{ فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ } من جنسهم ، يعرفون نسبه وحسبه وصدقه ، ليكون ذلك أسرع لانقيادهم ، إذا كان منهم ، وأبعد عن اشمئزازهم ، فدعا إلى ما دعت إليه الرسل أممهم { أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } فكلهم اتفقوا على هذه الدعوة ، وهي أول دعوة يدعون بها أممهم ، الأمر بعبادة الله ، والإخبار أنه المستحق لذلك ، والنهي عن عبادة ما سواه ، والإخبار ببطلان ذلك وفساده ، ولهذا قال : { أَفَلَا تَتَّقُونَ } ربكم ، فتجتنبوا هذه الأوثان والأصنام .
يخبر تعالى أنه أنشأ بعد قوم نوح قرنًا آخرين{[20541]} - قيل : المراد بهم عاد ، فإنهم كانوا مستخلفين بعدهم . وقيل : المراد بهؤلاء ثمود ؛ لقوله : { فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ } - وأنه تعالى أرسل فيهم رسولا منهم ، فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له . فكذبوه وخالفوه ، وأبوا من اتباعه لكونه بشرًا مثلهم ، واستنكفوا عن اتباع رسول بشري ، فكذبوا بلقاء الله في القيامة ، وأنكروا المعاد الجثماني ، وقالوا { أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ .
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ * فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلََهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتّقُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ثم أحدثنا من بعد مَهْلِك قوم نوح قرنا آخرين فأوجدناهم . فأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ داعيا لهم ، إنِ اعْبُدُوا اللّهَ يا قوم ، وأطيعوه دون الاَلهة والأصنام ، فإن العبادة لا تنبغي إلا له . ما لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرُهُ يقول : ما لكم من معبود يصلح أن تعبدوا سواه . أفَلا تَتّقُونَ : أفلا تخافون عقاب الله بعبادتكم شيئا دونه ، وهو الإله الذي لا إله لكم سواه .
وقوله { فأرسلنا فيهم رسولاً } أي جعل الرسول بينهم وهو منهم ، أي من قبيلتهم . وضمير الجمع عائد إلى { قرناً } لأنه في تأويل ( الناس ) كقوله { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } [ الحجرات : 9 ] .
وعُدِّي فعل { أرسلنَا } ب ( في ) دون ( إلى ) لإفادة أن الرسول كان منهم ونشأ فيهم لأن القرن لما لم يعين باسم حتى يعرف أن رسولهم منهم أو وارداً إليهم مثل لوط لأهل ( سدوم ) ، ويونس لأهل ( نينوَى ) ، وموسى للقبط . وكان التنبيه على أن رسولهم منهم مقصوداً إتماماً للمماثلة بين حالهم وحال الذين أرسل إليهم محمد صلى الله عليه وسلم وكلام رسولهم مثل كلام نوح .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فأرسلنا فيهم رسولا منهم} يعنى من أنفسهم {أن اعبدوا الله} يعني: أن وحدوا الله {ما لكم من إله غيره} يقول: ليس لكم رب غيره.
{أفلا تتقون} يعني: أفهلا تعبدون الله عز وجل.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 31]
يقول تعالى ذكره: ثم أحدثنا من بعد مَهْلِك قوم نوح قرنا آخرين فأوجدناهم. "فأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ "داعيا لهم، "إنِ اعْبُدُوا اللّهَ" يا قوم، وأطيعوه دون الآلهة والأصنام، فإن العبادة لا تنبغي إلا له.
"ما لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرُهُ" يقول: ما لكم من معبود يصلح أن تعبدوا سواه. "أفَلا تَتّقُونَ": أفلا تخافون عقاب الله بعبادتكم شيئا دونه، وهو الإله الذي لا إله لكم سواه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون} جميع الأنبياء والرسل إنما بعثوا بالدعاء إلى توحيد الله، وجعل العبادة له.
{أفلا تتقون} مخالفته أو عبادة من دونه وجميع معاصيه على ما ذكرنا من قبل.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان ربما ظن ظان أنهم فرقة من المهلكين نجوا من عذاب سائرهم كما يكون في حروب سائر الملوك، عبر عن إنجائهم بإنشائهم، حقق أنهم أحدثوا بعدهم فقال: {آخرين فأرسلنا} أي فتعقب إنشاءنا لهم وتسبب عنه أن أرسلنا.
ولما كان المقصود الإبلاغ في التسلية، عدي الفعل ب "في "دلالة على أنه عمهم بالإبلاغ كما يعم المظروف الظرف، حتى لم يدع واحداً منهم إلا أبلغ في أمره فقال: {فيهم رسولاً منهم} فكان القياس يقتضي مبادرتهم لاتباعه لعلمهم بما حل بمن قبلهم لأجل التكذيب، ولمعرفتهم غاية المعرفة لكون النبي منهم، بما جعلناه عليه من المحاسن، وما زيناه به من الفضائل، ولأن عزه عزهم، ولدعائه لهم إلى ما لا يخفى حسنه على عاقل، ولا يأباه منصف؛ ثم بين ما أرسل به بقوله: {أن اعبدوا الله} أي وحده لأنه لا مكافئ له، ولذا حفظ اسمه فكان لا سمي له؛ ثم علل ذلك بقوله: {ما لكم} ودل على الاستغراق بقوله: {من إله غيره}.
