وكان السامري قد بصر يوم الغرق بأثر الرسول ، فسولت له نفسه أن يأخذ قبضة من أثره ، وأنه إذا ألقاها على شيء حيي ، فتنة وامتحانا ، فألقاها على ذلك العجل الذي صاغه بصورة عجل ، فتحرك العجل ، وصار له خوار وصوت ، وقالوا : إن موسى ذهب يطلب ربه ، وهو هاهنا فنسيه ، وهذا من بلادتهم ، وسخافة عقولهم ، حيث رأوا هذا الغريب الذي صار له خوار ، بعد أن كان جمادا ، فظنوه إله الأرض والسماوات .
فأخذها السامري فصاغ منها عجلا . والسامري رجل من " سامراء " كان يرافقهم أو أنه واحد منهم يحمل هذا اللقب . وجعل له منافذ إذا دارت فيها الريح أخرجت صوتا كصوت الخوار ، ولا حياة فيه ولا روح فهو جسد - ولفظ الجسد يطلق على الجسم الذي لا حياة فيه - فما كادوا يرون عجلا من ذهب يخور حتى نسوا ربهم الذي أنقذهم من أرض الذل ، وعكفوا على عجل الذهب ؛ وفي بلاهة فكر وبلادة روح قالوا : ( هذا إلهكم وإله موسى )راح يبحث عنه على الجبل ، هو هنا معنا . وقد نسي موسى الطريق إلى ربه وضل عنه !
وهي قولة تضيف إلى معنى البلادة والتفاهة اتهامهم لنبيهم الذي أنقذهم تحت عين الله وسمعه ، وبتوجيهه وإرشاده . اتهامهم له بأنه غير موصول بربه ، حتى ليضل الطريق إليه ، فلا هو يهتدي ولا ربه يهديه !
ثم أخبر الله تعالى عن فعل السامري بقوله تعالى : { فأخرج لهم عجلاً جسداً } ، ومعنى قوله { جسداً } أي شخصاً لا روح فيه ، وقيل معنى { جسداً } لا يتغذى . و «الخوار » صوت البقر ، وقالت فرقة كان هذا العجل يخور ويمشي ع وهكذا تكون الفتنة من قبل الله تعالى قاله ابن عباس ، وقالت فرقة إنما خار مرة واحدة . ثم لم يعد وقالت فرقة إنما كان خواره بالريح كانت تدخل من دبره وتخرج من فيه فيصوت لذلك .
الضمير في قوله { فقالوا } لبني إسرائيل ، أي قالوا حين قال كبارهم لصغارهم وهذا إشارة إلى العجل .
قوله تعالى { فنسي } يحتمل أن يكون من كلام بني إسرائيل أي فنسي موسى ربه وإلهه فذهب يطلبه في غير موضعه ، ويحتمل أن يكون قوله { فنسي } إخباراً من الله تعالى عن السامري ، أي نسي دينه وطريق الحق ع فالنسيان في التأويل الأول{[8147]} بمعنى الذهول ، وفي الثاني بمعنى الترك ،
ضميرا الغيبة في قوله فَأَخْرَجَ لَهُمْ } وقوله : { فَقَالُوا } عائدان إلى غير المتكلمين .
علّق المتكلمون الإخرَاجَ والقولَ بالغائبين للدلالة على أن المتكلمين مع موسى لم يكونوا ممن اعتقد إلهية العجل ولكنهم صانعَوا دهماء القوم ، فيكون هذا من حكاية قول القوم لموسى . وعلى هذا درج جمهور المفسرين ، فيكون من تمام المعذرة التي اعتذر بها المجيبون لموسى ، ويكون ضمير { فأخرج لهم } التفاتاً قصد القائلون به التبرّي من أن يكون إخراج العجل لأجلهم ، أي أخرجَه لمن رغِبوا في ذلك .
