نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجۡعَلُ لَكُمَا سُلۡطَٰنٗا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيۡكُمَا بِـَٔايَٰتِنَآۚ أَنتُمَا وَمَنِ ٱتَّبَعَكُمَا ٱلۡغَٰلِبُونَ} (35)

ولما أكد أمر الطلب بهارون عليهما الصلاة والسلام ، أكد له سبحانه أمر الإجابة بقوله مستأنفاً : { قال سنشد } وذكر أولى الأعضاء بمزاولة المكاره فقال : { عضدك } أي أمرك { بأخيك } أي سنقويك ونعينك به إجابة لسؤالك صلة منك لأخيك ، وعوناً منه لك { ونجعل لكما سلطاناً } أي ظهوراً عظيماً عليهم ، وغلبة لهم بالحجج والهيبة لأجل ما ذكرت من الخوف { فلا } أي فيتسبب عن ذلك أنهم لا { يصلون إليكما } بنوع من أنواع الغلبة { بآياتنا } أي نجعل ذلك بسبب ما يظهر على أيديكما من الآيات المعظمة بنسبتها إلينا ، ولذلك كانت النتيجة { أنتما ومن اتبعكما } أي من قومكما وغيرهم { الغالبون* } أي لا غيرهم ، وهذا يدل على أن فرعون لم يصل إلى السحرة بشيء مما هددهم به ، لأنهم من أكبر الأتباع الباذلين لأنفسهم في الله ، وكأنه حذف أمرهم هنا لأنه في بيان أمر فرعون وجنوده بدليل ما كرر من ذكرهم ، وقد كشفت العاقبة عن أن السحرة ليسوا من جنوده ، بل من حزب الله وجنده ، ومع ذلك فقد أشار إليهم بهذه الآية والتي بعدها ، وسيأتي في آخر سورة الحديد عن تاريخ ابن عبد الحكم أنهم خلصوا ورجع بعضهم إلى مصر فكانوا أول من ترهب .

شرح ما مضى من التوراة ، قال بعدما تقدم : وكان من بعد أيام كثيرة مات فرعون ملك مصر فاستراح بنو إسرائيل من شدة تعبدهم ، فصلوا فسمع الله صلاتهم ، وعرف تعبدهم ، وسمع ضجتهم ، وذكر عهده لإبراهيم وإسحاق ويعقوب ، فأبصر الله بني إسرائيل ، وعرف ذلهم ، فكان موسى يرعى غنم يثرو ختنه حبر مدين ، فساق بالشاء إلى طرف البرية وأتى إلى حوريب جبل الله ، فتراءى له ملك الله بلهب النار من جوف العوسج ، تشتعل فيه النار ، ولم يكن العوسج يحترق ، فقال موسى : لأعدلن فأنظر إلى هذه الرؤيا العظيمة ؛ ما بال هذه العوسجة لم تحترق ؟ فرأى الرب أنه قد عدل لينظر ، فدعاه الله من جوف العوسج وقال له : يا موسى يا موسى ! فقال : هأنذا ! قال : لا تدن إلى ههنا ، اطرح خفيك عن قدميك ، لأن المكان الذي أنت واقف عليه مكان طاهر ، وفي نسخة : مقدس ، وقال الله : أنا إله أبيك إبراهيم إله إسحاق إله يعقوب ، فغطى موسى وجهه لأنه فرق أن يمد بصره نحو الرب ، وقال الرب : إني قد رأيت ذل شعبي بمصر ، وسمعت ضجتهم التي ضجوا من تعبدهم ، لأني عارف براءتهم ، فنزلت لأخلصهم من أيدي المصريين ، وأن أصعدهم من تلك الأرض إلى أرض صالحة واسعة ، تغل السمن والعسل : أرض الكنعانيين والحاثانيين والأمورانيين والفرزانيين والحاوانيين واليابسانيين ، والآن هو ذا ضجيج بني إسرائيل قد ارتفع إليّ ، ورأيت ضر المصريين لهم ، فهبطت الآن حتى أرسلك إلى فرعون .

