قوله تعالى : { للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر } . يؤلون أي يحلفون ، والألية : اليمين والمراد من الآية : اليمين على ترك وطء المرأة ، قال قتادة : كان الإيلاء طلاقاً لأهل الجاهلية ، وقال سعيد بن المسيب : كان ذلك من ضرار أهل الجاهلية ، كان الرجل لا يحب امرأته ، ولا يريد أن يتزوج بها غيره ، فيحلف أن لا يقربها أبداً ، فيتركها لا أيماً ، ولا ذات بعل ، وكانوا عليه في ابتداء الإسلام ، فضرب الله له أجلاً في الإسلام ، واختلف أهل العلم فيه : فذهب أكثرهم إلى أنه إن حلف أن لا يقرب زوجته أبداً ، أو سمى مدة أكثر من أربعة أشهر ، يكون مولياً ، فلا يتعرض له قبل مضي أربعة أشهر ، وبعد مضيها يوقف ويؤمر بالفيء أو بالطلاق بعد مطالبة المرأة ، والفيء هو الرجوع عما قاله بالوطء ، إن قدر عليه ، وإن لم يقدر فبالقول ، فإن لم يف ولم يطلق طلق عليه السلطان واحدة ، وذهب إلى الوقوف بعد مضي المدة عمر وعثمان وعلي وأبو الدرداء وابن عمر ، قال سليمان بن يسار : أدركت بضعة عشر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يقولون : بوقف المولي . وإليه ذهب سعيد بن جبير وسليمان بن يسار ومجاهد ، وبه قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وقال بعض أهل العلم : إذا مضت أربعة أشهر تقع عليه طلقة بائنة ، وهو قول ابن عباس وابن مسعود وبه قال سفيان الثوري وأصحاب الرأي . وقال سعيد بن المسيب و الزهري : تقع طلقة رجعية ، ولو حلف أن لا يطأها أقل من أربعة أشهر لا يكون مولياً ، بل هو حالف ، فإذا وطئها قبل مضي تلك المدة تجب عليه كفارة اليمين ، ولو حلف أن لا يطأها أربعة أشهر لا يكون مولياً عند من يقول بالوقف بعد مضي المدة ، لأن بقاء المدة شرط للوقف وثبوت المطالبة بالفيء أو الطلاق ، وقد مضت المدة . وعند من لا يقول بالوقف يكون مولياً ، ويقع الطلاق بمضي المدة . ومدة الإيلاء : أربعة أشهر في حق الحر والعبد جميعاً عن الشافعي رحمه الله ، لأنها ضربت لمعنى يرجع إلى الطبع ، وهو قلة صبر المرأة عن الزوج ، فيستوي فيه الحر والعبد كمدة العنة . وعند مالك رحمه الله و أبي حنيفة رحمه الله تنتصف مدة العنة بالرق ، غير أن عند أبي حنيفة تتصف برق المرأة ، وعند مالك برق الزوج ، كما قالا في الطلاق . قوله تعالى : ( تربص أربعة أشهر ) أي انتظار أربعة أشهر ، والتربص : التثبت والتوقف .
قوله تعالى : { فإن فاءوا } . رجعوا عن اليمين بالوطء .
قوله تعالى : { فإن الله غفور رحيم } . وإذا وطئ في الفرج خرج عن الإيلاء ، وتجب عليه كفارة اليمين عند أكثر أهل العلم ، وقال الحسن وإبراهيم النخعي وقتادة : لا كفارة عليه لأن الله تعالى وعد بالمغفرة فقال : ( فإن الله غفور رحيم ) وذلك عند الأكثرين في إسقاط العقوبة لا في الكفارة ، ولو قال لزوجته : إن قربتك فعبدي حر ، أو ضربتك فأنت طالق ، أو لله علي عتق عبد ، أو صوم ، أو صلاة ، فهو مول ، لأن المولي من يلزمه أمر بالوطء ، ويوقف بعد مضي المدة فإن فاء يقع الطلاق أو العتق المعلق به ، وإن التزم في الذمة تلزمه كفارة اليمين في قول ، وفي قول يلزمه ما التزم في ذمته من الإعتاق أو الصلاة والصوم .
{ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
وهذا من الأيمان الخاصة بالزوجة ، في أمر خاص وهو حلف الزوج على ترك وطء زوجته مطلقا ، أو مقيدا ، بأقل من أربعة أشهر أو أكثر .
فمن آلى من زوجته خاصة ، فإن كان لدون أربعة أشهر ، فهذا مثل سائر الأيمان ، إن حنث كفر ، وإن أتم يمينه ، فلا شيء عليه ، وليس لزوجته عليه سبيل ، لأنه ملكه أربعة أشهر .
وإن كان أبدا ، أو مدة تزيد على أربعة أشهر ، ضربت له مدة أربعة أشهر من يمينه ، إذا طلبت زوجته ذلك ، لأنه حق لها ، فإذا تمت أمر بالفيئة وهو الوطء ، فإن وطئ ، فلا شيء عليه إلا كفارة اليمين ، وإن امتنع ، أجبر على الطلاق ، فإن امتنع ، طلق عليه الحاكم .
ولكن الفيئة والرجوع إلى زوجته ، أحب إلى الله تعالى ، ولهذا قال : { فَإِنْ فَاءُوا } أي : رجعوا إلى ما حلفوا على تركه ، وهو الوطء . { فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ } يغفر لهم ما حصل منهم من الحلف ، بسبب رجوعهم . { رَحِيمٌ } حيث جعل لأيمانهم كفارة وتحلة ، ولم يجعلها لازمة لهم غير قابلة للانفكاك ، ورحيم بهم أيضا ، حيث فاءوا إلى زوجاتهم ، وحنوا عليهن ورحموهن .
وعند الانتهاء من تقرير القاعدة الكلية في الحلف ، يأخذ في الحديث عن يمين الإيلاء : وهي أن يحلف الزوج ألا يباشر زوجته . إما لأجل غير محدود ، وإما لأجل طويل معين :
( للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر . فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم . وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم ) . .
إن هناك حالات نفسية واقعة ، تلم بنفوس بعض الأزواج ، بسبب من الأسباب في أثناء الحياة الزوجية وملابساتها الواقعية الكثيرة ، تدفعهم إلى الإيلاء بعدم المباشرة ، وفي هذا الهجران ما فيه من إيذاء لنفس الزوجة ؛ ومن إضرار بها نفسيا وعصبيا ؛ ومن إهدار لكرامتها كأنثى ؛ ومن تعطيل للحياة الزوجية ؛ ومن جفوة تمزق أوصال العشرة ، وتحطم بنيان الأسرة حين تطول عن أمد معقول .
ولم يعمد الإسلام إلى تحريم هذا الإيلاء منذ البداية ، لأنه قد يكون علاجا نافعا في بعض الحالات للزوجة الشامسة المستكبرة المختالة بفتنتها وقدرتها على إغراء الرجل وإذلاله أو اعناته . كما قد يكون فرصة للتنفيس عن عارض سأم ، أو ثورة غضب ، تعود بعده الحياة أنشط وأقوى . .
ولكنه لم يترك الرجل مطلق الإرادة كذلك ، لأنه قد يكون باغيا في بعض الحالات يريد اعنات المرأة وإذلالها ؛ أو يريد إيذاءها لتبقى معلقة ، لا تستمتع بحياة زوجية معه ، ولا تنطلق من عقالها هذا لتجد حياة زوجية أخرى .
فتوفيقا بين الاحتمالات المتعددة ، ومواجهة للملابسات الواقعية في الحياة . جعل هنالك حدا أقصى للإيلاء . لا يتجاوز أربعة أشهر . وهذا التحديد قد يكون منظورا فيه إلى أقصى مدى الاحتمال ، كي لا تفسد نفس المرأة ، فتتطلع تحت ضغط حاجتها الفطرية إلى غير رجلها الهاجر . وقد روي أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - خرج من الليل يعس . أي يتحسس حاجات الناس وأحوالهم متخفيا . فسمع امرأة تقول :
( تطاول هذا الليل وأسود جانبه % وأرقني إلا خليل ألاعبه )
( فوالله ، لولا الله إني أراقبه % لحرك من هذا السرير جوانبه )
فسأل عمر ابنته حفصة - رضي الله عنها - كم أكثر ما تصبر المرأة عن زوجها ؟ فقالت : ستة أشهر - أو أربعة أشهر - فقال عمر : لا أحبس أحدا من الجياش أكثر من ذلك . . وعزم على ألا يغيب المجاهدون من الجند أكثر من هذه الفترة . .
وعلى أية حال فإن الطبائع تختلف في مثل هذه الأمور . ولكن أربعة أشهر مدة كافية ليختبر الرجل نفسه ومشاعره . فإما أن يفيء ويعود إلى استئناف حياة زوجية صحيحة ، ويرجع إلى زوجه وعشه ، وإما أن يظل في نفرته وعدم قابليته .
