استجاب ربه رجاءه ؛ وشد عضده بأخيه . وزاده على ما رجاه البشارة والتطمين : ( ونجعل لكما سلطانا ) . . فهما لن يذهبا مجردين إلى فرعون الجبار . إنما يذهبان إليه مزودين بسلطان لا يقف له في الأرض سلطان ؛ ولا تنالهما معه كف طاغية ولا جبار : ( فلا يصلون إليكما ) . . وحولكما من سلطان الله سياج ، ولكما منه حصن وملاذ .
ولا تقف البشارة عند هذا الحد . ولكنها الغلبة للحق . الغلبة لآيات الله التي يجبهان بها الطغاة . فإذا هي وحدها السلاح والقوة ، وأداة النصر والغلبة : ( بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون ) .
فالقدرة تتجلى سافرة على مسرح الحوادث ؛ وتؤدي دورها مكشوفا بلا ستار من قوى الأرض ، لتكون الغلبة بغير الأسباب التي تعارف عليها الناس ، في دنيا الناس ، وليقوم في النفوس ميزان جديد للقوى والقيم . إيمان وثقة بالله ، وما بعد ذلك فعلى الله .
{ قال سنشد عضدك بأخيك } سنقويك به فإن قوة الشخص بشدة اليد على مزاولة الأمور ، ولذلك يعبر عنه باليد وشدتها بشدة العضد . { ونجعل لكما سلطانا } غلبة أو حجة . { فلا يصلون إليكما } باستيلاء أو حجاج . { بآياتنا } متعلق بمحذوف أي اذهبا بآياتنا ، أو ب { نجعل } نسلطكما بها ، أو بمعنى " لا يصلون " أي تمتنعون منهم ، أو قسم جوابه " لا يصلون " ، أو بيان ل { الغالبون } في قوله : { أنتما ومن اتبعكما الغالبون } بمعنى أنه صلة لما بينه أو صلة له على أن اللام فيه للتعريف لا بمعنى الذي .
و «شد العضد » استعارة في المعونة والإنهاض ، وقرأ الحسن بضم العين «عضُد » ، وقرأ عيسى بن عمر بفتح العين والضاد ، و «السلطان » ، الحجة ، وقوله { بآياتنا } يحتمل أن تتعلق الباء بقوله { ونجعل لكما } أو ب { يصلون } وتكون باء السبب ، ويحتمل أن تتعلق بقوله { الغالبون } أي تغلبون بآياتنا{[9147]} ، والآيات هي معجزاته عليه السلام .
استجاب الله له دعوتيه وزاده تفضلاً بما لم يسأله فاستجابة الدعوة الثانية بقوله { سنشد عضدك بأخيك } ، واستجابة الأولى بقوله { فلا يصلون إليكما } ، والتفضل بقوله { ونجعل لكما سلطاناً } ، فأعطى موسى ما يماثل ما لهارون من المقدرة على إقامة الحجة إذ قال { ونجعل لكما سلطاناً } . وقد دل على ذلك ما تكلم به موسى عليه السلام من حجج في مجادلة فرعون كما في سورة الشعراء ، وهنا وما خاطب به بني إسرائيل مما حكي في سورة الأعراف . ولم يحك في القرآن أن هارون تكلم بدعوة فرعون على أن موسى سأل الله تعالى أن يحلل عقدة من لسانه كما في سورة طه ، ولا شك أن الله استجاب له .
والشد : الربط ، وشأن العامل بعضو إذا أراد أن يعمل به عملاً متعباً للعضو أن يربط عليه لئلا يتفكك أو يعتريه كسر ، وفي ضد ذلك قال تعالى { ولما سقط في أيديهم } [ الأعراف : 149 ] وقولهم : فُتَّ في عضده ، وجعل الأخ هنا بمنزلة الرباط الذي يشد به . والمراد : أنه يؤيده بفصاحته ، فتعليقه بالشد ملحق بباب المجاز العقلي . وهذا كله تمثيل لحال إيضاح حجته بحال تقوية من يريد عملاً عظيماً أن يشد على يده وهو التأييد الذي شاع في معنى الإعانة والإمداد ، وإلا فالتأييد أيضاً مشتق من اليد . فأصل معنى ( أيد ) جعل يداً ، فهو استعارة لإيجاد الإعانة .
والسلطان هنا مصدر بمعنى التسلط على القلوب والنفوس ، أي مهابة في قلوب الأعداء ورعباً منكما كما ألقى على موسى محبة حين التقطه آل فرعون . وتقدم معنى السلطان حقيقة في قوله تعالى { فقد جعلنا لوليه سلطاناً } في سورة الإسراء .
( 33 ) وفرع على جعل السلطان { فلا يصلون إليكما } أي لا يؤذونكما بسوء وهو القتل ونحوه . فالوصول مستعمل مجازاً في الإصابة . والمراد : الإصابة بسوء ، بقرينة المقام .
