{ والذي قدر فهدى } قرأ الكسائي : { قدر } بتخفيف الدال ، وشددها الآخرون ، وهما بمعنىً واحد . قال مجاهد : هدى الإنسان لسبيل الخير والشر ، والسعادة والشقاوة وهدى الأنعام لمراتعها . وقال مقاتل والكلبي : قدر لكل شيء مسلكه ، { فهدى } : عرفها كيف يأتي الذكر والأنثى . وقيل : قدر الأرزاق وهدى لاكتساب الأرزاق والمعاش . وقيل : خلق المنافع في الأشياء ، وهدى الإنسان لوجه استخراجها منها . وقال السدي : قدر مدة الجنين في الرحم ثم هداه للخروج من الرحم . قال الواسطي : قدر السعادة والشقاوة عليهم ، ثم يسر لكل واحد من الطائفتين سلوك سبيل ما قدر عليه .
وقوله : { وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } قال مجاهد : هدى الإنسان للشقاوة والسعادة ، وهدى الأنعام لمراتعها .
وهذه الآية كقوله تعالى إخبارا عن موسى أنه قال لفرعون : { رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } [ طه : 5 ] أي : قدر قدرا ، وهدى الخلائق إليه ، كما ثبت في صحيح مسلم ، عن عبد الله ابن عَمرو : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله قَدَّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ، وكان عرشه على الماء " {[29969]} .
وقوله : وَالّذِي قَدّرَ فَهَدَى يقول تعالى ذكره : والذي قدّر خلقه فهدى .
واختلف أهل التأويل في المعنى الذي عُني بقوله : فَهَدَى ، فقال بعضهم : هدى الإنسان لسبيل الخير والشرّ ، والبهائم للمراتع . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : قَدّرَ فَهَدَى قال : هدى الإنسان للشّقوة والسعادة ، وهَدى الأنعام لمراتعها .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : هدى الذكور لمأتى الإناث . وقد ذكرنا الرواية بذلك فيما مضى .
والصواب من القول في ذلك عندنا : أن الله عمّ بقوله فَهَدَى الخبر عن هدايته خلقه ، ولم يخصص من ذلك معنى دون معنى ، وقد هداهم لسبيل الخير والشرّ ، وهدى الذكور لمأتى الإناث ، فالخبر على عمومه ، حتى يأتي خبر تقوم به الحجة ، دالّ على خصوصه . واجتمعت قرّاء الأمصار على تشديد الدال من قَدّر ، غير الكسائي فإنه خفّفها . والصواب في ذلك التشديد ، لإجماع الحجة عليه .
وإعادة اسم الموصول في قوله : { والذي قدر } وقوله : { والذي أخرج المرعى } مع إغناء حرف العطف عن تكريره ، للاهتمام بكل صلة من هذه الصلات وإثباتها لمدلول الموصول وهذا من مقتضيات الإطناب .
وعطْفُ قوله : { فهدى } بالفاء مثل عطف { فسوى } ، فإن حمل { خلق } و { قدّر } على عموم المفعول كانت الهداية عامة . والقول في وجه عطف { فهدى } بالفاء مثل القول في عطف { فسوى } .
وعطف { فهدى } على { قدر } عطفُ المسبَّب على السبب أي فهدى كلَّ مقدر إلى ما قدر له فهداية الإنسان وأنواع جنسه من الحيوان الذي له الإِدراك والإِرادة هي هداية الإِلهام إلى كيفية استعمال ما قدَّر فيه من المقادير والقوى فيما يناسب استعماله فيه فكلما حصل شيء من آثار ذلك التقدير حصل بأثره الاهتداء إلى تنفيذه .
والمعنى : قَدّر الأشياءَ كلها فهداها إلى أداء وظائفها كما قدّرها لها ، فالله لما قدّر للإِنسان أن يكون قابلاً للنطق والعِلم والصناعة بما وَهَبَه من العقل وآلات الجسد هداهُ لاستعمال فكره لما يُحصِّل له ما خُلق له ، ولمَّا قَدر البقرةَ للدَّر ألهمها الرَعْي ورِثْمَانَ ولدها لِتَدرَّ بذلك للحالب ، ولمّا قدر النحل لإنتاج العسَل ألهمها أن ترعى النَّور والثمار وألهمها بناء الجِبْح وخلاياه المسدسة التي تضع فيها العسل .
ومن أجلِّ مظاهر التقدير والهداية تقدير قوى التناسل للحيوان لبقاء النوع . فمفعول « هدى » محذوف لإفادة العموم وهو عام مخصوص بما فيه قابلية الهَدْي فهو مخصوص بذوات الإِدراك والإِرادة وهي أنواع الحيوان فإن الأنواع التي خلقها الله وقدَّر نظامها ولم يقدِّر لها الإِدراك مثل تقدير الإِثمار للشجر ، وإنتاج الزريعة لتجدد الإِنبات ، فذلك غير مراد من قوله : { فهدى } لأنها مخلوقة ومقدّرة ولكنها غير مهدية لعدم صلاحها للاهتداء ، وإن جعل مفعول { خلق } خاصاً ، وهو الإنسان كان مفعول { قدر } على وزانه ، أي تقدير كمال قوى الإِنسان ، وكانت الهداية هداية خاصة وهي دلالة الإِدراك والعقل .
وأوثر وصفا التسوية والهداية من بين صفات الأفعال التي هي نِعم على الناس ودالة على استحقاق الله تعالى للتنزيه لأن هذين الوصفين مناسبة بما اشتملت عليه من السورة فإن الذي يسوي خَلق النبي صلى الله عليه وسلم تسوية تلائم ما خلَقه لأجله من تحمل أعباء الرسالة لا يفوته أن يهيئه لحفظ ما يوحيه إليه وتيسيره عليه وإعطائه شريعة مناسبة لذلك التيسير قال تعالى : { سنقرئك فلا تنسى } [ الأعلى : 6 ] وقال : { ونيسرك لليسرى } [ الأعلى : 8 ] .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله : "وَالّذِي قَدّرَ فَهَدَى" يقول تعالى ذكره : والذي قدّر خلقه فهدى .
