قوله تعالى : { وأنبتنا عليه } أي : له ، وقيل : عنده ، { شجرة من يقطين } يعني : القرع ، على قول جميع المفسرين . قال الحسن و مقاتل : كل نبت يمد وينبسط على وجه الأرض ليس له ساق ولا يبقى على الشتاء نحو القرع والقثاء والبطيخ فهو يقطين . قال مقاتل بن حبان : فكان يونس يستظل بالشجرة ، وكانت وعلة تختلف إليه فيشرب من لبنها بكرة وعشية حتى اشتد لحمه ونبت شعره وقوي ، فنام نومة فاستيقظ وقد يبست الشجرة فحزن حزناً شديداً وأصابه أذى الشمس فجعل يبكي ، فبعث الله تعالى إليه جبريل وقال : أتحزن على شجرة ولا تحزن على مائة ألف من أمتك وقد أسلموا وتابوا .
{ وأنبتنا عليه } : أي فوقه مظلة عليه . { شجرة من يقطين } : من شجر ينبسط على وجه الأرض ولا يقوم على ساقه ، يفعيل من قطن بالمكان إذا أقام به ، والأكثر على أنها كانت الدباء غطته بأوراقها عن الذباب فإنه لا يقع عليه ، ويدل عليه أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إنك لتحب القرع ، قال : " أجل هي شجرة أخي يونس " ، وقيل التين وقيل الموز تغطى بورقه واستظل بأغصانه وأفطر على ثماره .
فأنعشه الله في ظل «اليقطينة » بلبن أروية كانت تغاديه وتراوحه ، وقيل بل كان يتغذى من اليقطينة ، ويجد منها ألوان الطعام وأنواع شهواته .
واختلف الناس في «اليقطينة » فقالت فرقة هي شجرة لا نعرفها سماها الله باليقطينة ، وهي لفظة مأخوذة من قطن إذا أقام بالمكان ، وقال سعيد بن جبير وابن عباس والحسن ومقاتل : اليقطين كل ما لا يقوم على ساق من عود كالبقول والقرع والحنظل ، والبطيخ ونحوه مما يموت من عامه ، وروي نحوه عن مجاهد ، وقال ابن عباس وأبو هريرة وعمرو بن ميمون : «اليقطين » القرع خاصة .
قال القاضي أبو محمد : وعلى هذين القولين فإما أن يكون قوله : { شجرة } : تجوزاً وإما أن يكون أنبتها عليه ذات ساق خرقاً للعادة ، لأن الشجرة في كلام العرب إنما يقال لما كان على ساق من عود ، وحكى بعض الناس أنها كانت قرعة وهي تجمع خصالاً برد الظل والملمس وعظم الورق وأن الذباب لا يقربها ، وحكى النقاش أن ماء ورق القرعة إذا رش بمكان لم يقربه ذباب ، ومشهور اللغة أن «اليقطين » القرع وقد قال أمية بن أبي الصلت في قصة يونس : [ الطويل ]
فأنبت يقطيناً عليه برحمة . . . من الله لولا الله ُأْلِفَي ضاحيا
فنبت يونس عليه السلام وصح وحسن جسمه لأن ورق القرع أنفع شيء لمن تسلخ جلده كيونس صلى الله عليه وسلم ، وروي أنه كان يوماً نائماً فأيبس الله تلك اليقطينة ، وقيل بعث عليها الأرضة فقطعت عروقها فانتبه يونس لحر الشمس فعز عليه شأنها وجزع له ، فأوحى الله تعالى إليه : يا يونس أجزعت ليبس اليقطينة ولم تجزع لإهلاك مائة ألف أو يزيدون تابوا فتيب عليهم .
أنبت الله شجرة من يقطين لتظلله وتستره . واليقطين : الدُّبَّاء وهي كثيرة الورق تتسلق أغصانها في الشيء المرتفع ، فالظاهر أن أغصان اليقطينة تسلقت على جسد يونس فكسته وأظلته . واختير له اليقطين ليُمكن له أن يقتات من غِلته فيصلح جسده لطفاً من ربه به بعد أن أجرى له حادثاً لتأديبه ، شأن الرب مع عبيده أن يُعْقِب الشدة باليسر .