الإيلاء : الحلف ، فإذا حلف الرجل ألا يجامع زوجته مدة ، فلا يخلو : إما أن يكون أقل من أربعة أشهر ، أو أكثر منها ، فإن كانت أقل ، فله أن ينتظر انقضاء المدة ثم يجامع امرأته ، وعليها أن تصبر ، وليس لها مطالبته بالفيئة في هذه المدة ، وهذا كما ثبت في الصحيحين عن عائشة : أن رسول الله آلى من نسائه شهرًا ، فنزل لتسع وعشرين ، وقال : " الشهر تسع وعشرون " ولهما عن عمر بن الخطاب نحوه . فأما إن زادت المدة على أربعة أشهر ، فللزوجة مطالبة الزوج عند انقضاء أربعة أشهر : إما أن يفيء - أي : يجامع - وإما أن يطلق ، فيجبره الحاكم على هذا أو هذا لئلا يضر بها . ولهذا قال تعالى : { لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ } أي : يحلفون على ترك الجماع من نسائهم ، فيه دلالة على أن الإيلاء يختص بالزوجات دون الإماء كما هو مذهب الجمهور . { تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ } أي : ينتظر الزوج أربعة أشهر من حين الحلف ، ثم يوقف ويطالب بالفيئة أو الطلاق . ولهذا قال : { فَإِنْ فَاءُوا } أي : رجعوا إلى ما كانوا عليه ، وهو كناية عن الجماع ، قاله ابن عباس ، ومسروق والشعبي ، وسعيد بن جبير ، وغير واحد ، ومنهم ابن جرير رحمه الله { فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أي : لما سلف من التقصير في حقهن بسبب اليمين .
وقوله : { فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } فيه دلالة لأحد قولي العلماء - وهو القديم عن الشافعي : أن المولي إذا فاء بعد الأربعة الأشهر أنه لا كفارة عليه . ويعتضد بما تقدم في الآية التي قبلها ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فتركها كفارتها " كما رواه أحمد وأبو داود والذي عليه الجمهور وهو الجديد من مذهب الشافعي أن عليه الكفارة لعموم وجوب التكفير على كل حالف ، كما تقدم أيضا في الأحاديث الصحاح . والله أعلم .
وقد ذكر الفقهاء وغيرهم - في مناسبة تأجيل المولي بأربعة أشهر - الأثر الذي رواه الإمام مالك بن أنس ، رحمه الله ، في الموطأ ، عن عمرو بن دينار قال : خرج عمر بن الخطاب من الليل فسمع امرأة تقول :
تطاوَلَ هذا الليلُ واسودّ جانِبُهْ *** وأرقني ألا خليلَ ألاعِبُهْ
فوالله لولا الله أني أراقبهْ *** لحرِّكَ من هذا السرير جوانبه
فسأل عمر ابنته حفصة ، رضي الله عنها : كم أكثر ما تصبر المرأة عن زوجها ؟ فقالت : ستة أشهر أو أربعة أشهر . فقال عمر : لا أحبس أحدًا من الجيوش أكثر من ذلك .
وقال : محمد بن إسحاق ، عن السائب بن جبير ، مولى ابن عباس - وكان قد أدرك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - قال : ما زلت أسمع حديث عمر أنه خرج ذات ليلة يطوف بالمدينة ، وكان يفعل ذلك كثيرا ؛ إذ مر بامرأة من نساء العرب مغلقة بابها [ وهي ] تقول :
تطاول هذا الليل وازورّ جانبه *** وأرقني ألا ضجيعَ ألاعِبُهْ
ألاعبه طورًا وطورًا كأنما *** بدا قمرًا في ظلمة الليل حاجبه
يسرّ به من كان يلهو بقربه *** لطيف الحشا لا يحتويه أقاربه
فوالله لولا الله لا شيء غيره *** لنقض من هذا السرير جوانبه
ولكنني أخشى رقيبًا موكلا *** بأنفسنا لا يَفْتُر الدهرَ كاتبه
ثم ذكر بقية ذلك كما تقدم ، أو نحوه . وقد روى هذا من طرق ، وهو من المشهورات .
{ لّلّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نّسَآئِهِمْ تَرَبّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآءُوا فَإِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ }
يعني تعالى ذكره بقوله : لِلّذِينَ يُؤْلُونَ الذين يقسمون ألية ، والأَلِيّة : الحلف . كما :
3حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا مسلمة بن علقمة ، قال : حدثنا داود بن أبي هند ، عن سعيد بن المسيب في قوله : للّذِينَ يُؤْلُونَ يحلفون . يقال : آلى فلان يؤْلي إيلاء وألية ، كما قال الشاعر :
كَفَيْنا مَنْ تغَيّبَ مِنْ تُرابٍ *** وأحْنَثْنا أليّةَ مُقْسِمِينا
ويقال أَلْوَة وأُلْوَة ، كما قال الراجز :
***يا أُلْوَةً ما أُلْوَةً ما أُلْوَتِي***
وقد حكي عنهم أيضا أنهم يقولون : «إلوة » مكسورة الألف ، والتربص : النظر والتوقف .
ومعنى الكلام : للذين يؤلون أن يعتزلوا من نسائهم تربص أربعة أشهر ، فترك ذكر أن يعتزلوا اكتفاء بدلالة ما ظهر من الكلام عليه .
واختلف أهل التأويل في صفة اليمين التي يكون بها الرجل مؤليا من امرأته ، فقال بعضهم : اليمين التي يكون بها الرجل مؤليا من امرأته ، أن يحلف عليها في حال غضب على وجه الإضرار لها أن لا يجامعها في فرجها ، فأما إن حلف على غير وجه الإضرار على غير غضب فليس هو موليا منها . ذكر من قال ذلك :
3حدثنا هناد بن السريّ ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن حريث بن عميرة ، عن أم عطية ، قالت : قال جبير : أرضعي ابن أخي مع ابنك فقالت : ما أستطيع أن أرضع اثنين . فحلف أن لا يقربها حتى تفطمه . فلما فطمته مرّ به على المجلس ، فقال له القوم : حسنا ما غذوتموه . قال جبير : إني حلفت ألا أقربها حتى تفطمه . فقال له القوم : هذا إيلاء . فأتى عليا فاستفتاه ، فقال : إن كنت فعلت ذلك غضبا فلا تصلح لك امرأتك ، وإلا فيه امرأتك .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن سماك ، أنه سمع عطية بن جبير ، قال : توفيت أم صبيّ نسيبة لي ، فكانت امرأة أبي ترضعه ، فحلف أن لا يقربها حتى تفطمه . فلما مضت أربعة أشهر قيل له : قد بانت منك وأحسب شكّ أبو جعفر ، قال : فأتى عليا يستفتيه ، فقال : إن كنت قلت ذلك غضبا فلا امرأة لك ، وإلا فهي امرأتك .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا شعبة ، قال : أخبرني سماك ، قال : سمعت عطية بن جبير يذكر نحوه عن عليّ .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد ، قال : حدثنا داود ، عن سماك ، عن رجل من بني عجل ، عن أبي عطية : أنه توفي أخوه وترك ابنا له صغيرا ، فقال أبو عطية لامرأته : أرضعيه فقالت : إني أخشى أن تغيلهما ، فحلف أن لا يقربها حتى تفطمهما ففعل حتى فطمتهما . فخرج ابن أخي أبي عطية إلى المجلس ، فقالوا : لَحُسْنَ ما غذى أبو عطية ابن أخيه قال : كلا زعمت أم عطية أني أغيلهما فحلفت أن لا أقربها حتى تفطمهما . فقالوا له : قد حرمت عليك امرأتك . فذكرت ذلك لعليّ رضي الله عنه ، فقال عليّ : إنما أردت الخير ، وإنما الإيلاء في الغضب .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن سماك ، عن أبي عطية أن أخاه توفي ، فذكر نحوه .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : أخبرنا داود بن أبي هند ، عن سماك بن حرب ، أن رجلاً هلك أخوه ، فقال لامرأته : أرضعي ابن أخي فقالت : أخاف أن تقع عليّ . فحلف أن لا يمسها حتى تفطم . فأمسك عنها حتى إذا فطمته أخرج الغلام إلى قومه ، فقالوا : لقد أحسنت غذاءه فذكر لهم شأنه ، فذكروا امرأته . قال : فذهب إلى عليّ فاستحلفه بالله ما أردت بذلك ؟ يعني إيلاءً ، قال : فردّها عليه .
حدثنا عليّ بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المحاربي ، عن أشعث بن سوار ، عن سماك ، عن عطية بن أبي عطية ، قال : توفي أخ لي وترك يتيما له رضيعا ، وكنت رجلاً معسرا لم يكن بيدي ما أسترضع له . قال : فقالت لي امرأتي ، وكان لي منها ابن ترضعه : إن كفيتني نفسك كفيتكهما . فقلت : وكيف أكفيك نفسي ؟ قالت : لا تقربني ، فقلت : والله لا أقربك حتى تفطميهما . قال : ففطمتهما . وخرجا على القوم ، فقالوا : ما نراك إلا قد أحسنت ولايتهما . قال : فقصصت عليهم القصة . فقالوا : ما نراك إلا آليت منها ، وبانت منك . قال : فأتيت عليا ، فقصصت عليه القصة ، فقال : إنما الإيلاء ما أريد به الإيلاء .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد بن بكر البُرساني ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن جابر بن زيد ، عن ابن عباس ، قال : لا إيلاء إلا بغضب .
وحدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن عمرو بن دينار ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، قال : لا إيلاء إلا بغضب .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا ابن وكيع ، عن أبي فزارة ، عن يزيد بن الأصمّ ، عن ابن عباس ، قال : لا إيلاء إلا بغضب .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا داود ، عن سماك بن حرب ، عن أبي عطية ، عن عليّ ، قال : لا إيلاء إلا بغضب .
3حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، عن سعيد ، عن قتادة : أن عليا قال : إذا قال الرجل لامرأته وهي ترضع : والله لا قربتك حتى تفطمي ولدي ، يريد به صلاح ولده ، قال : ليس عليه إيلاء .
3حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا إسحاق بن منصور السلولي ، عن محمد بن مسلم الطائفي ، عن عمرو بن دينار ، عن سعيد بن جبير ، قال : جاء رجل إلى عليّ ، فقال : إني قلت لامرأتي لا أقربها سنتين ، قال : قد آليت منها . قال : إنما قلت لأنها ترضع . قال : فلا إذن .
3حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن داود بن أبي هند ، عن سماك بن حرب ، عن أبي عطية ، عن عليّ أنه كان يقول : إنما الإيلاء ما كان في غضب يقول الرجل : والله لا أقربك والله لا أمسّك ، فأما ما كان في إصلاح من أمر الرضاع وغيره ، فإنه لا يكون إيلاء ولا تبين منه .
3حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، يعني ابن مهدي ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن حفص ، عن الحسن أنه سئل عنها ، فقال : لا والله ما هو بإيلاء .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا بشر بن منصور ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، قال : إذا حلف من أجل الرضاع فليس بإيلاء .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني الليث ، ثني يونس ، قال : سألت ابن شهاب عن الرجل يقول : والله لا أقرب امرأتي حتى تفطم ولدي ، قال : لا أعلم الإيلاء يكون إلا بحلف بالله فيما يريد المرء أن يضارّ به امرأته من اعتزالها ، ولا نعلم فريضة الإيلاء إلا على أولئك ، فلا نرى أن هذا الذي أقسم بالاعتزال لامرأته حتى تفطم ولده ، أقسم إلا على أمر يتحرّى به فيه الخير ، فلا نرى وجب على هذا ما وجب على المولي الذي يولي في الغضب .
وقال آخرون : سواء إذا حلف الرجل على امرأته أن لا يجامعها في فرجها كان حلفه في غضب أو غير غضب ، كل ذلك إيلاء . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا ابن مهدي ، قال : حدثنا سفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم في رجل ، قال لامرأته : إن غشيتك حتى تفطمي ولدك فأنت طالق ، فتركها أربعة أشهر . قال : هو إيلاء .
حدثنا محمد بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن أبي معشر ، عن النخعي ، قال : كل شيء يحول بينه وبين غشيانها فتركها حتى تمضي أربعة أشهر فهو داخل عليه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا حبّان بن موسى ، قال : حدثنا ابن المبارك ، قال : أخبرنا أبو عوانة عن المغيرة ، عن القعقاع ، قال : سألت الحسن عن رجل ترضع امرأته صبيا فحلف أن لا يطأها حتى تفطم ولدها ، فقال : ما أرى هذا بغضب ، وإنما الإيلاء في الغضب . قال : وقال ابن سيرين : ما أدري ما هذا الذي يحدثون ؟ إنما قال الله : لِلّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهمْ إلى فإنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إذا مضت أربعة أشهر فليخطبها إن رغب فيها .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن مهدي ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم في رجل حلف أن لا يكلم امرأته ، قال : كانوا يرون الإيلاء في الجماع .
حدثنا أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، قال : قال : كل يمين منعت جماعا حتى تمضي أربعة أشهر فهي إيلاء .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت إسماعيل وأشعث ، عن الشعبي ، مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم والشعبي قالا : كل يمين منعت جماعا فهي إيلاء .
وقال آخرون : كل يمين حلف بها الرجل في مساءة امرأته فهي إيلاء منه منها على الجماع ، حلف أو غيره ، في رضا حلف أو سخط . ذكر من قال ذلك :
3حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن خصيف ، عن الشعبي قال : كل يمين حالت بين الرجل وبين امرأته فهي إيلاء ، إذا قال : والله لأغضبنك ، والله لأسوءنك ، والله لأضربنك ، وأشباه هذا .
3حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : ثني أبي وشعيب ، عن الليث ، عن يزيد بن أبي حبيب عن ابن أبي ذئب العامريّ : أن رجلاً من أهله قال لامرأته : إن كلمتك سنة فأنت طالق واستفتى القاسم وسالما فقالا : إن كلمتها قبل سنة فهي طالق ، وإن لم تكلمها فهي طالق إذا مضت أربعة أشهر .
3حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، قال : سمعت حمادا ، قال : قلت لإبراهيم : الإيلاء أن يحلف أن لا يجامعها ولا يكلمها ، ولا يجمع رأسه برأسها ، أو ليغضبنها ، أو ليحرّمنها ، أو ليسوئنها ؟ قال : نعم .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، قال : سألت الحكم عن رجل قال لامرأته : والله لأغيظنك فتركها أربعة أشهر . قال : هو إيلاء .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا وهب بن جرير ، قال : سمعت شعبة قال : سألت الحكم ، فذكر مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، حدثني الليث ، قال : حدثنا يونس ، قال : قال ابن شهاب : حدثني سعيد بن المسيب : أنه إن حلف رجل أن لا يكلم امرأته يوما أو شهرا ، قال : فإنا نرى ذلك يكون إيلاء ، وقال : إلا أن يكون حلف أن لا يكلمها ، فكان يمسها فلا نرى ذلك يكون من الإيلاء . والفيء أن يفيء إلى امرأته فيكلمها أو يمسها ، فمن فعل ذلك قبل أن تمضي الأربعة الأشهر فقد فاء ومن فاء بعد أربعة أشهر وهي في عدتها فقد فاء وملك امرأته ، غير أنه مضت لها تطليقة .
وعلة من قال : إنما الإيلاء في الغضب والضرار ، أن الله تعالى ذكره إنما جعل الأجل الذي أجل في الإيلاء مخرجا للمرأة من عضل الرجل وضراره إياها فيما لها عليه من حسن الصحبة والعشرة بالمعروف . وإذا لم يكن الرجل لها عاضلاً ، ولا مضارّا بيمينه وحلفه على ترك جماعها ، بل كان طالبا بذلك رضاها ، وقاضيا بذلك حاجتها ، لم يكن بيمينه تلك موليا ، لأنه لا معنى هنالك يلحق المرأة به من قبل بعلها مساءة وسوء عشرة ، فيجعل الأجل الذي جعل المولي لها مخرجا منه .
وأما علة من قال : الإيلاء في حال الغضب والرضا سواء عموم الآية ، وأن الله تعالى ذكره لم يخصص من قوله : لِلّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهمْ تَرَبّصُ أرْبَعَةِ أشْهُرٍ بعضا دون بعض ، بل عمّ به كل مول مقسم ، فكل مقسم على امرأته أن لا يغشاها مدة هي أكثر من الأجل الذي جعل الله له تربصه ، فمؤلٍ من امرأته عند بعضهم . وعند بعضهم : هو مؤلٍ ، وإن كانت مدة يمينه الأجل الذي جعل له تربصه .
وأما علة من قال بقول الشعبي والقاسم وسالم ، أن الله تعالى ذكره جعل الأجل الذي حدّه للمولي مخرجا للمرأة من سوء عشرتها بعلها إياها وإضراره بها . وليست اليمين عليها بأن لا يجامعها ولا يقربها بأولى بأن تكون من معاني سوء العشرة والضرار من الحلف عليها أن لا يكلمها أو يسوءها أو يغيظها لأن كل ذلك ضرر عليها ، وسوء عشرة لها .
وأولى التأويلات التي ذكرناها في ذلك بالصواب قول من قال : كل يمين منعت المقسم الجماع أكثر من المدة التي جعل الله المولي تربصها قائلاً في غضب كان ذلك أو رضا ، وذلك للعلة التي ذكرناها قبل لقائلي ذلك . وقد أتينا على فساد قول من خالف ذلك في كتابنا «كتاب اللطيف » بما فيه الكفاية ، فكرهنا إعادته في هذا الموضع .
القول في تأويل قوله تعالى : فإنْ فاءُوا فإنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ .
يعني تعالى ذكره بذلك : فإن رجعوا إلى ترك ما حلفوا عليه أن يفعلوه بهنّ من ترك جماعهن فجامعوهن وحنثوا في أيمانهم ، فإن الله غفور لما كان منهم من الكذب في أيمانهم بأن لا يأتوهن ثم أتوهن ، ولما سلف منهم إليهن من اليمين على ما لم يكن لهم أن يحلفوا عليه ، فحلفوا عليه رحيم بهم وبغيرهم من عباده المؤمنين . وأصل الفيء : الرجوع من حال إلى حال ، ومنه قوله تعالى ذكره : وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتلُوا فأصْلِحُوا بَيْنَهُما إلى قوله : حتى تَفِيءَ إلى أمْرِ اللّهِ يعني : حتى ترجع إلى أمر الله . ومنه قول الشاعر :
فَفاءَتْ ولَمْ تَقْضِ الّذِي أقْبَلَتْ لَهُ *** وَمِنْ حاجَةِ الإنْسانِ ما لَيْسَ قاضِيَا
يقال منه : فاء فلان يفيء فيئة ، مثل الجَيْئة ، وَفَيئا . والفيئة : المرة . فأما في الظلّ ، فإنه يقال : فاء الظلّ يفيء فيوءا وفَيْئا ، وقد يقال فيوءا أيضا في المعنى الأول ، لأن الفيء في كل الأشياء بمعنى الرجوع .
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ، غير أنهم اختلفوا فيما يكون به المؤلي فائيا ، فقال بعضهم : لا يكون فائيا إلا بالجماع . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ بن سهل الرملي ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي ليلى ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس ، قال : الفيء : الجماع .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو نعيم ، عن يزيد بن زياد بن أبي الجعد ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس ، قال : الفيء : الجماع .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس ، مثله .
حدثنا محمد بن يحيى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن صاحب له ، عن الحكم بن عتيبة عن مقسم ، عن ابن عباس ، مثله .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن حصين ، عن الشعبي ، عن مسروق ، قال : الفيء : الجماع .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن شعبة ، عن حصين ، عن الشعبي ، عن مسروق مثله .