واختلف أهل التأويل في المعنى الذي عُني بقوله : "فَهَدَى" ؛
فقال بعضهم : هدى الإنسان لسبيل الخير والشرّ ، والبهائم للمراتع ...
والصواب من القول في ذلك عندنا : أن الله عمّ بقوله "فَهَدَى" الخبر عن هدايته خلقه ، ولم يخصص من ذلك معنى دون معنى ... فالخبر على عمومه ، حتى يأتي خبر تقوم به الحجة ، دالّ على خصوصه .
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
فالتقدير تنزيل الشيء على مقدار غيره ، فالله تعالى خلق الخلق وقدرهم على ما اقتضته الحكمة ( فهدى ) معناه أرشدهم إلى طريق الرشد من الغي ، وهدى كل حيوان إلى ما فيه منفعته ومضرته، حتى إنه تعالى هدى الطفل إلى ثدي أمه وميزه من غيره ، واعطى الفرخ حتى طلب الرزق من أبيه وأمه . ...
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
الخلق دون هداية لا يفضي إلى خير ، ولذلك قال تعالى : { قدر فهدى } . ( مقاصد الفلاسفة : 374 )...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وهدايات الله للإنسان إلى ما لا يحدّ من مصالحه وما لا يحصر من حوائجه في أغذيته وأدويته ، وفي أبواب دنياه ودينه ، وإلهامات البهائم والطيور وهوام الأرض : باب واسع ، وشوط بطين ، لا يحيط به وصف واصف ؛ فسبحان ربي الأعلى ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ والذي قدر } أي أوقع تقديره في أجناس الأشياء وأنواعها وأشخاصها ومقاديرها وصفاتها وأفعالها وآجالها ، وغير ذلك من أحوالها ، فجعل البطش لليد والمشي للرجل والسمع للأذن والبصر للعين ونحو ذلك { فهدى } أي أوقع بسبب تقديره وعقبه الهداية لذلك الذي وقع التقدير من أجله من الشكل والجواهر والأعراض.....فترى الطفل أول ما يقع من البطن يفتح فاه للرضاعة ، وغيره من سائر الحيوانات ، يهتدي إلى ما ينفعه من سائر الانتفاعات ، فالخلق لا بد له من التسوية ليحصل الاعتدال ، والتقدير لا بد له من الهداية ليحصل الكمال . ...
أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن للشنقيطي 1393 هـ :
وهنا قدر كل ما خلق ، وهدى كل مخلوق إلى ما قدره له ، ففي العالم العلوي قدَّر مقادير الأمور ، وهدَى الملائكة لتنفيذها ، وقدَّر مسير الأفلاك ، وهداها إلى ما قدر لها ، كل في فلك يسبحون . وفي الأشجار والنباتات قدر لها أزمنة معينة في إيتائها وهدايتها إلى ما قدر لها ، فالجذر ينزل إلى أسفل والنبتة تنمو إلى أعلى ، وهكذا الحيوانات في تلقيحها ونتاجها وإرضاعها ، كل قد هداه إلى ما قدر له ، وهكذا الإنسان . ...
تفسير القرآن الكريم لابن عثيمين 1421 هـ :
قدره في حاله ، وفي مآله ، وفي ذاته ، وفي صفاته ، كل شيء له قدر محدود ، فالآجال محدودة ، والأحوال محدودة ، والأجسام محدودة ، وكل شيء مقدر تقديراً كما قال تعالى : { وخلق كل شيء فقدره تقديراً } . وقوله : { فهدى } يشمل الهداية الشرعية ، والهداية الكونية ، الهداية الكونية : أن الله هدى كل شيء لما خلق له ، ... أما الهداية الشرعية وهي الأهم بالنسبة لبني آدم فهي أيضاً بينها الله عز وجل حتى الكفار قد هداهم الله يعني بيّن لهم ، قال الله تعالى : { وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى } [ فصلت : 17 ] . والهداية الشرعية هي المقصود من حياة بني آدم { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [ الذاريات : 56 ] ....
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وبعد ذكر موضوعي الخلق والتنظيم ، تنتقل بنا الآية التالية إلى حركة الموجودات نحو الكمال : ( والذي قدّر فهدى ) . والمراد ب ( قدّر ) ، هو : وضع البرامج ، وتقدير مقادير الأمور اللازمة للحركة باتجاه الأهداف المرسومة التي ما خلقت الموجودات إلاّ لأجلها . ... والمراد ب ( هدى )هنا ، هي : الهداية الكونية ، على شكل غرائز وسنن طبيعية حاكمة على كل موجود ولا فرق في الغرائز والدوافع سواء كانت داخلية أم خارجية ... وبنظرة ممعنة لبناء كلّ موجود ، وما يطويه في فترة عمره من خطوات في مشوار الحياة ، تظهر لنا بوضوح الحقيقة التالية : ثمّة برنامج وتخطيط دقيق يحيط بكل موجود ، وثمّة يد مقتدرة تهديه وتعينه على السير على ضوء ما رسم له، وهذه بحد ذاتها علامة جليّة لربوبية اللّه جلّ وعلا . وقد اختص الإنسان بهداية تشريعية إضافة للهداية التكوينية يتلقاها عن طريق الوحي وإرسال الأنبياء عليهم السلام ، لتكتمل أمامه معالم الطريق من كافة جوانبه . ...