ثم سلَّى رسوله صلى الله عليه وسلم ، فقال : { فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك } أي : هذه عادة الظالمين ، ودأبهم الكفر بالله ، وتكذيب رسل الله وليس تكذيبهم لرسل الله ، عن قصور ما أتوا به ، أو عدم تبين حجة ، بل قد { جاءوا بالبينات } أي : الحجج العقلية ، والبراهين النقلية ، { والزبر } أي : الكتب المزبورة المنزلة من السماء ، التي لا يمكن أن يأتي بها غير الرسل .
{ والكتاب المنير } للأحكام الشرعية ، وبيان ما اشتملت عليه من المحاسن العقلية ، ومنير أيضا للأخبار الصادقة ، فإذا كان هذا عادتهم في عدم الإيمان بالرسل ، الذين هذا وصفهم ، فلا يحزنك أمرهم ، ولا يهمنك شأنهم .
وهنا يلتفت إلى الرسول [ ص ] مسليا مواسيا ، مهونا عليه ما يلقاه منهم ، وهو ما لقيه إخوانه الكرام من الرسل على توالي العصور :
( فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك ، جاؤوا بالبينات والزبر والكتاب المنير ) .
فما هو أول رسول يتلقى بالتكذيب . والأجيال المتعاقبة - وبخاصة من بني إسرائيل - تلقوا بالتكذيب رسلا جاءوهم بالبينات والخوارق ، وجاءوهم بالصحائف المتضمنة للتوجيهات الإلهية - وهي الزبر - وجاءوهم بالكتاب المنير كالتوراة والإنجيل . . فهذا هو طريق الرسل والرسالات . . وما فيه من عناء ومشقة . وهو وحده الطريق .
{ فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاؤوا بالبينات والزبر والكتاب المنير } تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم من تكذيب قومه واليهود ، والزبر جمع زبور وهو الكتاب المقصور على الحكم من زبرت الشيء إذا حسبته ، والكتاب في عرف القرآن ما يتضمن الشرائع والأحكام ولذلك جاء الكتاب والحكمة متعاطفين في عامة القرآن . وقيل الزبر المواعظ والزواجر ، من زبرته إذا زجرته . وقرأ ابن عامر وبالزبر وهشام وبالكتاب بإعادة الجار للدلالة على أنها مغايرة للبينات بالذات .
ثم آنس تعالى نبيه بالأسوة والقدوة فيمن تقدم من الأنبياء أي : فلا يعظم عليك ذلك ، وقرأ ابن عامر : و «بالزبر » : بإعادة باء الجر ، وسقوطها على قراءة الجمهور متجه ، لأن الواو شركت الزبر في الباء الأولى فاستغني عن إعادة الباء ، وإعادتها أيضاً متجهة لأجل التأكيد ، وكذلك ثبتت في مصاحف أهل الشام ، وروي أيضاً عن ابن عامر إعادة الباء في قوله : «وبالكتاب المنير » و { الزبر } : الكتاب المكتوب يقال : زبرت الكتاب إذا كتبته ، وزبرته إذا قرأته{[3756]} ، والشاهد لأنه الكتاب قول امرىء القيس : [ الطويل ]
لِمَنْ طَلَلٌ أبْصَرْتُهُ فَشَجَاني . . . كَخَطِّ زَبورٍ في عَسِيبِ يَماني{[3757]} ؟
وقال الزجّاج : زبرت كتبت ، وذبرت بالذال ، قرأت ، و «المنير » : وزنه مفعل من النور أي سطع نوره .
سلى الله نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله : « فإن كذّبوك فقد كُذّب رسل من قبلك » والمذكور بعد الفاء دليل الجواب لأنّه علّته ، والتقدير : فإن كذّبوك فلا عجب أو فلا تحزن لأنّ هذه سُنّة قديمة في الأمم مع الرسل مثلك ، وليس ذلك لنقص فيما جئت به . والبيّنات : الدلائل على الصدق ، والزبر جمع زبور وهو فَعول بمعنى مفعول مثل رسول ، أي مزبور بمعنى مخطوط . وقد قيل : إنه مأخوذ من زَبَر إذا زَجر أوْ حَبَس لأنّ الكتاب يقصد للحكم . وأريد بالزبر كتب الأنبياء والرسل ، ممّا يتضمّن مواعظ وتذكيراً مثل كتاب داوود والإنجيل .