وقوله { بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون } يجوز أن يكون { بآياتنا } متعلقاً بمحذوف دل عليه قوله { إلى فرعون وملائه } [ القصص : 32 ] تقديره : اذهبا بآياتنا على نحو ما قدّر في قوله تعالى { في تسع آيات إلى فرعون } [ النمل : 12 ] وقوله في سورة النمل بعد قوله { وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات } [ النمل : 12 ] أي اذهبا في تسع آيات . وقد صرح بذلك في قوله في سورة الشعراء ( 15 ) { قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون } .
ويجوز أن يتعلق ب { نجعل لكما سلطاناً } ، أي سلطاناً عليهم بآياتنا حتى تكون رهبتهم منكما آية من آياتنا ، ويجوز أن يتعلق ب { لا يصلون إليكما } أي يصرفون عن أذاكم بآيات منا كقول النبي صلى الله عليه وسلم « نُصِرتُ بالرعب » ويجوز أن يكون متعلقاً بقوله { الغالبون } أي تغلبونهم وتقهرونهم بآياتنا التي نؤيدكما بها .
وتقديم المجرور على متعلقه في هذا الوجه للاهتمام بعظمة الآيات التي سيعطيانها . ويجوز أن تكون الباء حرف قسم تأكيداً لهما بأنهما الغالبون وتثبيتاً لقلوبهما .
وعلى الوجوه كلها فالآيات تشمل خوارق العادات المشاهدة مثل الآيات التسع ، وتشمل المعجزات الخفية كصرف قوم فرعون عن الإقدام على أذاهما مع ما لديهم من القوة وما هم عليه من العداوة بحيث لولا الصرفة من الله لأهلكوا موسى وأخاه .
ومحل العبرة من هذا الجزء من القصة التنبيه إلى أن الرسالة فيض من الله على من اصطفاه من عباده وأن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم كرسالة موسى جاءته بغتة فنودي محمد في غار جبل حراء كما نودي موسى في جانب جبل الطور ، وأنه اعتراه من الخوف مثل ما اعترى موسى ، وأن الله ثبته كما ثبت موسى ، وأن الله يكفيه أعداءه كما كفى موسى أعداءه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قال سنشد عضدك بأخيك} يعني: ظهرك بأخيك هارون {ونجعل لكما سلطانا} يعني: حجة بآياتنا، يعني: اليد والعصا، فيها تقديم {فلا يصلون إليكما} بقتل، يعني: فرعون وقومه، لقولهما في طه: {إننا نخاف أن يفرط علينا} بالقتل {أو أن يطغى}، فذلك قوله سبحانه: {فلا يصلون إليكما} {بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قال الله لموسى "سَنَشُدّ عَضُدَكَ "أي نقوّيك ونُعينك بأخيك. تقول العرب إذا أعزّ رجل رجلاً، وأعانه ومنعه ممن أراده بظلم: قد شَدّ فلان على عَضُد فلان، وهو مِن عاضده على أمره: إذا أعانه...
وقوله: "ونَجْعَلُ لَكما سُلْطانا" يقول: ونجعل لكما حجة...
وقوله: "فَلا يَصِلُونَ إلَيْكُما" يقول تعالى ذكره: فلا يصل إليكما فرعون وقومه بسوء. وقوله: "بِآياتِنا" يقول تعالى ذكره: "فَلاَ يَصِلُونَ إلَيْكُمَا" فرعون وقومه "بِآياتِنا أنْتُما وَمَنِ اتّبَعَكُما الغالِبُونَ" فالباء فِي قوله "بآياتنا" من صلة غالبون. ومعنى الكلام: أنتما ومن اتبعكما الغالبون فرعون وملأه "بآياتنا" أي بحجتنا وسلطاننا الذي نجعله لكما.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
العضد: قوام اليد، وبشدّتها تشتد...
ويقال في دعاء الخير: شدّ الله عضدك. وفي ضده؛ فت الله في عضدك. ومعنى {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} سنقويك به ونعينك، فإمّا أن يكون ذلك لأن اليد تشتد بشدة العضد، والجملة تقوى بشدة اليد على مزاولة الأمور، وإمّا لأنّ الرجل شبه باليد في اشتدادها باشتداد العضد، فجعل كأنه يد مشتدة بعضد شديدة.
{سلطانا} غلبة وتسلطا، أو حجة واضحة {بئاياتنا} متعلق بنحو ما تعلق به في تسع آيات، أي اذهبا بآياتنا. أو ب"نجعل" لكما سلطانا، أي: نسلطكما بآياتنا. أو ب"لا يصلون"، أي: تمتنعون منهم بآياتنا. أو هو بيان ل"الغالبون" لا صلة، لامتناع تقدم الصلة على الموصول. ولو تأخر: لم يكن إلا صلة له. ويجوز أن يكون قسماً جوابه: لا يصلون، مقدماً عليه. أو من لغو القسم.