وأخرج شعبي بني إسرائيل من مصر ، فقال موسى للّه : من أنا حتى أنطلق إلى فرعون وأخرج بني إسرائيل من مصر ، فقال الله : أنا أكون معك وهذه الآية لك أني أرسلتك : إنك إذا أخرجت الشعب من مصر تعبدون الله في هذا الجبل ، فقال موسى : ها أنذا منطلق إلى بني إسرائيل وأقول لهم : الرب إله آبائكم أرسلني إليكم ، فإن قالوا لي : ما اسمه ؟ ما الذي أقول ؟ فقال الرب لموسى : قل لهم : الأزلي الذي لم يزل ، وفي نسخة : لا يزول ، وقال : هكذا قل لبني إسرائيل : أهيا شر أهيا أرسلني إليكم ، وقال الرب أيضاً لموسى هكذا قل لبني إسرائيل : الله ربكم إله آبائكم إله إبراهيم إله إسحاق إله يعقوب أرسلني إليكم هذا اسمي إلى الأبد ، وهذا ذكري إلى حقب الأحقاب ، انطلق فاجمع أشياخ بني إسرائيل وقل لهم : الرب إله آبائكم اعتلن لي ، وإله إبراهيم وإسحاق ويعقوب يقول لكم : قد ذكرتكم وذكرت ما صنع بكم بمصر ، ورأيت إخراجكم من تعبد أهل مصر إلى ارض الكنعانيين - ومن تقدم معهم - إلى الأرض التي تعل السمن والعسل ، فإذا قبلوا منك فادخل أنت وأشياخ بني إسرائيل إلى ملك مصر فقولوا له : الرب إله العبرانيين ظهر علينا فننطلق الآن مسيرة ثلاثة أيام في البرية ونذبح الذبائح لله ربنا ، وأنا أعلم أن ملك مصر لا يدعكم تخرجون ، ولا بيد واحدة شديدة ، حتى أبعث بآفتي وأضرب المصريين بجميع العجائب التي أحدثها فيهم ، ومن بعد ذلك يرسلكم فأجعل للشعب في أعين المصريين رأفة ورحمة ، فإذا انطلقتم فلا تنطلقوا عطلاً صفراً ، بل تستعير المرأة منكم من جاراتها وساكنة بيتها حلي ذهب وفضة وكسوة ، وألبسوها بنيكم وبناتكم ، وأخربوا أهل مصر ، فأجاب موسى وقال : إنهم لا يصدقونني ، ولا يقبلون قولي ، لأنهم يقولون :لم

يتراءى لك الرب ، فقال له الرب : ما هذه التي في يدك ؟ فقال : هي عصاي ، فقال : ألقها في الأرض ، فألقاها في الأرض ، فصارت ثعباناً ، فهرب منه موسى ، فقال له الرب : يا موسى ! مد يدك ، فخذ بذنبها ، فمد يده فأمسكه فتحول في يده عصا ، فقال : لكي يصدقوا أن الله إله آبائهم قد تراءى لك ، إله إبراهيم إله إسحاق إله يعقوب ، وقال الرب لموسى : اردد يدك في ردنك ، وفي نسخة : في كمك ، فأدخلها ثم أخرجها فإذا

بيده

بيضاء كالثلج ، فقال له : اردد يدك في حضنك ، وفي نسخة : في كمك ، فردها ثم أخرجها فإذا هي مثل جسده ، فإن هم لم يؤمنوا ولم يسمعوا بالآية الأولى فإنهم يؤمنون ويسمعون بالآية الأخرى ، فإن لم يؤمنوا بالآيتين ، ولم يسمعوا قولك فخذ ماء من الأرض ، وفي نسخة : النيل ، فاصببه على الأرض ، فإنه ينقلب ويصير دماً في اليبس ، فقال موسى للرب : أطلب إليك يا رب لست رجلاً ناطقاً منذ أمس ولا قبله ولا من الوقت الذي كلمت عبدك فيه ، لأني ألثغ المنطق عسر اللسان ، فقال له الرب : من الذي خلق المنطق للإنسان ؟ ومن الذي خلق الأخرس والأصم والمبصر والمكفوف ؟ أليس أنا الرب الذي أصنع ذلك ؟ فانطلق الآن وأنا أكون معك ، وراقباً للسانك وألقنك ما تنطق به ، فقال : موسى أطلب إليك يا رب ! أرسل في هذه الرسالة غيري ، فقال : هذا أخوك هارون اللاوي ، قد علمت أنه ناطق لسن ، وهو أيضاً سيلقاك ، ويشتد فرحه بك ، وأخبره بالأمر ، ولقنه كلامي ، وأنا أكون راقباً على فيك وفيه وأعلمكما ما تصنعان ، وهو يكلم الشعب عنك ؛ فيكون لك مترجماً ، وأنت تكون له إلهاً ، وفي نسخة : أستاذاً ومدبراً ، وخذ في يديك هذه العصا لتعمل بها الآيات ، فرجع موسى منطلقاً إلى ثيرو ختنه وقال له : إني راجع إلى إخوتي بمصر ، وناظر هل هم أحياء بعد ؟ فقال : ثيرو لموسى : انطلق راشداً سالماً ، وقال الرب لموسى في مدين : انطلق راجعاً إلى مصر لأن الرجال الذين كانوا معك يطلبون نفسك قد هلكوا جميعاً - إلى آخر ما مضى في الأعراف ، وفي هذا الفصل ما لا يسوغ إطلاقه في شرعنا على مخلوق ، وهو الإله ، وهو في لغة العبرانيين بمعنى العالم والحاكم ، وفيه أيضاً أن فرعون مات قبل رجوع موسى فإن كان المراد الذي ربى موسى عليه الصلاة والسلام في بيته فهو مما بدلوه .