والمراد بالكتاب المنير : إن كان التعريف للجنس فهو كتب الشرائع مثل التوراة والإنجيل ، وإن كان للعهد فهو التوراة ، ووصفه بالمنير مجاز بمعنى المبيِّن للحق كقوله : { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور } [ المائدة : 44 ] والعطف منظور فيه إلى التوزيع ، فبعض الرسل جاء بالزّبر ، وبعضهم بالكتاب المنير ، وكلّهم جاء بالبيّنات .
وقرأ الجمهور { والزّبر } بعطف الزبر بدون إعادة باء الجرّ .
وقرأه ابن عامر : وبالزبر بإعادة باء الجرّ بعد واو العطف وكذلك هو مرسوم في المصحف الشامي .
وقرأ الجمهور : والكتاب بدون إعادة باء الجرّ وقرأه هشام عن ابن عامر وبالكتاب باعادة باء الجرّ وهذا انفرد به هشام ، وقد قيل : إنّه كُتب كذلك في بعض مصاحف الشام العتيقة ، وليست في المصحف الإمام . ويوشك أن تكون هذه الرواية لهشام عن ابن عامر شاذّة في هذه الآية ، وأنّ المصاحف التي كتبت بإثبات الباء في قوله : { وبالكتاب } [ فاطر : 25 ] كانت مملاة من حفّاظ هذه الرواية الشاذّة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فإن كذبوك} يا محمد، يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم ليصبر على تكذيبهم، فلست بأول رسول كذب، فذلك قوله سبحانه: {فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات}، يعني بالآيات، {والزبر}، يعني بحديث ما كان قبلهم والمواعظ، {والكتاب المنير}، يعني المضيء البين الذي فيه أمره ونهيه.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وهذا تعزية من الله جلّ ثناؤه نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم على الأذى الذي كان يناله من اليهود وأهل الشرك بالله من سائر أهل الملل. يقول الله تعالى له: لا يحزنك يا محمد كذب هؤلاء الذين قالوا: إن الله فقير، وقالوا: إن الله عهد إلينا أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار، وافتراؤهم على ربهم اغترارا بإمهال الله إياهم، ولا يعظمنّ عليك تكذيبهم إياك، وادّعاؤهم الأباطيل من عهود الله إليهم، فإنهم إن فعلوا ذلك بك فكذّبوك، كذبوا على الله، فقد كذبت أسلافهم من رسل الله قبلك من جاءهم بالحجج القاطعة العذر، والأدلة الباهرة العقل، والآيات المعجزة الخلق، وذلك هو البينات. وأما الزبر: فإنه جمع زبور: وهو الكتاب، وكل كتاب فهو زبور... ويعني بالكتاب: التوراة والإنجيل، وذلك أن اليهود كذّبت عيسى وما جاء به وحرّفت ما جاء به موسى عليه السلام من صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وبدلت عهده إليهم فيه، وأن النصارى جحدت ما في الإنجيل من نعته وغيرت ما أمرهم به في أمره.
وأما قوله: {المُنِيرِ} فإنه يعني: الذي ينير فيبين الحقّ لمن التبس عليه ويوضحه، وإنما هو من النور والإضاءة...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: {فإن كذبوك} يا محمد في القول وما جئت من آيات تدل وتوضح أنك رسول الله وإنك صادق في قولك {فقد كذب رسل من قبلك جاؤوا بالبينات} يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم ويصبره ليصبر على أذاهم وتكذيبهم كقوله عز وجل {فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل} الآية (الأحقاف 35).
وفي قوله تعالى أيضا: {فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك} وجوه:
أحدهما: أن يصبره على ذلك بما فيه أجر كما، صبروا على عظم ذلك عليهم ذلك في قوله عز وجل: {فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل} (الأحقاف 35).
والثاني: على رفع العذر عنه في ترك الإبلاغ أن ذلك لم يمنع من تقدمه.