أما قوله: {ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما} فالمقصود أن الله تعالى آمنه مما كان يحذر، فإن قيل بين تعالى أن السلطان هو بالآيات فكيف لا يصلون إليهما لأجل الآيات أو ليس فرعون قد وصل إلى صلب السحرة وإن كانت هذه الآيات ظاهرة، قلنا إن الآية التي هي قلب العصا حية كما أنها معجزة فهي أيضا تمنع من وصول ضرر فرعون إلى موسى وهارون عليهما السلام، لأنهم إذا علموا أنه متى ألقاها صارت حية عظيمة وإن أراد إرسالها عليهم أهلكتهم زجرهم ذلك عن الإقدام عليهما، فصارت مانعة من الوصول إليهما بالقتل وغيره، وصارت آية ومعجزة، فجمعت بين الأمرين، فأما صلب السحرة ففيه خلاف فمنهم من قال ما صلبوا، وليس في القرآن ما يدل عليه وإن سلمنا ذلك، ولكنه تعالى قال: {فلا يصلون إليكما} فالمنصوص أنهم لا يقدرون على إيصال الضرر إليهما، وإيصال الضرر إلى غيرهما لا يقدح فيه، ثم قال: {أنتما ومن اتبعكما الغالبون} والمراد إما الغلبة بالحجة والبرهان في الحال، أو الغلبة في الدولة والمملكة في ثاني الحال، والأول أقرب إلى اللفظ.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أكد أمر الطلب بهارون عليهما الصلاة والسلام، أكد له سبحانه أمر الإجابة بقوله مستأنفاً: {قال سنشد} وذكر أولى الأعضاء بمزاولة المكاره فقال: {عضدك} أي أمرك {بأخيك} أي سنقويك ونعينك به إجابة لسؤالك صلة منك لأخيك، وعوناً منه لك {ونجعل لكما سلطاناً} أي ظهوراً عظيماً عليهم، وغلبة لهم بالحجج والهيبة لأجل ما ذكرت من الخوف {فلا} أي فيتسبب عن ذلك أنهم لا {يصلون إليكما} بنوع من أنواع الغلبة {بآياتنا} أي نجعل ذلك بسبب ما يظهر على أيديكما من الآيات المعظمة بنسبتها إلينا، ولذلك كانت النتيجة {أنتما ومن اتبعكما} أي من قومكما وغيرهم {الغالبون*} أي لا غيرهم، وهذا يدل على أن فرعون لم يصل إلى السحرة بشيء مما هددهم به، لأنهم من أكبر الأتباع الباذلين لأنفسهم في الله، وكأنه حذف أمرهم هنا لأنه في بيان أمر فرعون وجنوده بدليل ما كرر من ذكرهم، وقد كشفت العاقبة عن أن السحرة ليسوا من جنوده، بل من حزب الله وجنده، ومع ذلك فقد أشار إليهم بهذه الآية والتي بعدها...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهنا يتلقى موسى الاستجابة والتطمين: (قال: سنشد عضدك بأخيك، ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما. بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون).. لقد استجاب ربه رجاءه؛ وشد عضده بأخيه. وزاده على ما رجاه البشارة والتطمين: (ونجعل لكما سلطانا).. فهما لن يذهبا مجردين إلى فرعون الجبار. إنما يذهبان إليه مزودين بسلطان لا يقف له في الأرض سلطان؛ ولا تنالهما معه كف طاغية ولا جبار: (فلا يصلون إليكما).. وحولكما من سلطان الله سياج، ولكما منه حصن وملاذ. ولا تقف البشارة عند هذا الحد. ولكنها الغلبة للحق. الغلبة لآيات الله التي يجبهان بها الطغاة. فإذا هي وحدها السلاح والقوة، وأداة النصر والغلبة: (بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون). فالقدرة تتجلى سافرة على مسرح الحوادث؛ وتؤدي دورها مكشوفا بلا ستار من قوى الأرض، لتكون الغلبة بغير الأسباب التي تعارف عليها الناس، في دنيا الناس، وليقوم في النفوس ميزان جديد للقوى والقيم. إيمان وثقة بالله، وما بعد ذلك فعلى الله.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استجاب الله له دعوتيه وزاده تفضلاً بما لم يسأله فاستجابة الدعوة الثانية بقوله {سنشد عضدك بأخيك}، واستجابة الأولى بقوله {فلا يصلون إليكما}، والتفضل بقوله {ونجعل لكما سلطاناً}، فأعطى موسى ما يماثل ما لهارون من المقدرة على إقامة الحجة إذ قال {ونجعل لكما سلطاناً}. وقد دل على ذلك ما تكلم به موسى عليه السلام من حجج في مجادلة فرعون كما في سورة الشعراء، وهنا وما خاطب به بني إسرائيل مما حكي في سورة الأعراف. ولم يحك في القرآن أن هارون تكلم بدعوة فرعون على أن موسى سأل الله تعالى أن يحلل عقدة من لسانه كما في سورة طه، ولا شك أن الله استجاب له.