حدثنا عبد الحميد بن بيان ، قال : أخبرنا محمد بن يزيد ، عن إسماعيل ، قال : كان عامر لا يرى الفيء إلا الجماع .
حدثنا تميم بن المنتصر ، قال : أخبرنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا إسماعيل ، عن عامر ، بمثله .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن عليّ بن بذيمة ، عن سعيد بن جبير قال : الفيء : الجماع .
حدثنا أبو عبد الله النشائي ، قال : حدثنا إسحاق الأزرق ، عن سفيان ، عن عليّ بن بذيمة ، عن سعيد بن جبير ، مثله .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، عن سعيد بن جبير ، قال : الفيء : الجماع ، لا عذر له إلا أن يجامع ، وإن كان في سجن أو في سفر سعيد القائل .
حدثني محمد بن يحيى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن جبير أنه قال : لا عذر له حتى يغشى .
3حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا حماد ، عن حماد وإياس ، عن الشعبي ، قال أحدهما ، عن مسروق ، قال : الفيء : الجماع . وقال الاَخر عن الشعبي : الفيء : الجماع .
3حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب في رجل آلى من امرأته ثم شغله مرض ، قال : لا عذر له حتى يغشى .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا معاذ بن هشام ، قال : حدثني أبي ، عن قتادة ، عن سعيد بن جبير في الرجل يؤلي من امرأته قبل أن يدخل بها ، أو بعد ما دخل بها ، فيعرض له عارض يحبسه ، أو لا يجد ما يسوق : أنه إذا مضت أربعة أشهر أنها أحقّ بنفسها .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن الحكم والشعبي قالا : إذ آلى الرجل من امرأته ثم أراد أن يفيء ، فلا فيء إلا الجماع .
وقال آخرون : الفيء : المراجعة باللسان أو القلب في حال العذر ، وفي غير حال العذر الجماع . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن يحيى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن وعكرمة أنهما قالا : إذا كان له عذر فأشهر فذاك له . يعني في رجل آلى من امرأته فشغله مرض أو طريق فأشهد على مراجعة امرأته .
حدثنا محمد بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن صاحب له ، عن الحكم قال : تذاكرنا أنا والنخعي ذلك ، فال النخعي : إذا كان له عذر فأشهد فقد فاء ، وقلت أنا : لا عذر له حتى يغشى . فانطلقنا إلى أبي وائل ، فقال : إنى أرجو إذا كان له عذر فأشهد جاز .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، عن الحسن ، قال : إن آلى ثم مرض ، أو سجن ، أو سافر فراجع ، فإن له عذرا أن لا يجامع . قال : وسمعت الزهري يقول مثل ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا حبان بن موسى ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، قال : أخبرنا أبو عوانة ، عن مغيرة ، عن إبراهيم في النفساء يؤلي منها زوجها ، قال : هذه في محارب سئل عنها أصحاب عبد الله ، فقالوا : إذا لم يستطع كفر عن يمينه وأشهد على الفيء .
حدثنا أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن أبي الشعثاء ، قال : نزل به ضيف ، فآلى من امرأته فنفست ، فأراد أن يفيء فلم يستطع أن يقربها من أجل نفاسها . فأتى علقمة فذكر ذلك له ، فقال : أليس قد فئت بقلبك ورضيت ؟ قال : بلى . قال : فقد فئت هي امرأتك .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الأعمش ، عن إبراهيم : أن رجلاً آلى من امرأته ، فولدت قبل أن تمضي أربعة أشهر أراد الفيئة ، فلم يستطع من أجل الدم حتى مضت أربعة أشهر . فسأل عنها علقمة بن قيس ، فقال : أليس قد راجعتها في نفسك ؟ قال : بلى . قال : فهي امرأتك .
حدثنا عمران بن موسى ، قال : حدثنا عبد الوارث ، قال : أخبرنا عامر ، عن الحسن ، قال : إذا آلى من امرأته ثم لم يقدر أن يغشاها من عذر ، قال : يُشهد أنه قد فاء وهي امرأته .
حدثنا عمران ، قال : حدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا عامر ، عن حماد ، عن إبراهيم ، عن علقمة بمثله .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا معاذ بن هشام ، قال : ثني أبي ، عن قتادة . عن عكرمة قال : وحدثنا عبد الأعلى قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن عكرمة قال : إذا آلى من امرأته فجهد أن يغشاها فلم يستطع ، فله أن يشهد على رجعتها .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن وعكرمة أنهما سئلا عن رجل آلى من امرأته ، فشغله أمر ، فأشهد على مراجعة امرأته ، قالا : إذا كان له عذر فذاك له .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا غندر ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، قال : انطلقت أنا وإبراهيم إلى أبي الشعثاء ، فحدّث أن رجلاً من بني سعد بن همام آلى من امرأته فنفست ، فلم يستطع أن يقربها ، فسأل الأسود أو بعض أصحاب عبد الله ، فقال : إذا أشهد فهي امرأته .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا غندر ، قال : حدثنا شعبة ، عن حماد ، عن إبراهيم أنه قال : إن كان له عذر فأشهد فذلك له يعني المؤلي من امرأته .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن مغيرة ، عن إبراهيم أنه كان يحدّث عن أبي الشعثاء ، عن علقمة وأصحاب عبد الله : أنهم قالوا في الرجل إذا آلى من امرأته فنفست ، قالوا : إذا أشهد فهي امرأته .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن حماد ، قال : إذا آلى الرجل من أمرته ثم فاء فليشهد على فيئه . وإذا آلى الرجل من امرأته وهو في أرض غير الأرض التي فيها امرأته فليشهد على فيئه . فإن أشهد وهو لا يعلم أن ذلك لا يجزيه من وقوعه عليها فمضت أربعة أشهر قبل أن يجامعها فهي امرأته . وإن علم أنه لا فيء إلا في الجماع في هذا الباب ففاء وأشهد على فيئه ولم يقع عليها حتى مضت أربعة أشهر ، فقد بانت منه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني الليث ، قال : ثني يونس ، قال : قال ابن شهاب : حدثني سعيد بن المسيب أنه إذا آلى الرجل من امرأته ، قال : فإن كان به مرض ولا يستطيع أن يمسها ، أو كان مسافرا فحبس ، قال : فإذا فاء وكفر عن يمينه فأشهد على فيئه قبل أن تمضي أربعة أشهر فلا نراه إلا قد صلح له أن يمسك امرأته ولم يذهب من طلاقها شيء . قال : وقال ابن شهاب في رجل يؤلي من امرأته ولم يبق لها عليه إلا تطليقة ، فيريد أن يفيء في آخر ذلك وهو مريض أو مسافر ، أو هي مريضة أو طامث أو غائبة لا يقدر على أن يبلغها حتى تمضي أربعة أشهر أله في شيء من ذلك رخصة أن يكفر عن يمينه ، ولم يقدر على أن يطأ امرأته ؟ قال : نرى والله أعلم إن فاء قبل الأربعة الأشهر فهي امرأته ، بعد أن يشهد على ذلك ويكفر عن يمينه ، وإن لم يبلغها ذلك من فيئته ، فإنه قد فاء قبل أن يكون طلاقا .
حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : الفيء : الجماع . فإن هو لم يقدر على المجامعة ، وكانت به علة من مرض ، أو كان غائبا ، أو كان محرما ، أو شيء له فيه عذر ، ففاء بلسانه وأشهد على الرضا ، فإن ذلك له فيء إن شاء الله .
وقال آخرون : الفيء : المراجعة باللسان بكل حال . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا الضحاك بن مخلد ، عن سفيان ، عن منصور وحماد ، عن إبراهيم ، قال : الفيء : أن يفيء بلسانه .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن زياد الأعلم ، عن الحسن ، قال : الفيء : الإشهاد .
حدثنا المثنى قال : ثني الحجاج ، قال : حدثنا حماد ، عن زياد الأعلم ، عن الحسن ، مثله .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن أبي قلابة قال : إن فاء في نفسه أجزأه ، يقول : قد فاء .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن إسماعيل بن رجاء ، قال : ذكروا الإيلاء عند إبراهيم ، فقال : أرأيت إن لم ينتشر ذكره ؟ إذا أشهد فهي امرأته .
قال أبو جعفر : وإنما اختلف المختلفون في تأويل الفيء على قدر اختلافهم في معنى اليمين التي تكون إيلاء ، فمن كان من قوله : إن الرجل لا يكون مؤليا من امرأته الإيلاء الذي ذكره الله في كتابه إلا بالحلف عليها أن لا يجامعها جعل الفيء الرجوع إلى فعل ما حلف عليه أن لا يفعله من جماعها ، وذلك الجماع في الفرج إذا قدر على ذلك وأمكنه ، وإذا لم يقدر عليه ولم يمكنه ، فإحداث النية أن يفعله إذا قدر عليه وأمكنه وإبداء ما نوى من ذلك بلسانه ليعلمه المسلمون في قول من قال ذلك .
وأما قول من رأى أن الفيء هو الجماع دون غيره ، فإنه لم يجعل العائق له عذرا ، ولم يجعل له مخرجا من يمينه غير الرجوع إلى ما حلف على تركه وهو الجماع .
وأما من كان من قوله : إنه قد يكون مؤليا منها بالحلف على ترك كلامها ، أو على أن يسوءها أو يغيظها ، أو ما أشبه ذلك من الأيمان ، فإن الفيء عنده الرجوع إلى ترك ما حلف عليه أن يفعله مما فيه مساءتها بالعزم على الرجوع عنه وإبداء ذلك بلسانه في كل حال عزم فيها على الفيء .