وجعل بعض المفسرين هذا الكلام كلّه من جانب الله ، وهو اختيار أبي مسلم ، فيكون اعتراضاً وإخباراً للرسول صلى الله عليه وسلم وللأمّة . وموقع الفاء يناكد هذا لأنّ الفاء لا تَرِد للاستئناف على التحقيق ، فتكون الفاء للتفريع تفريعَ أخبار على أخبار .
والمعنى : فمثل ذلك القذف الذي قذفنا ما بأيدينا من زينة القوم ألقى السامريّ ما بيده من النّار ليَذوب ويصوغها فأخرج لهم من ذلك عجلاً جسداً . فإنّ فعل ( ألقى ) يحكي حالة مشبهة بحالة قَذفهم مصوغَ القبط . والقذف والإلقاء مترادفان ، شبه أحدهما بالآخر .
والجسد : الجسم ذو الأعضاء سواء كان حياً أم لا ؛ لقوله تعالى : { وألْقينا على كرسيه جسداً } [ ص : 34 ] . قيل : هو شِق طفل ولدتْه إحدى نسائه كما ورد في الحديث . قال الزجاج : الجسد هو الذي لا يَعقل ولا يميّز إنما هو الجثّة ، أي أخرج لهم صورة عجل مجسّدة بشكله وقوائمه وجوانبه ، وليس مجرد صورة منقوشة على طبق من فضة أو ذهب . وفي سفر الخروج أنّه كان من ذهب .
والإخْراج : إظهار ما كان محجوباً . والتعبير بالإخراج إشارة إلى أنّه صنعه بحيلة مستورة عنهم حتى أتمّه .
والخُوار : صوت البقر . وكان الذي صنع لهم العجل عارفاً بصناعة الحِيل التي كانوا يصنعون بها الأصنام ويجعلون في أجوافها وأعناقها منافذ كالزمارات تخرج منها أصوات إذا أطلقت عندها رياح بالكير ونحوه .
وصنع لهم السامريّ صنماً على صورة عجل لأنهم كانوا قد اعتادوا في مصر عبادة العجل « ايبيس » ، فلما رأوا ما صاغه السامريّ في صورة معبود عرَفوه من قبل ورأوه يزيد عليه بأن له خواراً ، رسخ في أوهامهم الآفنة أن ذلك هو الإله الحقيقي الذي عبّروا عنه بقولهم { هذا إلهكم وإله موسى ، لأنهم رأوه من ذهب أو فضة ، فتوهموا أنّه أفضل من العجل ( إيبيس ) . وإذ قد كانوا يثبتون إلهاً محجوباً عن الأبصار وكانوا يتطلبون رؤيته ، فقالوا لموسى : { أرنا الله جهرة } [ النساء : 153 ] ، حينئذ توهموا أن هذه ضالتهم المنشودة . وقصة اتخاذهم العجل في كتاب التّوراة غير ملائمة للنظر السليم .
وتفريع { فَنَسِى } يحتمل أن يكون تفريعاً على { فقال هذا إلهكم تفريعَ علة على معلول ، فالضمير عائد إلى السامريّ ، أي قال السامري ذلك لأنه نسي ما كان تلقّاه من هدي ؛ أو تفريعَ معلول على علّة ، أي قال ذلك ، فكان قوله سبباً في نسيانه ما كان عليه من هَدي إذ طبع الله على قلبه بقوله ذلك فحرمه التوفيق من بعدُ .
والنسيان : مستعمل في الإضاعة ، كقوله تعالى : { قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها } [ طه : 126 ] وقوله : { الذين هم عن صلاتهم ساهون } [ الماعون : 5 ] .
وعلى هذا يكون قوله { فَنَسِيَ } من الحكاية لا من المحكي ، والضمير عائد إلى السامريّ فينبغي على هذا أن يتصل بقوله { أفلا يرون } [ طه : 89 ] ويكون اعتراضاً . وجعله جمع من المفسرين عائداً إلى موسى ، أي فنسي موسى إلهكم وإلهه ، أي غفل عنه ، وذهب إلى الطور يفتّش عليه وهو بين أيديكم ، وموقع فاء التفريع يبعد هذا التفسير .