والشد: الربط، وشأن العامل بعضو إذا أراد أن يعمل به عملاً متعباً للعضو أن يربط عليه لئلا يتفكك أو يعتريه كسر، وفي ضد ذلك قال تعالى {ولما سقط في أيديهم} [الأعراف: 149] وقولهم: فُتَّ في عضده، وجعل الأخ هنا بمنزلة الرباط الذي يشد به. والمراد: أنه يؤيده بفصاحته، فتعليقه بالشد ملحق بباب المجاز العقلي. وهذا كله تمثيل لحال إيضاح حجته بحال تقوية من يريد عملاً عظيماً أن يشد على يده وهو التأييد الذي شاع في معنى الإعانة والإمداد، وإلا فالتأييد أيضاً مشتق من اليد. فأصل معنى (أيد) جعل يداً، فهو استعارة لإيجاد الإعانة.
والسلطان هنا مصدر بمعنى التسلط على القلوب والنفوس، أي مهابة في قلوب الأعداء ورعباً منكما كما ألقى على موسى محبة حين التقطه آل فرعون. وتقدم معنى السلطان حقيقة في قوله تعالى {فقد جعلنا لوليه سلطاناً} في سورة الإسراء.
(33) وفرع على جعل السلطان {فلا يصلون إليكما} أي لا يؤذونكما بسوء وهو القتل ونحوه. فالوصول مستعمل مجازاً في الإصابة. والمراد: الإصابة بسوء، بقرينة المقام.
وقوله {بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون} يجوز أن يكون {بآياتنا} متعلقاً بمحذوف دل عليه قوله {إلى فرعون وملائه} [القصص: 32] تقديره: اذهبا بآياتنا على نحو ما قدّر في قوله تعالى {في تسع آيات إلى فرعون} [النمل: 12] وقوله في سورة النمل بعد قوله {وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات} [النمل: 12] أي اذهبا في تسع آيات. وقد صرح بذلك في قوله في سورة الشعراء (15) {قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون}.
ويجوز أن يتعلق ب {نجعل لكما سلطاناً}، أي سلطاناً عليهم بآياتنا حتى تكون رهبتهم منكما آية من آياتنا، ويجوز أن يتعلق ب {لا يصلون إليكما} أي يصرفون عن أذاكم بآيات منا كقول النبي صلى الله عليه وسلم « نُصِرتُ بالرعب» ويجوز أن يكون متعلقاً بقوله {الغالبون} أي تغلبونهم وتقهرونهم بآياتنا التي نؤيدكما بها.
وتقديم المجرور على متعلقه في هذا الوجه للاهتمام بعظمة الآيات التي سيعطيانها. ويجوز أن تكون الباء حرف قسم تأكيداً لهما بأنهما الغالبون وتثبيتاً لقلوبهما.
وعلى الوجوه كلها فالآيات تشمل خوارق العادات المشاهدة مثل الآيات التسع، وتشمل المعجزات الخفية كصرف قوم فرعون عن الإقدام على أذاهما مع ما لديهم من القوة وما هم عليه من العداوة بحيث لولا الصرفة من الله لأهلكوا موسى وأخاه.
ومحل العبرة من هذا الجزء من القصة التنبيه إلى أن الرسالة فيض من الله على من اصطفاه من عباده وأن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم كرسالة موسى جاءته بغتة فنودي محمد في غار جبل حراء كما نودي موسى في جانب جبل الطور، وأنه اعتراه من الخوف مثل ما اعترى موسى، وأن الله ثبته كما ثبت موسى، وأن الله يكفيه أعداءه كما كفى موسى أعداءه.
فالمعنى: سنقويك بقوة مادية. {ونجعل لكما سلطانا} هذه هي القوة المعنوية، وهي قوة الحجة والمنطق والدليل، فجمع لهما: القوة المادية، والقوة المعنوية.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً} بما نظهره على يديك من الآيات المعجزة التي تصيبهم بالإحباط والذهول، وتدفعهم إلى الشعور بالضعف أمامكما، فلا يجدون أيّ مجالٍ للهجوم عليكما، بل يبدأون التفكير بالطريقة التي يستطيعون فيها الثبات أمام هذه الحركة الجديدة التي ستجمع حولكما الرجال لتكونوا في مواقع القوّة بما كان بينك وبينهم.