وهذا حدث لم يعهد مثيله من الرسل ولأجله قال النبي صلى الله عليه وسلم « ما ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونُس بن متّى » ، يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسَه إذ لا يحتمل أن يكون أراد أحداً آخر إذ لا يخطر بالبال أن يقوله أحد غير الأنبياء . والمعنى نفي الأخيريّة في وصف النبوءة ، أي لا يظنَنّ أحد أن فعلة يونس تسلب عنه النبوءة .
فذلك مثل قوله صلى الله عليه وسلم « لا تفضّلوا بين الأنبياء » ، أي في أصل النبوءة لا في درجاتها فقد قال الله تعالى : { تلك الرسل فضّلنا بعضهم على بعض منهم من كلّم الله ورفع بعضهم درجات } [ البقرة : 253 ] وقال : { ولقد فضلنا بعض النبيئين على بعض } [ الإسراء : 55 ] .
واعلم أن الغرض من ذكر يونس هنا تسلية النبي صلى الله عليه وسلم فيما يلقاه من ثقل الرسالة بأن ذلك قد أثقل الرسل من قبله فظهرت مرتبة النبي صلى الله عليه وسلم في صبره على ذلك وعدم تذمّره ولإِعلام جميع الناس بأنه مأمور من الله تعالى بمداومة الدعوة للدين لأن المشركين كانوا يلومونه على إلحاحِه عليهم ودعوته إياهم في مختلف الأزمان والأحوال ويقولون : لا تَغْشنَا في مجالسنا فمن جاءك فمنّا فاسمعه ، كما قال عبد الله بن أُبيّ قال تعالى : { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالاته } [ المائدة : 67 ] فلذكر قصة يونس أثر من موعظة التحذير من الوقوع فيما وقع فيه يونس من غضب ربه ألاَ ترى إلى قوله تعالى : { فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم } [ القلم : 48 - 49 ]
وليعلم الناس أن الله إذا اصطفى أحداً للرسالة لا يرخص له في الفتور عنها ولا ينسخ أمره بذلك لأن الله أعلم حيث يجعل رسالاته .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله: {وأنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ}: يقول تعالى ذكره: وأنبتنا على يونس شجرة من الشجر التي لا تقوم على ساق، وكل شجرة لا تقوم على ساق كالدّباء والبِطّيخ والحَنْظَل ونحو ذلك، فهي عند العرب يَقْطِين.
واختلف أهل التأويل في ذلك؛ فقال بعضهم نحو الذي قلنا في ذلك...
وقال آخرون: هو القرع...عن قتادة: {وأنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ}: كنّا نحدّث أنها الدّبّاء، هذا القرع الذي رأيتم أنبتها الله عليها يأكل منها.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
الأشبه أن تكون شجرة القرع لأنها أسرع الأشجار نبتا وامتدادا وارتفاعا في السماء في مدة لطيفة ووقت قريب، والوصول إلى الارتفاع بها أكلا واستظلالا بها ما لا يكون مثل ذلك في مثل تلك المدة من الأشجار، وعلى ذلك روي أنه قيل: (يا رسول الله إنك لتُحبّ القَرْع، قال: أجل، هي شجرة أخي يونس، وهي تزيد في العقل) [بنحوه البخاري 2092]، فهذا يدل إن ثبت أنها كانت شجرة القرع، ثم فيه لطف من الله عز وجل حين أنبت عليه شجرة في وقت لطيف، لا ينبث مثلها إلا بعد مدة طويلة ووقت مديد، وأبقى عليه الضعف وقتا طويلا مما يرفع ذلك، ويزول في وقت يسير في العُرف ليذكّره ما أنعم عليه، ويقوم بشكره، وهو كما ذكر في قصة صاحب موسى الحمار حين قال عز وجل: {فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنّه وانظر إلى حمارك} [البقرة: 259] أبقى طعامه وشرابه، وحفظه وقتا طويلا فلم يغير ما طبعه التغيّر في وقت يسير، وغيّر ما طبعه البقاء، لطفا منه؛ فعلى ذلك أنبت على يونس شجرة في وقت لطيف مما لا ينبت مثلها إلا وقت طويل، وأبقى ذلك الضعف الذي كان به والسقم مما سبيله الزوال والارتفاع في وقت يسير لطفا منه لتذكير ما ذكرنا.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{أنبتنا عليه شجرة} في كلام العرب: ما كان على ساق من عود، فيحتمل أن يكون الله أنبتها ذات ساق يستظل بها وبورقها خرقاً للعادة، فنبت وصح وحسن وجهه، لأن ورق القرع أنفع شيء لمن ينسلخ جلده...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وأنبتنا}: أي بعظمتنا في ذلك المكان لا مقتضى للنبات مطلقاً فيه فضلاً عما لا ينبت إلا بالماء الكثير.
