قوله تعالى : { وممن خلقنا أمة } ، أي عصابة .
قوله تعالى : { يهدون بالحق وبه يعدلون } ، قال عطاء عن ابن عباس : يريد أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وهم المهاجرون ، والأنصار ، والتابعون لهم بإحسان . وقال قتادة : بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية قال : هذه لكم ، وقد أعطي القوم بين أيديكم مثلها ، ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا الحميدي ، حدثني عمير بن هانئ أنه سمع معاوية رضي الله عنه يقول : " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( لا تزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله ، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ) . وقال الكلبي : هم من جميع الخلق .
181 . وقوله : وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ .
أي : ومن جملة من خلقنا أمة فاضلة كاملة في نفسها ، مكملة لغيرها ، يهدون أنفسهم وغيرهم بالحق ، فيعلمون الحق ويعملون به ، ويعلِّمونه ، ويدعون إليه وإلى العمل به .
وَبِهِ يَعْدِلُونَ بين الناس في أحكامهم إذا حكموا في الأموال والدماء والحقوق والمقالات ، وغير ذلك ، وهؤلاء هم أئمة الهدى ، ومصابيح الدجى ، وهم الذين أنعم اللّه عليهم بالإيمان والعمل الصالح ، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر ، وهم الصديقون الذين مرتبتهم تلي مرتبة الرسالة ، وهم في أنفسهم مراتب متفاوتة كل بحسب حاله وعلو منزلته ، فسبحان من يختص برحمته من يشاء ، واللّه ذو الفضل العظيم .
ثم يمضي السياق يفصل صنوف الخلق . . بعدما ذكر منهم من قبل أولئك الذين ذرأهم الله لجهنم ( لهم قلوب لا يفقهون بها ، ولهم أعين لا يبصرون بها ، ولهم آذان لا يسمعون بها . . . )ومنهم هؤلاء الذين يلحدون في أسماء الله ويحرفونها . . ثم إن منهم أمة يستمسكون بالحق ، ويدعون الناس إليه ، ويحكمون به ولا ينحرفون عنه . . وأمة - على الضد - ينكرون الحق ، ويكذبون بآيات الله ! فأما الأولون فيقرر وجودهم في الأرض وجوداً ثابتاً لا شك فيه ؛ وهم حراس على الحق حين ينحرف عنه المنحرفون ، ويزيغ عنه الزائغون ؛ وحين يكذب الناس بالحق وينبذونه يبقون هم عليه صامدين . وأما الآخرون فيكشف عن مصير لهم مخيف ، وكيد لله إزاءهم متين :
( وممن خلقنا أمة يهدون بالحق ، وبه يعدلون . والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون . وأملي لهم إن كيدي متين ) . .
وما كانت البشرية لتستحق التكريم لو لم تكن فيها دائماً - وفي أحلك الظروف - تلك الجماعة - التي يسميها الله( أمة )بالمصطلح الإسلامي للأمة وهي : الجماعة التي تدين بعقيدة واحدة وتتجمع على آصرتها ؛ وتدين لقيادة واحدة قائمة على تلك العقيدة - فهذه الأمة الثابتة على الحق ؛ العاملة به في كل حين ، هي الحارسة لأمانة الله في الأرض ، الشاهدة بعهده على الناس ، التي تقوم بها حجة الله على الضالين المتنكرين لعهده في كل جيل .
ونقف لحظة أمام صفة هذه الأمة :
( يهدون بالحق ، وبه يعدلون ) . .
إن صفة هذه الأمة - التي لا ينقطع وجودها من الأرض أياً كان عددها - أنهم ( يهدون بالحق ) . . فهم دعاة إلى الحق ، لا يسكتون عن الدعوة به ، وإليه ، ولا يتقوقعون على أنفسهم ؛ ولا ينزوون بالحق الذي يعرفونه . ولكنهم يهدون به غيرهم . فلهم قيادة فيمن حولهم من الضالين عن هذا الحق ، المتنكرين لذلك العهد ؛ ولهم عمل إيجابي لا يقتصر على معرفة الحق ؛ إنما يتجاوزه إلى الهداية به والدعوة إليه والقيادة باسمه .
( وبه يعدلون ) . . فيتجاوزون معرفة الحق والهداية به إلى تحقيق هذا الحق في حياة الناس والحكم به بينهم ، تحقيقاً للعدل الذي لا يقوم إلا بالحكم بهذا الحق . . فما جاء هذا الحق ليكون مجرد علم يعرف ويدرس . ولا مجرد وعظ يُهدى به ويعرّف ! إنما جاء هذا الحق ليحكم أمر الناس كله . يحكم تصوراتهم الاعتقادية فيصححها ويقيمها على وفقه . ويحكم شعائرهم التعبدية فيجعلها ترجمة عنه في صلة العبد بربه . ويحكم حياتهم الواقعية فيقيم نظامها وأوضاعها وفق منهجه ومبادئه ويقضي فيها بشريعته وقوانينه المستمدة من هذه الشريعة . ويحكم عاداتهم وتقاليدهم وأخلاقهم وسلوكهم فيقيمها كلها على التصورات الصحيحة المستمدة منه . ويحكم مناهج تفكيرهم وعلومهم وثقافاتهم كلها ويضبطها بموازينه . . . وبهذا كله يوجد هذا الحق في حياة الناس ، ويقوم العدل الذي لا يقوم إلا بهذا الحق . . وهذا ما تزاوله تلك الأمة بعد التعريف بالحق والهداية به . .