وأولى الأقوال بالصحة في ذلك عندنا قول من قال : الفيء : هو الجماع لأن الرجل لا يكون مؤليا عندنا من امرأته إلا بالحلف على ترك جماعها المدة التي ذكرنا للعلل التي وصفنا قبل . فإذّ كان ذلك هو الإيلاء فالفيء الذي يبطل حكم الإيلاء عنه لا شك أنه غير جائز أن يكون إلا ما كان الذي آلى عليه خلافا لأنه لما جعل حكمه إن لم يفىء إلى ما آلى على تركه الحكم الذي بينه الله لهم في كتابه كان الفيء إلى ذلك معلوما أنه فعل ما آلى على تركه إن أطاقه ، وذلك هو الجماع ، غير أنه إذا حيل بينه وبين الفيء الذي هو الجماع بعذر ، فغير كائن تاركا جماعها على الحقيقة ، لأن المرء إنما يكون تاركا ماله إلى فعله وتركه سبيل ، فأما من لم يكن له إلى فعل أمر سبيل ، فغير كائن تاركه . وإذ كان ذلك كذلك فإحداث العزم في نفسه على جماعها مجزىء عنه في حال العذر ، حتى يجد السبيل إلى جماعها . وإن أبدى ذلك بلسانه وأشهد على نفسه في تلك الحال بالأوبة والفيء كان أعجب إليّ .
القول في تأويل قوله تعالى : فَإنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : فإن الله غفور لكم فيما اجترمتم بفيئكم إليهن من الحنث في اليمين التي حلفتم عليهنّ بالله أن لا تغشوهن ، رحيم بكم في تخفيفه عنكم كفارة أيمانكم التي حلفتم عليهن ثم حنثتم فيها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن : فَإنْ فَاءُوا فإنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ قال : لا كفارة عليه .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، عن الحسن ، قال : إذا فاء فلا كفارة عليه .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا حبان بن موسى ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، قال : حدثنا أبو عوانة ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : كانوا يرون في قول الله : فَإنْ فَاءُوا فَإنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أن كفارته فيؤه .
وهذا التأويل الذي ذكرنا هو التأويل الواجب على قول من زعم أن كل حانث في يمين هو في المقام عليها حَرِجٌ ، فلا كفارة عليه في حنثه فيها ، وإن كفارته الحنث فيها . وأما على قول من أوجب على الحانث في كل يمين حلف بها برّا كان الحنث فيها أو غير برّ ، فإن تأويله : فإن الله غفور للمؤلين من نسائهم فيما حنثوا فيه من إيلائهم ، فإن فاءوا فكفروا أيمانهم بما ألزم الله الحانثين في أيمانهم من الكفارة ، رحيم بهم بإسقاطه عنهم العقوبة في العاجل والاَجل على ذلك بتكفيره إياه بما فرض عليهم من الجزاء والكفارة ، وبما جعل لهم من المهل الأشهر الأربعة ، فلم يجعل فيها للمرأة التي آلى منها زوجها ما جعل لها بعد الأشهر الأربعة . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا حبان ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، قال : حدثنا يحيى بن بشر أنه سمع عكرمة يقول : لِلّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائهِمْ تَرَبّصُ أرْبَعَةِ أشْهُرٍ فَإنْ فَاءُوا فَإنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإنْ عَزَمُوا الطّلاقَ قال : وتلك رحمة الله ملكه أمرها الأربعة الأشهر إلا من معذرة ، لأن الله قال : وَاللاّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنّ فَعِظُوهُنّ وَاهْجُرُوهُنّ فِي المَضَاجِعِ .
ذكر بعض من قال : إذا فاء المولي فعليه الكفارة :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : لِلّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائهِمْ تَرَبّصُ أرْبَعَةِ أشْهُرٍ وهو الرجل يحلف لامرأته بالله لا ينكحها ، فيتربص أربعة أشهر ، فإن هو نكحها كفر يمينه بإطعام عشرة مساكين ، أو كسوتهم ، أو تحرير رقبة ، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني الليث ، قال : ثني يونس ، قال : ثني ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب بنحوه .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا حبان بن موسى ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، قال : أخبرنا حماد بن سلمة ، عن حماد ، عن إبراهيم ، قال : إذا آلى فغشيها قبل الأربعة الأشهر كفر عن يمينه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا حبان ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، قال : أخبرنا أبو عوانة ، عن مغيرة ، عن إبراهيم في النفساء يؤلي منها زوجها ، قال : هذه في محارب سئل عنها أصحاب عبد الله ، فقالوا : إذا لم يستطع كفر عن يمينه وأشهد على الفيء .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : إن فاء فيها كفر يمينه وهي امرأته .
حدثت عن عمار ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثام ، عن الأعمش ، عن إبراهيم في الإيلاء قال : يوقف قبل أن تمضي الأربعة الأشهر ، فإن راجعها فهي امرأته وعليه يمين يكفرها إذا حنث .
قال أبو جعفر : وهذا التأويل الثاني هو الصحيح عندنا في ذلك لما قد بينا من العلل في كتابنا «كتاب الأيمان » من أن الحنث موجب الكفارة في كل ما ابتدىء فيه الحنث من الأيمان بعد الحلف على معصية كانت اليمين أو على طاعة .
استئناف ابتدائي للانتقال إلى تشريع في عمل كان يغلب على الرجال أن يعملوه في الجاهلية ، والإسلام . كان من أشهر الأيمان الحائلة بين البر والتقوى والإصلاح ، أيمان الرجال على مهاجرة نسائهم ، فإنها تجمع الثلاثة ؛ لأن حسن المعاشرة من البر بين المتعاشرين ، وقد أمر الله به في قوله : { وعاشروهن بالمعروف } [ النساء : 19 ] فامتثاله من التقوى ، ولأن دوامه من دوام الإصلاح ، ويحدث بفقده الشقاق ، وهو مناف للتقوى . وقد كان الرجل في الجاهلية يولي من امرأته السنة والسنتين ، ولا تنحل يمينه إلاّ بعد مضي تلك المدة ، ولا كلام للمرأة في ذلك .
وعن سعيد بن المسيب : « كان الرجل في الجاهلية لا يريد المرأة ، ولا يحب أن يطلقها ، لئلا يتزوجها غيره ، فكان يحلف ألاّ يقربها مضارة للمرأة » أي ويقسم على ذلك لكيلا يعود إليها إذا حصل له شيء من الندم . قال : « ثم كان أهل الإسلام يفعلون ذلك ، فأزال الله ذلك ، وأمهل للزوج مدة حتى يتروى » فكان هذا الحكم من أهم المقاصد في أحكام الأيمان ، التي مهد لها بقوله : { ولا تجعلوا الله عرضة } [ البقرة : 224 ] .
والإيلاء : الحلف ، وظاهر كلام أهل اللغة أنه الحلف مطلقاً يقال آلى يولي إيلاء ، وتألى يتألى تألياً ، وائتلى يأتلي ائتلاء ، والاسم الألوَّة والألية ، كلاهما بالتشديد ، وهو واوي فالألوة فعولة والألية فعيلة .
وقال الراغب : « الإيلاء حلف يقتضي التقصير في المحلوف عليه مشتق من الألو وهو التقصير قال تعالى : { لا يألونكم خبالاً } [ آل عمران : 118 ] { ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة } [ النور : 22 ] وصار في الشرع الحلف المخصوص » فيؤخذ من كلام الراغب أن الإيلاء حلف على الامتناع والترك ؛ لأن التقصير لا يتحقق بغير معنى الترك ؛ وهو الذي يشهد به أصل الاشتقاق من الألو ، وتشهد به موارد الاستعمال ، لأنا نجدهم لا يذكرون حرف النفي بعد فعل آلى ونحوه كثيراً ، ويذكرونه كثيراً ، قال المتلمس :
* آلَيْتُ حبَّ العِرَاقِ الدَّهْرَ أَطْعَمُه *
وقال تعالى : { ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا } [ النور : 22 ] أي على أن يؤتوا وقال تعالى هنا : { للذين يؤلون من نسائهم } فَعدَّاه بمِنْ ، ولا حاجة إلى دعوى الحذف والتضمين . وأيَّاً مَّا كان فالإيلاء بعد نزول هذه الآية ، صار حقيقة شرعية في هذا الحَلِف على الوصف المخصوص .
ومجيء اللام في { للذين يؤلون } لبيان أن التربص جعل توسعة عليهم ، فاللام للأَجْل مثل هَذا لَكَ ويعلم منه معنى التخيير فيه ، أي ليس التربص بواجب ، فللمولى أَن يفىء في أقل من الأشهر الأربعة . وعدى فعل الإيلاء بمِن ، مع أن حقه أن يعدَّى بعلى ؛ لأنه ضمن هنا معنى البُعد ، فعدي بالحرف المناسب لفعل البُعد ، كأنه قال : للذين يؤلون متباعدين من نسائهم ، فمِنْ للابتداء المجازي .
والنساء : الزوجات كما تقدم في قوله : { فاعتزلوا النساء في المحيض }
[ البقرة : 222 ] وتعليق الإيلاء باسم النساء من باب إضافة التحليل والتحريم ونحوهما إلى الأعيان ، مثل { حرمت عليكم أمهاتكم } [ النساء : 23 ] وقد تقدم في قوله تعالى : { إنما حرم عليكم الميتة } [ البقرة : 173 ] .
والتربص : انتظار حصول شيء لغير المنتظِر ، وسيأتي الكلام عليه عند قوله تعالى : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } [ البقرة : 228 ] ، وإضافة تربص إلى أربعة أشهر إضافة على معنى « في » كقوله تعالى : { بل مكر الليل } [ سبأ : 33 ] .