ولما كان سقمه متناهياً بالغاً إلى حد يجل عن الوصف، نبه عليه بأداة الاستعلاء فقال: {عليه} أي ورفعناها حال إنباتنا إياها فوقه لتظله كما يظل البيت الإنسان. واليقطين... فيه ملاءمة لجسد الإنسان حتى لو ذهبت عظمة من رأسه فوضع مكانها قطعة من جلد القرع نبت عليها اللحم وسد مسده...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
اليقطين: الدُّبَّاء وهي كثيرة الورق تتسلق أغصانها في الشيء المرتفع، فالظاهر أن أغصان اليقطينة تسلقت على جسد يونس فكسته وأظلته،...شأن الرب مع عبيده أن يُعْقِب الشدة باليسر...
واعلم أن الغرض من ذكر يونس هنا تسلية النبي صلى الله عليه وسلم فيما يلقاه من ثقل الرسالة؛ بأن ذلك قد أثقل الرسل من قبله فظهرت مرتبة النبي صلى الله عليه وسلم في صبره على ذلك، وعدم تذمّره، ولإِعلام جميع الناس بأنه مأمور من الله تعالى بمداومة الدعوة للدين لأن المشركين كانوا يلومونه على إلحاحِه عليهم ودعوته إياهم في مختلف الأزمان والأحوال ويقولون: لا تَغْشنَا في مجالسنا فمن جاءك منّا فاسمعه، كما قال عبد الله بن أُبيّ قال تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالاته} [المائدة: 67]، فلذكر قصة يونس أثر من موعظة التحذير من الوقوع فيما وقع فيه يونس من غضب ربه؛ ألاَ ترى إلى قوله تعالى: {فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم} [القلم: 48 -49] وليعلم الناس أن الله إذا اصطفى أحداً للرسالة لا يرخص له في الفتور عنها ولا ينسخ أمره بذلك لأن الله أعلم حيث يجعل رسالاته.
ثم لم يتركه ربه بهذا العراء، بعد أنْ ألقاه الحوت في هذه الأرض الفضاء وهو مُتْعَب، وأشبه ما يكون بالطفل بعد ولادته، فأنبتَ اللهُ له شجرةَ اليقطين {وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ} وهي شجرة عريضة الأوراق قالوا: هي شجرة القرع تستره وتُظِلُّه وتحميه من الذباب والحشرات؛ لأنه خرج وحوله إفرازات من بطن الحوت تعوق تنفُّس جلده، وتعوق حالته الصحية، وتجعله لزقَ المزاج...
والهاء في (عَلَيهِ) تعود على سيدنا يونس، وهذا يعني أن إنبات هذه الشجرة حدث بعد أنْ ألقاه الحوت في العراء، ولم تكُنْ شجرة اليقطين موجودةً في هذا المكان من قبل.
إذن: فالتقام الحوت لسيدنا يونس -عليه السلام- كان رحمةً له من الله بدلَ أنْ يضيعَ في البحر الواسع وتتقاذفه الأمواج لا ندري أين تذهب به، أما الحوت فله إرادة ويمكنه الاحتفاظ به وإلقاؤه على البرِّ. فنحن أمام سلسلة من رحمات الله ليونس عليه السلام.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
يحتمل أنّ الباري عز وجل يريد من هذه المرحلة إكمال الدرس الذي أعطاه ليونس في بطن الحوت، إذ كان عليه أن يحسّ بتأثير حرارة الشمس على جلده الرقيق، كي يبذل جهداً وسعياً أكثر عندما يتسلّم القيادة في المستقبل لإنقاذ اُمّته من نار جهنّم، وقد ورد هذا المضمون في روايات متعدّدة.