ولما كانت المثلات قد خلت من قبلهم في المكذبين، وأناخت صروفها بالظالمين، فتسبب عن علمهم بذلك إنكار قلة مبالاتهم في عدم تحرزهم من مثل مصارعهم، قال: {أفلا تتقون} أي تجعلون لكم وقاية مما ينبغي الخوف منه فتجعلوا وقاية تحول بينكم وبين سخط الله.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} من جنسهم، يعرفون نسبه وحسبه وصدقه، ليكون ذلك أسرع لانقيادهم، إذا كان منهم، وأبعد عن اشمئزازهم، فدعا إلى ما دعت إليه الرسل أممهم {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} فكلهم اتفقوا على هذه الدعوة، وهي أول دعوة يدعون بها أممهم، الأمر بعبادة الله، والإخبار أنه المستحق لذلك، والنهي عن عبادة ما سواه، والإخبار ببطلان ذلك وفساده، ولهذا قال: {أَفَلَا تَتَّقُونَ} ربكم، فتجتنبوا هذه الأوثان والأصنام.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وكان التنبيه على أن رسولهم منهم مقصوداً إتماماً للمماثلة بين حالهم وحال الذين أرسل إليهم محمد صلى الله عليه وسلم وكلام رسولهم مثل كلام نوح...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
في هذا النص أنه سبحانه وتعالى أرسل إليهم رسولا، مع أن الذين جاءوا بعد نوح رسل في أقاليم مختلفة، وفي قرون متوالية، رسولا بعد رسول، وربما يكونون عدة رسل في جيل واحد، كإبراهيم ولوط، وكموسى وهارون، ولكن أفرد ذكر الرسول؛ لأنهم جميعا جاءوا برسالة واحدة وهي التوحيد، والإصلاح، فهم وإن تعددوا هم كرسول واحد، وذكرت الدعوة بالصيغة التي ذكرت بها دعوة نوح عليه السلام: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ} و {أن} هنا تفسيرية، لأن ما بعدها تفسير ل {فأرسلنا}، أي أرسلناهم بأن يقولوا اعبدوا الله ما لكم من إله غيره. أي ليس لكم من إله أي إله غيره، {أفلا تتقون}، وقد تقدم ذكر معناها قريبا، ولقد ذكر سبحانه أن الرسول منهم يعرفونه ويألفونه، ويكون من أوسطهم نسبا، وأعلاهم مكانة.
جاء بعد قوم نوح عليه السلام قوم عاد، وقد أرسل الله إليهم سيدنا هودا عليه السلام، كما جاء في قوله تعالى: {وإلى عاد أخاهم هودا (65)} [الأعراف]: وقد دعاهم بنفس دعوة نوح: {أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره}، وقال لهم أيضا: {أفلا تتقون} إذن: هو منهج موحد عند جميع الرسالات، كما قال سبحانه: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه.. (13)} [الشورى]. فدين الله واحد، نزل به جميع الرسل والأنبياء، فإن قلت: فما بال قوله تعالى: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا.. (48)} [المائدة]. نقول: نعم، لأن العقائد والأصول هي الثابتة التي لا تتغير: اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، أما المنهج والشريعة الخاصة بالفروع فهي محل التغيير بين الرسل، لأنها أمور تتعلق بحركة الحياة، والحق- تبارك وتعالى- يعطي لكل بيئة على لسان رسولها ما يناسبها وما يعالج أمراضها وداءاتها. والشرعة: هي القانون الذي يحكم حركة حياتك، أما الدين فهو الأمر الثابت والموحد من قبل الله- عز وجل- والذي لا يملك أحد أن يغير فيه حرفا واحدا. لذلك، كانت آفة الأمم أن يجعلوا أنفسهم فرقا مختلفة وأحزابا متباينة، وهؤلاء الذين قال الله فيهم: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء.. (159)} [الأنعام]. وتأمل: {فرقوا دينهم.. (159)} [الأنعام]، ولم يقل: فرقوا شريعتهم ولا منهجهم، ذلك لأن الدين واحد عند الله، أما المناهج والشرائع فهي مجال الاختلاف على حسب ما في الأمة من داءات، فهؤلاء كانوا يعبدون الأوثان، وهؤلاء كانوا يطففون الكيل والميزان، وهؤلاء كانوا يجحدون نعم الله.. الخ. وسبق أن أوضحنا أن اختلاف الداءات في هذه الأمم ناتج عن العزلة التي كانت تبعدهم، فلا يدري هذا بهذا، وهم في زمن واحد، أما في رسالة الإسلام- هذه الرسالة العامة الخاتمة- فقد جاءت على موعد من التقاء الأمم وتواصل الحضارات، فما يحدث في أقصى الشمال يعرفه من في أقصى الجنوب، لذلك توحدت الداءات، فجاء رسول واحد خاتم بتشريع صالح لجميع الزمان ولجميع المكان، وإلى قيام الساعة.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ...} من خلال التوحيد لله في العقيدة والعبادة والطاعة على خط المنهج والشريعة، فهذا الأصل الذي تتفرّع عنه كل فروع الحركة والسلوك في الحياة التي تدعو الناس كلهم من خلاله إلى التقوى والانضباط على الخط المستقيم،...