والثالث: على الإنباء أنهم أصحاب تقليد في التكذيب لا أن يكذبوا من محنة وظهور فذلك أقل للتأذي به ولوهم الارتياب في الأنباء ليستيقن من حضره وصدقه ان ذلك منهم على الاعتياد والتقليد دون المحنة والظهور والله أعلم.
وقوله تعالى: {بالبينات} قد ذكرناها في ما تقدم في غير موضع وقوله تعالى: {والزبر} قيل: {أحاديث الأنبياء رضي الله عنهم من قبلهم بالنبوة على ما يكون وقيل: والزبر هي الكتب أي جاؤوا بالبينات والزبر يعني الكتب {والكتاب المنير} قيل: الزبر والكتاب واحد وقيل: {والكتاب المنير} هو الذي فيه الحلال والحرام والأحكام المكتوبة عليهم والمنير هو الذي أنار قلب كل من تمسك بالهدى كما قيل في الفرقان: إنه يفصل ويفرق بين الحق والباطل والله أعلم وتسمى كتب اله فرقانا ومنيرا بما يفرق فيها بين الحق ويبين السبيلين جميعا، والله أعلم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
فإن قيل: لم جمع بين الزبر والكتاب ومعناهما واحد؟ قلنا: لأن أصلهما مختلف، فهو زبور لما فيه من الزجر عن خلاف الحق، وهو كتاب، لأنه ضم الحروف بعضها إلى بعض، وسمي زبور داود لكثرة ما فيه من المواعظ والزواجر. فإن قيل: كيف قال (فان كذبوك، فقد كذب رسل من قبلك) وهم وإن لم يكذبوه أيضا، فقد كذب رسل من قبله؟ قلنا: لأن المعنى فقد جروا على عادة من قبلهم في تكذيب أنبيائهم، إلا أنه ورد على وجه الإيجاز.
في قوله: {فإن كذبوك} وجوه: أحدها: فإن كذبوك في قولك أن الأنبياء المتقدمين جاءوا إلى هؤلاء اليهود بالقربان الذي تأكله النار فكذبوهم وقتلوهم، فقد كذب رسل من قبلك: نوح وهود وصالح وإبراهيم وشعيب وغيرهم. والثاني: أن المراد: فإن كذبوك في أصل النبوة والشريعة فقد كذب رسل من قبلك، ولعل هذا الوجه أوجه، لأنه تعالى لم يخصص، ولأن تكذيبهم في أصل النبوة أعظم، ولأنه يدخل تحته التكذيب في ذلك الحجاج. والمقصود من هذا الكلام تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبيان أن هذا التكذيب ليس أمرا مختصا به من بين سائر الأنبياء، بل شأن جميع الكفار تكذيب جميع الأنبياء والطعن فيهم، مع أن حالهم في ظهور المعجزات عليهم وفي نزول الكتب إليهم كحالك، ومع هذا فإنهم صبروا على ما نالهم من أولئك الأمم واحتملوا إيذاءهم في جنب تأدية الرسالة، فكن متأسيا بهم سالكا مثل طريقتهم في هذا المعنى، وإنما صار ذلك تسلية لأن المصيبة إذا عمت طابت وخفت.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
(فإن كذبوك) بعد أن جئتهم بالبينات الناصعة، والزبر الصادعة، والكتاب الذي ينير السبيل، ويقيم الدليل، فلا تأس عليهم، ولا تحزن لكفرهم، ولا تعجب من فساد أمرهم، فإن هذه سنة الله في العباد، وشنشنة من سبق من هؤلاء من آباء وأجداد: (فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير) فأقاموا على أقوامهم الحجة ببيناتهم، وهزوا قلوبهم بزبر عظاتهم، وأناروا بالكتاب سبيل نجاتهم، فما أغنى ذلك عنهم من شيء لما انصرفت قلوبهم عن طلب الحق وتحري سبيل الخير فالآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وبيان لطباع الناس واستعدادهم.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
سلّى الله نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: « فإن كذّبوك فقد كُذّب رسل من قبلك» والمذكور بعد الفاء دليل الجواب لأنّه علّته، والتقدير: فإن كذّبوك فلا عجب أو فلا تحزن لأنّ هذه سُنّة قديمة في الأمم مع الرسل مثلك، وليس ذلك لنقص فيما جئت به. والبيّنات: الدلائل على الصدق، والزبر جمع زبور وهو فَعول بمعنى مفعول مثل رسول، أي مزبور بمعنى مخطوط. وقد قيل: إنه مأخوذ من زَبَر إذا زَجر أوْ حَبَس لأنّ الكتاب يقصد للحكم. وأريد بالزبر كتب الأنبياء والرسل، ممّا يتضمّن مواعظ وتذكيراً مثل كتاب داوود والإنجيل.
