محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدۡ كُذِّبَ رُسُلٞ مِّن قَبۡلِكَ جَآءُو بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلزُّبُرِ وَٱلۡكِتَٰبِ ٱلۡمُنِيرِ} (184)

/

184

( فان كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير184 ) .

( فان كذبوك ) أي بعد بطلان عذرهم المذكور ( فقد كذب ) أي فلا تحزن وتسل فقد كذب ( رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر ) جمع زبور أي الكتب الموحاة منه تعالى ( والكتاب المنير ) أي الواضح الجلي . والزبور والكتاب : واحد في الأصل ، وإنما ذكرا لاختلاف الوصفين . فالزبور فيه حكم زاجرة ، والكتاب المنير هو المشتمل على جميع الشريعة .

فائدة

في قربان أهل الكتاب وتشريعه عندهم

اعلم أن القربان ( بضم القاف ) معناه ، لغة ، ما يتقرب به إلى الله تعالى وسيلة لمرضاته . قال في ( مرشد الطالبين ) : كانت ذبائح العبرانيين عديدة جدا ، وكان المستعمل لهذه الذبيحة ، بتعيين الله ، الثيران والنعاج والمعز والحمام واليمام . وكانت الذبائح نوعين عامين : إحداهما كانت تقرب لتكفير الخطايا ، والأخرى شكرا لله على مراحمه وبركاته .

ثم قال : فالذبيحة اليومية كانت مشهورة جدا ، وهي خروف بلا عيب ، يقدم وقودا لله كفارة للخطايا ، وذلك مرتان صباحا ومساء ، طول مدة السنة ، فالتي في الصباح تقدم عن خطايا الشعب ليلا ، والتي في المساء عن خطاياهم نهارا . وقبل فعل الذبيحة تعترف كل الشعوب بخطاياها فوق الحيوان المراد ذبحه على يد الكاهن الخادم ، وبهذا كان ينقل الإثم إليه بواسطة وضع وكلاء الشعب أيديهم على رأسه ، ثم يذبح ويقرب وقودا . وفي غضون ذلك تسجد الجماعة في الدار ، وتبخر الكهنة على المذابح الذهبية ، ويقدمون الطلبات لله عن الشعب . وأما في يوم السبت ، فكانت تتضاعف الذبيحة ، ويقرب في كل دفعة خروفان .

/ ثم قال : يوم الكفارة كان ممتازا بالذبيحة السنوية ، وهي أنه بعد أن يقرب الكاهن ثورا كفارة لخطايا عائلته يقرب ماعزان كفارة لخطايا الشعب –انتهى- .

وقد أشير لكيفية ذبح القربان وحرقه في مواضع من التوراة . منها سفر الخروج في الفصل التاسع والعشرين ، ومنها في الفصل الأول من سفر الأحبار المسمين باللاويين ونصه : ودعا الرب موسى وخاطبه من خباء المحضر قائلا : خاطب بني اسرائيل وقل لهم : أي إنسان منكم قرب قربانا للرب من البهائم فمن البقر والغنم يقربون قرابينهم إن كان قربانه محرقة من البقر ، فذكرا صحيحا يقربه عند باب خباء المحضر يقربه للرضوان عنه ، ويضع يده على رأس المحرقة ، ويترضى به ليغفر له ، ثم يذبح الثور ويقرب الكهنة بنو هارون الدم وينضحون الدم على المذبح ، وما أحاط به في باب قبة الشهادة –يعني التابوت الذي كان فيه لوحا التوراة المسماة شهادة – ثم يسلخون المحرقة ، ويقطعونها قطعا ، ثم يوقدون نارا على المذبح ، وينضدون الحطب على النار ، ثم يجعلون الأعضاء المقطعة الرأس والشحم على الحطب الذي على النار على المذبح ، ويغسلون أكارعه وجوفه بالماء ، ثم يصعده الكاهن ويجعله على المذبح وقودا وقربانا لرضا الرب . . . الخ .

وفي الفصل السادس من سفر الأحبار : وكلم الرب موسى قائلا : مر هارون وبنيه ، وقل لهم : هذه شريعة المحرقة ، على وقيدة المذبح طول الليل إلى الغداة ، ونار المذبح متقدة عليه ، ويلبس الكاهن قميصه من الكتان ، وسراويلات من الكتان على بدنه ، ويرفع الرماد الذي آلت إليه نار المحرقة على المذبح ، ويجعله إلى جانب المذبح ، ثم يخلع ثيابه ويلبس ثيابا أخر ، ويخرج الرماد إلى خارج المحلة إلى موضع طاهر ، وتبقى النار على المذبح متقدة لا تطفأ ، ويضع عليها الكاهن حطبا في كل غداة . . . الخ .

قال بعضهم : زعم الربانيون أن النار التي كانت في هيكل سليمان ، والتي أمر اليهود بحفظها دون أن تطفأ البتة ، كان أصلها من النار التي نزلت من السماء بعد تقدمة هارون وأبنائه المحرقات ، وأنها بقيت إلى أيام خراب الهيكل على يد بختنصر ، إلا أنه ليس في التوراة ما يصرح بذلك –انتهى- .

/ وهذه النار التي نزلت من السماء جاء ذكرها في الفصل التاسع من سفر الأحبار وملخصه : إن موسى أمر هارون عليهما السلام أن يذبح قربانا ، فذبح عجلا وأحرق لحمه وجلده خارج المحلة ، وأما شحمه وكليتاه وزيادة كبده فقترها على المذبح ، ثم قرب تيسا وثورا وكبشا بكيفية خاصة ، ثم دخل موسى وهارون خباء المحضر ، فخرجت نار من عند الرب ، فأكلت المحرقة والشحوم التي على المذبح ، فنظر جميع الشعب وهتفوا مسبحين وسجدوا –انتهى- .

إذا علمت ذلك ، فقوله تعالى : ( تأكله النار ) بمعنى أنه يذبح على الكيفية المعروفة ، ثم تنزل نار من السماء فتأكله ، وتكون معجزة آية كما حصل في عهد موسى وهارون من نزول النار وأكلها المحرقة ، كما ذكرنا . وفي عهد سليمان أيضا . فقد جاء في الفصل التاسع من سفر أخبار الأيام الثاني : إن سليمان لما أتم الدعاء هبطت النار من السماء وأكلت المحرقة والذبائح ، وكان جميع بني إسرائيل يعاينون هبوط النار –انتهى- .