وتقديم { للذين يؤلون } على المبتدأ المسند إليه ، وهو تربص ، للاهتمام بهذه التوسعة التي وسع الله على الأزواج ، وتشويق لذِكْر المسند إليه . و { فاءوا } رجعوا أي رجعوا إلى قربان النساء ، وحذف متعلق { فاءوا } بالظهور المقصود . والفَيْئة تكون بالتكفير عن اليمين المذكورة في سورة العقود .
وقوله : { فإن الله غفور رحيم } دليل الجواب ، أي فحنثهم في يمين الإيلاء مغفور لهم ؛ لأن الله غفور رحيم . وفيه إيذان بأن الإيلاء حرام ، لأن شأن إيلائهم الوارد فيه القرآن ، قصدُ الإضرار بالمرأة . وقد يكون الإيلاء مباحاً إذا لم يقصد به الإضرار ولم تطل مدته كالذي يكون لقصد التأديب ، أو لقصد آخر معتبر شرعاً ، غير قصد الإضرار المذموم شرعاً . وقد آلى النبي صلى الله عليه وسلم من نسائه شَهْراً ، قيل : لمرض كان برجله ، وقيل : لأجل تأديبهن ؛ لأنهن قد لقين من سعة حلمه ورفقه ما حدا ببعضهن إلى الإفراط في الإدلال ، وحمَل البقية على الاقتداء بالأخريات ، أو على استحسان ذلك . والله ورسوله أعلم ببواطن الأمور .
وأما جواز الإيلاء للمصلحة كالخوف على الولد من الغَيْل ، وكالحُمْية من بعض الأمراض في الرجل والمَرأة ، فإباحته حاصلة من أدلة المصلحة ونفي المضرة ، وإنما يحصل ذلك بالحلف عند بعض الناس ، لما فيهم من ضعف العزم واتهام أنفسهم بالفلتة في الأمرِ ، إن لم يقيدوها بالحلف .
وعَزم الطلاق : التصميم عليه ، واستقرار الرأي فيه بعد التأمل وهو شيء لا يحصل لكل مُولٍ من تلقاء نفسه ، وخاصة إذا كان غالب القصد من الإيلاء المغاضبة والمضارة
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{للذين يؤلون}: يقسمون {من نسائهم}: فهو الرجل يحلف أن لا يقرب امرأته، {تربص أربعة أشهر}
{فإن فاءوا} يعني فإن رجع في يمينه فجامعها قبل أربعة أشهر، فهي امرأته، وعليه أن يكفر عن يمينه، {فإن الله غفور} لهذه اليمين، {رحيم} به، إذ جعل الله عز وجل الكفارة فيها، لأنه لم يكن أنزل الكفارة في المائدة، ثم نزلت بعد ذلك الكفارة في المائدة...
قال الله: {لِّلذِينَ يُولُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِن فَاءو فَإِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا اَلطَّلَاقَ فَإِنَّ اَللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} فقال الأَكْثَرُ مِمَّن رُويَ عنه من أصحاب النبي عندنا: إذا مَضَت أربعةُ أَشهر وُقِفَ المُولي، فإمَّا أن يَفِيءَ، وإما أن يُطَلِّق. وروي عن غيرهم من أصحاب النبي: عزيمة الطلاق انقضاء أربعة أشهر. ولم يُحفَظْ عن رسول الله في هذا -بأبي هو وأمي- شيئاً.
قال: فأي القولين ذهبت؟ قلت: ذهبت إلى أن المولي لا يلزمه طلاق، وأن امرأته إن طلبت حَقَّها منه لم أَعْرض له حتى تمضي أربعة أشهر فإذا مضت أربعة أشهر قلت له: فِئ أو طلِّق. والفَيْئَةُ: الجِمَاعُ. قال: فكيف اخترته على القول الذي يخالفه؟ قلتُ: رأيته أشبه بمعنى كتاب الله وبالمعقول. قال: وما دَلَّ عليه من كتاب الله؟ قلتُ: لما قال الله: {لِّلذِينَ يُولُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ}: كان الظاهر في الآية أَنَّ من أَنْظَرَهُ الله أربعة أشهر في شيء لم يكن له عليه سبيل حتى تمضي أربعة أشهر. قال: فقد يُحْتَمَلُ أن يكون الله عز وجل جَعَلَ لَهُ أربعة أشهر يَفِيءُ فيها، كما تقول: قد أجَّلْتُكَ في بناء هذه الدار أربعة أشهر تفرغ فيها منها...
وليس في الفيئة دِلالة على أن لا يَفِيءَ إلا مُضِيُّهَا، لأن الجماع يكون في طرفة عين، فلو كان على ما وصفْتَ تزايل حاله حتى تمضي أربعة أشهر، ثم تزايل حالُهُ الأولى، فإذا زايلها صار إلى أنَّ لله عليه حقاً، فإما أن يفيء وإما أن يطلق. فلو لم يكن في آخر الآية ما يدل على أن معناها غيرُ ما ذهبتَ إليه كان قوله أولاهما بها، لما وصفنا، لأنه ظاهرها. والقرآن على ظاهره، حتى تأتي دلالة منه أو سنة أو إجماع بأنه على باطن دون ظاهر. قال: فما في سياق الآية ما يدل على ما وصفت؟ قلت: لما ذكر الله عز وجل أن للمولي أربعة أشهر ثم قال: {فَإِن فَاءو فَإِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا اَلطَّلَاقَ فَإِنَّ اَللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} فذكر الحُكْمَيْنِ معا بلا فَصْلٍ بينهما: أنهما إنما يقعان بعد الأربعة الأشهر، لأنه إنما جعل عليه الفيئة أو الطلاق، وجعل له الخيار فيهما في وقت واحد، فلا يتقدمُ واحد منهما صاحبَهُ وقد ذكرا في وقت واحد، كما يقال له في الرهن: أفْدِهِ أو نَبِيعَهُ عليك، بِلا فَصْلِ؛ وفي كل ما خُيِّرَ فيه: افعل كذا أو كذا، بلا فصلٍ. ولا يجوز أن يكونا ذُكرا بلا فصلٍ فيقال الفيئة فيما بين أن يولي أربعة أشهر، وعزيمة الطلاق انقضاء الأربعة الأشهر، فيكونان حُكْمَيْنِ ذُكِرا معًا، يُفسحُ في أحدهما ويُضيَّقُ في الآخر. قال: فأنت تقول: إن فاء قبل الأربعة الأشهر فهي فيئة؟ قلتُ: نعم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"لِلّذِينَ يُؤْلُونَ" الذين: يقسمون ألية، والأَلِيّة: الحلف. ومعنى الكلام: للذين يؤلون أن يعتزلوا من نسائهم تربص أربعة أشهر، فترك ذكر أن يعتزلوا اكتفاء بدلالة ما ظهر من الكلام عليه.
واختلف أهل التأويل في صفة اليمين التي يكون بها الرجل مؤليا من امرأته؛ فقال بعضهم: اليمين التي يكون بها الرجل مؤليا من امرأته، أن يحلف عليها في حال غضب على وجه الإضرار لها أن لا يجامعها في فرجها، فأما إن حلف على غير وجه الإضرار على غير غضب فليس هو موليا منها. وقال آخرون: سواء إذا حلف الرجل على امرأته أن لا يجامعها في فرجها كان حلفه في غضب أو غير غضب، كل ذلك إيلاء. وقال آخرون: كل يمين حلف بها الرجل في مساءة امرأته فهي إيلاء منه منها على الجماع، حلف أو غيره، في رضا حلف أو سخط. وعلة من قال: إنما الإيلاء في الغضب والضرار، أن الله تعالى ذكره إنما جعل الأجل الذي أجل في الإيلاء مخرجا للمرأة من عضل الرجل وضراره إياها فيما لها عليه من حسن الصحبة والعشرة بالمعروف. وإذا لم يكن الرجل لها عاضلاً، ولا مضارّا بيمينه وحلفه على ترك جماعها، بل كان طالبا بذلك رضاها، وقاضيا بذلك حاجتها، لم يكن بيمينه تلك موليا، لأنه لا معنى هنالك يلحق المرأة به من قبل بعلها مساءة وسوء عشرة، فيجعل الأجل الذي جعل المولي لها مخرجا منه.
وأما علة من قال: الإيلاء في حال الغضب والرضا سواء عموم الآية، وأن الله تعالى ذكره لم يخصص من قوله: لِلّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهمْ تَرَبّصُ أرْبَعَةِ أشْهُرٍ بعضا دون بعض، بل عمّ به كل مول مقسم، فكل مقسم على امرأته أن لا يغشاها مدة هي أكثر من الأجل الذي جعل الله له تربصه، فمؤلٍ من امرأته عند بعضهم. وعند بعضهم: هو مؤلٍ، وإن كانت مدة يمينه الأجل الذي جعل له تربصه.
وأما علة من قال أن الله تعالى ذكره جعل الأجل الذي حدّه للمولي مخرجا للمرأة من سوء عشرتها بعلها إياها وإضراره بها. وليست اليمين عليها بأن لا يجامعها ولا يقربها بأولى بأن تكون من معاني سوء العشرة والضرار من الحلف عليها أن لا يكلمها أو يسوءها أو يغيظها لأن كل ذلك ضرر عليها، وسوء عشرة لها.
وأولى التأويلات التي ذكرناها في ذلك بالصواب قول من قال: كل يمين منعت المقسم الجماع أكثر من المدة التي جعل الله المولي تربصها قائلاً في غضب كان ذلك أو رضا، وذلك للعلة التي ذكرناها قبل لقائلي ذلك.