والمراد بالكتاب المنير: إن كان التعريف للجنس فهو كتب الشرائع مثل التوراة والإنجيل، وإن كان للعهد فهو التوراة، ووصفه بالمنير مجاز بمعنى المبيِّن للحق كقوله: {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور} [المائدة: 44] والعطف منظور فيه إلى التوزيع، فبعض الرسل جاء بالزّبر، وبعضهم بالكتاب المنير، وكلّهم جاء بالبيّنات.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
ولقد بين الله لنبيه أن هؤلاء جنس قائم بذاته تعوَّد التكذيب، فلا تبتئس بما كانوا يفعلون، ولذا قال سبحانه: {فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير} البينات هي الآيات المبينة للحق، الموضحة له، وهي الأدلة التي يتحدى بها النبي من الأنبياء قومه ليثبت لهم رسالته، والزبر جمع زبور، وهو الصحيفة أو الكتاب أو هو جمع لزبر، وهو الأمر الشديد، وخص الزبور بالكتاب المنزل على داود عليه السلام وقال تعالى: {وآتينا داود زبورا55} [الإسراء] وقرئ {زبورا} -بضم الزاي- كقولهم في جمع ظريف ظروف، أو يكون جمع زبر وزبر مصدر سمى به كالكتاب، ثم جمع على زبر كما جمع كتاب على كتب، وقيل بل الزبور كل كتاب صعب الوقوف عليه من الكتب الإلهية، وقال بعضهم: الزبور اسم للكتاب المقصور على الحكم العقلية دون الأحكام الشرعية، والكتاب اسم لما يتضمن الأحكام الشرعية.
وخلاصة القول: أن الله تعالى يخفف عن نبيه صلى الله عليه وسلم تكذيب أولئك الضالين الجاحدين فيبين أن الأنبياء قبله قد جاءوا بالمعجزات القاطعة المثبتة للرسالة، ومعهم الأوامر الإلهية المشددة الزاجرة، ومعهم الكتاب المبين الذي اشتمل على ما فيه مصلحة الدنيا والآخرة، ومع ذلك كفروا بآيات ربهم، وأنكروا الرسالة مع قيام الأدلة التي لا مجال لإنكارها، ومع أن ما يدعو إليه معقول في ذاته، وفيه مصلحتهم في الدنيا والآخرة، وإذا كانت الطاعة في الدنيا غير ثابتة، فإن الله سبحانه وتعالى جعل الآخرة دار الطاعة والقرار، ودار الجزاء والثواب والعقاب، وما الحياة الدنيا إلا سبيل لما يكون يوم القيامة، ولذا قال سبحانه: {كل نفس ذائقة الموت وغنما توفون أجوركم يوم القيامة}.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
إنَّها الالتفاتة القرآنية التي تتكرر في كلّ آية، لتربط الرَّسول في رسالته بالخطّ الواقعي للعمل الذي يتحرّك بالوعي، من أجل الإيحاء له بأنَّ الرسالة لا بُدَّ لها من أن تُعاني في الحاضر ما عانته الرسالات في الماضي من مشاكل وتحدِّيات؛ ومهما كثرت المشاكل وكبُرت التحدِّيات، فإنَّها لن تستطيع أن تهزم الرسالة، بل سيزيدها ذلك قوّة وامتداداً وعمقاً في داخل النفس الإنسانية، لأنَّ التجربة تزداد عمقاً كلّما تنوّعت الآفاق التي تتحرّك من حولها، والمشاكل التي تعصف في داخلها، ما يجعل من قضية مواصلة التجربة قضية الحياة في مداها الطويل.