إن طبيعة هذا الدين واضحة لا تحتمل التلبيس ! صلبة لا تقبل التمييع ! والذين يلحدون في هذا الدين يجدون مشقة في تحويله عن طبيعته هذه الواضحة الصلبة . . وهم من أجل ذلك يوجهون إليه جهودا لا تكل ، وحملات لا تنقطع ، ويستخدمون في تحريفه عن وجهته وفي تمييع طبيعته ، كل الوسائل وكل الأجهزة ، وكل التجارب . . هم يسحقون سحقاً وحشياً كل طلائع البعث والحيوية الصلبة الصامدة في كل مكان على وجه الأرض عن طريق الأوضاع التي يقيمونها ويكفلونها في كل بقاع الأرض ! وهم يسلطون المحترفين من علماء هذا الدين عليه ، يحرفون الكلم عن مواضعه ، ويحلون ما حرم الله ، ويميعون ما شرعه ، ويباركون الفجور والفاحشة ويرفعون عليها رايات الدين وعناوينه ! وهم يزحلقون المخدوعين في الحضارات المادية ، المأخوذين بنظرياتها وأوضاعها ليحاولوا زحلقة الإسلام في التشبه بهذه النظريات وهذه الأوضاع ، ورفع شعاراتها ، أو الاقتباس من نظرياتها وشرائعها ومناهجها ! وهم يصورون الإسلام الذي يحكم الحياة حادثاً تاريخياً مضى ولا تمكن إعادته ، ويشيدون بعظمة هذا الماضي ليخدروا مشاعر المسلمين ، ثم ليقولوا لهم - في ظل هذا التخدير - : إن الإسلام اليوم يجب أن يعيش في نفوس أهله عقيدة وعبادة ، لا شريعة ونظاماً ، وحسبه وحسبهم ذلك المجد التاريخي القديم ! هذا والإ فإن على هذا الدين أن " يتطور " فيصبح محكوماً بواقع البشر ، يبصم لهم على كل ما يقدمونه له من تصورات وقوانين . وهم يضعون للأوضاع التي يقيمونها في العالم - الذي كان إسلامياً - نظريات تأخذ شكل العقيدة والدين ، لتحل محل ذلك الدين القديم ! وينزّلون لها قرآناً يتلى ويدرس ، ليحل محل ذلك القرآن القديم ! وهم يحاولون تغيير طبيعة المجتمعات - كما يحاولون تغيير طبيعة هذا الدين - كوسيلة أخيرة ، حتى لا يجد هذا الدين قلوباً تصلح للهداية به ؛ فيحولون المجتمعات إلى فتات غارق في وحل الجنس والفاحشة والفجور ، مشغول بلقمة العيش لا يجدها إلا بالكد والعسر والجهد ، كي لا يفيق ، بعد اللقمة والجنس ، ليستمع إلى هدى ، أو يفيء إلى دين !
إنها المعركة الضارية مع هذا الدين والأمة التي تهدي به وتحاول أن تعدل به . . المعركة التي تستخدم فيها جميع الأسلحة بلا تحرج ، وجميع الوسائل بلا حساب ؛ والتي تجند لها القوى والكفايات وأجهزة الإعلام العالمية ؛ والتي تسخر لها الأجهزة والتشكيلات الدولية ؛ والتي تكفل من أجلها أوضاع ما كانت لتبقى يوماً واحداً لولا هذه الكفالة العالمية !
ولكن طبيعة هذا الدين الواضحة الصلبة ما تزال صامدة لهذه المعركة الضارية . والأمة المسلمة القائمة على هذا الحق - على قلة العدد وضعف العدة - ما تزال صامدة لعمليات السحق الوحشية . . والله غالب على أمره .
{ وممن خلقنا أمه يهدون بالحق وبه يعدلون } ذكر ذلك بعد ما بين أنه خلق للنار طائفة ضالين ملحدين عن الحق للدلالة على أنه خلق أيضا للجنة هادين بالحق عادلين في الأمر ، واستدل به على صحة الإجماع لأن المراد منه أن في كل قرن طائفة بهذه الصفة لقوله عليه الصلاة والسلام " لا تزال من أمتي طائفة على الحق إلى أن يأتي أمر الله " ، إذ لو اختص بعهد الرسول أو غيره لم يكن فائدة فإنه معلوم .
هذه آية تتضمن الخبر عن قوم مخالفين لمن تقدم ذكرهم في أنهم أهل إيمان واستقامة وهداية ، وظاهر لفظ هذه الآية يقتضي كل مؤمن كان من لدن آدم عليه السلام إلى قيام الساعة ، قال النحاس : فلا تخلو الدنيا في وقت من الأوقات من داع يدعو إلى الحق .
قال القاضي أبو محمد : سواء بعد صوته أو كان خاملاً ، وروي عن كثير من المفسرين أنها في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وروي في يذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «هذه الآية لكم ، وقد تقدم مثلها لقوم موسى » .
عطف على جملة : { ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس } [ الأعراف : 179 ] الآية ، والمقصود : التنويه بالمسلمين في هديهم واهتدائهم ، وذلك مقابلة لحال المشركين في ضلالهم ، أي عرّض عن المشركين ، فإن الله أغناك عنهم بالمسلمين ، فما صْدَقُ « الأمة » هم المسلمون بقرينة السياق كما في قول لبيد :
ترَّاك أمكنة إذا لم أرضها *** أو يعتلقُ بَعْضَ النفوس حِمامُها
يريد نفسه فإنها بعض النفوس . روى الطبري عن قتادة قال بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قرأ هذه الآية : " هذه لكم وقد أعطي القوم بين أيديكم مثلها " . وقوله : { ومن قوم موسى أمّة يهدون بالحق وبه يعدلون } وبقية ألفاظ الآية عرف تفسيرها من نظره المتقدمة في هذه السورة .