"فإنْ فاءُوا فإنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ": فإن رجعوا إلى ترك ما حلفوا عليه أن يفعلوه بهنّ من ترك جماعهن فجامعوهن وحنثوا في أيمانهم، فإن الله غفور لما كان منهم من الكذب في أيمانهم بأن لا يأتوهن ثم أتوهن، ولما سلف منهم إليهن من اليمين على ما لم يكن لهم أن يحلفوا عليه، فحلفوا عليه رحيم بهم وبغيرهم من عباده المؤمنين. وأصل الفيء: الرجوع من حال إلى حال، ومنه قوله تعالى ذكره: "وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتلُوا فأصْلِحُوا بَيْنَهُما" إلى قوله: "حتى تَفِيءَ إلى أمْرِ اللّهِ" يعني: حتى ترجع إلى أمر الله...الفيء في كل الأشياء بمعنى الرجوع.
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، غير أنهم اختلفوا فيما يكون به المؤلي فائيا؛ فقال بعضهم: لا يكون فائيا إلا بالجماع... عن ابن عباس، قال: الفيء: الجماع.
وقال آخرون: الفيء: المراجعة باللسان أو القلب في حال العذر، وفي غير حال العذر الجماع. وقال آخرون: الفيء: المراجعة باللسان بكل حال... عن الحسن، قال: الفيء: الإشهاد.
وإنما اختلف المختلفون في تأويل الفيء على قدر اختلافهم في معنى اليمين التي تكون إيلاء، فمن كان من قوله: إن الرجل لا يكون مؤليا من امرأته الإيلاء الذي ذكره الله في كتابه إلا بالحلف عليها أن لا يجامعها، جعل الفيء الرجوع إلى فعل ما حلف عليه أن لا يفعله من جماعها، وذلك الجماع في الفرج إذا قدر على ذلك وأمكنه، وإذا لم يقدر عليه ولم يمكنه، فإحداث النية أن يفعله إذا قدر عليه وأمكنه وإبداء ما نوى من ذلك بلسانه ليعلمه المسلمون في قول من قال ذلك.
وأما قول من رأى أن الفيء هو الجماع دون غيره، فإنه لم يجعل العائق له عذرا، ولم يجعل له مخرجا من يمينه غير الرجوع إلى ما حلف على تركه وهو الجماع.
وأما من كان من قوله: إنه قد يكون مؤليا منها بالحلف على ترك كلامها، أو على أن يسوءها أو يغيظها، أو ما أشبه ذلك من الأيمان، فإن الفيء عنده الرجوع إلى ترك ما حلف عليه أن يفعله مما فيه مساءتها بالعزم على الرجوع عنه وإبداء ذلك بلسانه في كل حال عزم فيها على الفيء.
وأولى الأقوال بالصحة في ذلك عندنا قول من قال: الفيء: هو الجماع لأن الرجل لا يكون مؤليا عندنا من امرأته إلا بالحلف على ترك جماعها المدة التي ذكرنا للعلل التي وصفنا قبل. فإذّ كان ذلك هو الإيلاء فالفيء الذي يبطل حكم الإيلاء عنه لا شك أنه غير جائز أن يكون إلا ما كان الذي آلى عليه خلافا لأنه لما جعل حكمه إن لم يفئ إلى ما آلى على تركه الحكم الذي بينه الله لهم في كتابه كان الفيء إلى ذلك معلوما أنه فعل ما آلى على تركه إن أطاقه، وذلك هو الجماع، غير أنه إذا حيل بينه وبين الفيء الذي هو الجماع بعذر، فغير كائن تاركا جماعها على الحقيقة، لأن المرء إنما يكون تاركا ماله إلى فعله وتركه سبيل، فأما من لم يكن له إلى فعل أمر سبيل، فغير كائن تاركه. وإذ كان ذلك كذلك فإحداث العزم في نفسه على جماعها مجزئ عنه في حال العذر، حتى يجد السبيل إلى جماعها. وإن أبدى ذلك بلسانه وأشهد على نفسه في تلك الحال بالأوبة والفيء كان أعجب إليّ.
"فَإنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ".
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم: معنى ذلك: فإن الله غفور لكم فيما اجترمتم بفيئكم إليهن من الحنث في اليمين التي حلفتم عليهنّ بالله أن لا تغشوهن، رحيم بكم في تخفيفه عنكم كفارة أيمانكم التي حلفتم عليهن ثم حنثتم فيها.
وهذا التأويل الذي ذكرنا هو التأويل الواجب على قول من زعم أن كل حانث في يمين هو في المقام عليها حَرِجٌ، فلا كفارة عليه في حنثه فيها، وإن كفارته الحنث فيها. وأما على قول من أوجب على الحانث في كل يمين حلف بها برّا كان الحنث فيها أو غير برّ، فإن تأويله: فإن الله غفور للمؤلين من نسائهم فيما حنثوا فيه من إيلائهم، فإن فاءوا فكفروا أيمانهم بما ألزم الله الحانثين في أيمانهم من الكفارة، رحيم بهم بإسقاطه عنهم العقوبة في العاجل والاَجل على ذلك بتكفيره إياه بما فرض عليهم من الجزاء والكفارة، وبما جعل لهم من المهل الأشهر الأربعة، فلم يجعل فيها للمرأة التي آلى منها زوجها ما جعل لها بعد الأشهر الأربعة. [عن] عكرمة قال: وتلك رحمة الله ملكه أمرها الأربعة الأشهر إلا من معذرة، لأن الله قال: وَاللاّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنّ فَعِظُوهُنّ وَاهْجُرُوهُنّ فِي المَضَاجِعِ.
عن ابن عباس قوله: "لِلّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائهِمْ تَرَبّصُ أرْبَعَةِ أشْهُرٍ": وهو الرجل يحلف لامرأته بالله لا ينكحها، فيتربص أربعة أشهر، فإن هو نكحها كفر يمينه بإطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام.
قال أبو جعفر: وهذا التأويل الثاني هو الصحيح عندنا في ذلك لما قد بينا من العلل في كتابنا «كتاب الأيمان» من أن الحنث موجب الكفارة في كل ما ابتدئ فيه الحنث من الأيمان بعد الحلف على معصية كانت اليمين أو على طاعة.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
كان ذلك من ضرار أهل الجاهلية، كان الرجل لا يريد المرأة ولا يحبّ أن يتزوجها غيره يحلف ألاّ يقربها أبداً، وكان يتركها كذلك لا أيّماً ولا ذات بعل، وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية وفي الإسلام، فجعل الله الأجل الذي يعلم به عند الرجل في المرأة وهي أربعة أشهر، فأنزل الله تعالى {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ}.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} فلما تقاصر لسان الزوجة -لكونها أسيراً في يد الزوج- تَوَلَّى الله -سبحانه- الأمر بمراعاة حقها فأمر الزوج بالرجوع إليها أو تسريحها...
أما قوله تعالى: {تربص أربعة أشهر} فاعلم أن التربص: التلبث والانتظار، يقال: تربصت الشيء تربصا، ويقال: ما لي على هذا الأمر ربصة، أي تلبث، وإضافة التربص إلى أربعة أشهر إضافة المصدر إلى الظرف كقوله: بينهما مسيرة يوم، أي مسيرة في يوم ومثله كثير.
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
ختم حكم الفيء، الذي هو الرجوع والعود إلى رضى الزوجة، والإحسان إليها: بأنه غفور رحيم، يعود على عبده بمغفرته ورحمته، إذا رجع إليه. والجزاء من جنس العمل. فكما رجع العبد إلى التي هي أحسن، رجع الله إليه بالمغفرة والرحمة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان الإيلاء حلفاً مقيداً وبين حكم مطلق اليمين قبله لتقدم المطلق على المقيد بانفكاكه عنه بينه دليلاً على حلمه حيث لم يؤاخذهم به فقد كانوا يضارون به النساء في الجاهلية بأن يحلفوا على عدم الوطء أبداً فتكون المرأة لا أيماً ولا ذات بعل وجعل لهم فيه مرجعاً يرجعون إليه فقال في جواب من كأنه سأل عنه لما أشعر به ما تقدم: {للذين يؤلون} أي يحلفون حلفاً مبتدئاً {من نسائهم} في صلب النكاح أو علقة الرجعة بما أفادته الإضافة بأن لا يجامعوهن أبداً أو فوق أربعة أشهر فالتعدية بمن تدل على أخذ في البعد عنهن.
قال الحرالي: والإيلاء تأكيد الحلف و تشديده سواء [أكانوا] أحراراً [أم] عبيداً [أم] بعضاً وبعضاً في حال الرضى أو الغضب محبوباً كان [أم] لا لأن المضارة حاصلة بيمينه {تربص} أي إمهال وتمكث يتحمل فيه الصبر الذي هو مقلوب لفظه -...
{أربعة أشهر} ينتظر فيها رجوعهم إليهن حلماً من الله سبحانه وتعالى حيث لم يجعل الأمر بتا حين الحلف بفراق أو وفاق.
قال الحرالي: ولما كان لتخلص المرأة من الزوج أجل عدة كان أجلها مع أمد هذا التربص كأنه -والله سبحانه وتعالى أعلم- هو القدر الذي تصبر المرأة عن زوجها. يذكر أن عمر رضي الله تعالى عنه سأل النساء عن قدر ما تصبر المرأة عن الزوج، فأخبرنه أنها تصبر ستة أشهر، فجعل ذلك أمد البعوث فكان التربص والعدة قدر ما تصبره المرأة عن زوجها، وقطع سبحانه وتعالى بذلك ضرار الجاهلية في الإيلاء إلى غير حد...
ولما كان حالهم بعد ذلك مردداً بين تعالى قسميه فقال مفصلاً له {فإن فاؤوا} أي رجعوا في الأشهر، وأعقبها عن المفاصلة إلى المواصلة، من الفيء وهو الرجوع إلى ما كان منه الانبعاث {فإن الله} يغفر لهم ما قارفوه في ذلك من إثم ويرحمهم بإنجاح مقاصدهم لأنه {غفور رحيم} له هاتان الصفتان ينظر بهما إلى من يستحقهما فيغفر ما في ذلك من جناية منهما أو من أحدهما إن شاء ويعامل بعد ذلك بالإكرام.
قال الحرالي: وفي مورد هذا الخطاب بإسناده للأزواج ما يظافر معنى إجراء أمور النكاح على سترة وإعراض عن حكم الحكام من حيث جعل التربص له والفيء منه، فكأن الحكم من الحاكم إنما يقع على من هتك حرمة ستر أحكام الأزواج التي يجب أن تجري بين الزوجين من وراء ستر كما هو سر النكاح الذي هو سبب جمعهما ليكون حكم السر سراً وحكم الجهر جهراً...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
عند الانتهاء من تقرير القاعدة الكلية في الحلف، يأخذ في الحديث عن يمين الإيلاء: وهي أن يحلف الزوج ألا يباشر زوجته. إما لأجل غير محدود، وإما لأجل طويل معين: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر. فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم. وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم}.. إن هناك حالات نفسية واقعة، تلم بنفوس بعض الأزواج، بسبب من الأسباب في أثناء الحياة الزوجية وملابساتها الواقعية الكثيرة، تدفعهم إلى الإيلاء بعدم المباشرة، وفي هذا الهجران ما فيه من إيذاء لنفس الزوجة؛ ومن إضرار بها نفسيا وعصبيا؛ ومن إهدار لكرامتها كأنثى؛ ومن تعطيل للحياة الزوجية؛ ومن جفوة تمزق أوصال العشرة، وتحطم بنيان الأسرة حين تطول عن أمد معقول.
ولم يعمد الإسلام إلى تحريم هذا الإيلاء منذ البداية، لأنه قد يكون علاجا نافعا في بعض الحالات للزوجة الشامسة المستكبرة المختالة بفتنتها وقدرتها على إغراء الرجل وإذلاله أو اعناته. كما قد يكون فرصة للتنفيس عن عارض سأم، أو ثورة غضب، تعود بعده الحياة أنشط وأقوى.. ولكنه لم يترك الرجل مطلق الإرادة كذلك، لأنه قد يكون باغيا في بعض الحالات يريد اعنات المرأة وإذلالها؛ أو يريد إيذاءها لتبقى معلقة، لا تستمتع بحياة زوجية معه، ولا تنطلق من عقالها هذا لتجد حياة زوجية أخرى. فتوفيقا بين الاحتمالات المتعددة، ومواجهة للملابسات الواقعية في الحياة. جعل هنالك حدا أقصى للإيلاء. لا يتجاوز أربعة أشهر. وهذا التحديد قد يكون منظورا فيه إلى أقصى مدى الاحتمال، كي لا تفسد نفس المرأة، فتتطلع تحت ضغط حاجتها الفطرية إلى غير رجلها الهاجر.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف ابتدائي للانتقال إلى تشريع في عمل كان يغلب على الرجال أن يعملوه في الجاهلية، والإسلام. كان من أشهر الأيمان الحائلة بين البر والتقوى والإصلاح، أيمان الرجال على مهاجرة نسائهم، فإنها تجمع الثلاثة؛ لأن حسن المعاشرة من البر بين المتعاشرين، وقد أمر الله به في قوله: {وعاشروهن بالمعروف} [النساء: 19] فامتثاله من التقوى، ولأن دوامه من دوام الإصلاح، ويحدث بفقده الشقاق، وهو مناف للتقوى. وقد كان الرجل في الجاهلية يولي من امرأته السنة والسنتين، ولا تنحل يمينه إلاّ بعد مضي تلك المدة، ولا كلام للمرأة في ذلك.
ومجيء اللام في {للذين يؤلون} لبيان أن التربص جعل توسعة عليهم، فاللام للأَجْل مثل هَذا لَكَ ويعلم منه معنى التخيير فيه، أي ليس التربص بواجب، فللمولى أَن يفيء في أقل من الأشهر الأربعة. وعَزم الطلاق: التصميم عليه، واستقرار الرأي فيه بعد التأمل وهو شيء لا يحصل لكل مُولٍ من تلقاء نفسه، وخاصة إذا كان غالب القصد من الإيلاء المغاضبة والمضارة
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر} هذه إحدى الأيمان التي لو استمسك بها الحالف كانت محاجزة ممانعة دون البر والتقوى.
فهي من جهة تطبيق عملي للحكم الذي قرره العلي القدير في قوله تعالى {و لا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم.
ومن جهة ثانية هي بيان لحكم حال تعرض في أثناء العشرة الزوجية، وذلك جزء من موضوع الأسرة الذي ابتدأه سبحانه بقوله: {و يسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير} (البقرة 220) أو بقوله تعالى: {و لا تنكحوا المشركات حتى يؤمن} (البقرة 221) على حسب الاختلاف في معنى الأسرة من حيث العموم والخصوص.
إن العشرة الزوجية أنس وإلف والتقاء روحي وجسدي بتحقيق ما يتقاضاه الطبع الإنساني، والإنسال، ليبقى الإنسان في هذه الأرض يعمرها إلى أن يقضي الله سبحانه وتعالى أمرا كان مفعولا، فإذا جاء الرجل وهو القوام على الأسرة وهو رأسها وعمادها، واشتط واتخذ المضارة والكيد، بدل أن يؤلف القلوب ويؤنس النفوس ويربط بالمودة بينه وبين أهله، إذا فعل ذلك فإن الجو يعتكر، والأمور تضطرب، وتحل البغضاء محل المحبة، والمضرة محل المودة، فوجب أن تنتهي هذه الحال إما بإعادة الود إلى صفائه، وإما بفصم عرى الزوجية التي صارت لا تنتج إلا نكدا.
و إن من أشد مظاهر المضارة والمكايدة القطيعة في المضجع، والهجر غير الجميل في المبيت، فإنه أذى شديد، لا لأنه امتناع عن قضاء الوطر، بل لأنه يدل على البغض الشديد، ولا شيء يفعل في نفس المرأة أشد من الإحساس بالبغض من العشير والضجيع الذي وهبت له نفسها، وأعطته قلبها، فكان منه ذلك النكر وذلك الهجر. و لقد جعل الله سبحانه وتعالى أقصى غاية الصبر منها هو أربعة أشهر، وبعدها يكون الفصم، وإنهاء تلك الحياة الزوجية التي تحكمت بين الزوجين فيها البغضاء.
{فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم} وإن تلك المهلة التي أعطيها الزوج يتربص فيها وينتظر، والله يرقبه، و الشرع يترقبه، إنما هي لكي يقلع عن الظلم وتعود المودة إلى ما كانت عليه، ويؤدم بينهما بحياة رفيقة يقطعانها، فإن فاء إلى زوجه أي رجع إلى مضجعه الذي هجره، وقرب من امرأته ومسها، وحنث في يمينه، كفر إذ جعل الله سبحانه وتعالى الكفارة تحلة الأيمان، وعندئذ يغفر الله سبحانه ما كان منه، ولذا قال سبحانه: {فإن الله غفور رحيم} أي أن الله سبحانه وتعالى يغفر لهم ما فرط منهم في جنب أهلهم، والقطيعة التي كانت منهم ما داموا قد رأبوا الصدع وعادوا إلى رشدهم وطيبوا قلوب أهلهم، وأقاموا المودة، وملئوا البيت أنسا بعد أن ملئوه وحشة، ويغفر لهم سبحانه حنثهم في يمينهم، لأن الله سبحانه لا يريد إلا إصلاح حالهم، ولا ينقص من عظمته وجلاله أن يحنث عبد في قسمه، ما دام الخير يريد والشر يجتنب، والله سبحانه وتعالى رحيم بعباده في أن جعل لهم تحلة أيمانهم كفارة يستطيعونها وأن غفر لهم الحنث، وأن دعاهم إلى ذلك الحنث رحمة بالأسرة من أن تتهدم أركانها، وتتقطع أوصالها وتذهب المودة بين العشير وعشيره، والأليف وأليفه، ورحيم بهم في أن غفر لهم ما فرط من كل منهما في حق أخيه إذا أعادا المودة إلى سابق أمرها بعد أن كاد الهجر يقطعها.
والإسلام يريد أن يبني الحياة الزوجية على أساس واقعي لا على أفكار مجنحة ومجحفة لا تثبت أمام الواقع، فهو يعترف بالميول فيعليها ولكن لا يهدمها، ويعترف بالغرائز فلا يكتمها ولكن يضبطها. فالله يعلم أن للنفس نوازع ومتغيرات، ومن الجائز جدا أن يحدث خلاف بين الزوجين، فيجعل الله سبحانه وتعالى متنفسا يتنفس فيه الزوج للتأديب الذي ينشد التهذيب والإبقاء، فشرع للرجل إن رأى في امرأته إذلالا له بجمالها وبحسنها، وقد يكون رجل له مزاج خاص ورغبة جامحة في هذه العملية؛ لذلك شرع الله له فترة من الفترات أن يحلف ألا يقرب امرأته، ولم يجعل الله تلك الفترة مطلقة، إنما قيدها بالحلف حتى يكون الأمر مضبوطا.