قوله تعالى : { هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد* أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب } أي : شدته { يوم القيامة } قال مجاهد : يجر وجهه في النار . وقال عطاء : يرمى به في النار منكوسا ، ً فأول شيء منه تمسه النار وجهه ، قال مقاتل : هو أن الكافر يرمى به في النار مغلولة يداه إلى عنقه ، وفي عنقه صخرة ، مثل جبل عظيم من الكبريت ، فتشتعل النار ، وهو معلق في عنقه ، فحرها ووهجها على وجهه لا يطيق دفعها عن وجهه للأغلال التي في عنقه ويده . ومجاز الآية أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب كمن هو آمن من العذاب . { وقيل } يعني : تقول الخزنة { للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون } أي : وباله .
{ أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ } : أي : أفيستوي هذا الذي هداه اللّه ، ووفقه لسلوك الطريق الموصلة لدار كرامته ، كمن كان في الضلال واستمر على عناده حتى قدم القيامة ، فجاءه العذاب العظيم فجعل يتقي بوجهه الذي هو أشرف الأعضاء ، وأدنى شيء من العذاب يؤثر فيه ، فهو يتقي فيه سوء العذاب لأنه قد غلت يداه ورجلاه ، { وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ } أنفسهم ، بالكفر والمعاصي ، توبيخا وتقريعا : { ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ } .
ثم يعرض ما ينتظر أهل الضلال يوم القيامة في مشهد بائس في موعد حصاد الأعمال !
( أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة ? وقيل للظالمين : ذوقوا ما كنتم تكسبون ) . .
والإنسان يقي وجهه عادة بيديه وجسمه . فأما هنا فهو لا يملك أن يدفع عن نفسه النار بيديه ولا برجليه ، فيدفعها بوجهه ، ويتقي به سوء العذاب . مما يدل على الهول والشدة والاضطراب . وفي زحمة هذا العذاب يتلقى التأنيب ، وتدفع إليه حصيلة حياته ويا لها من حصيلة : ( وقيل للظالمين : ذوقوا ما كنتم تكسبون ) !
يقول تعالى : { أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } ، ويُقرعُ فيقال له ولأمثاله من الظالمين : { ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ } ، كمن يأتي آمنا يوم القيامة ؟ ! كما قال تعالى : { أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [ الملك : 22 ] ، وقال : { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ } [ القمر : 48 ] ، وقال تعالى { أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ } [ فصلت : 40 ] ، واكتفى في هذه الآية بأحد القسمين عن الآخر ، كقول الشاعر .
فَمَا أدْري إذَا يَمَّمْتُ أرْضًا *** أريدُ الخيرَ : أيّهما يَليني ؟
القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَمَن يَتّقِي بِوَجْهِهِ سُوَءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظّالِمِينَ ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ * كَذّبَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } .
اختلف أهل التأويل في صفة اتقاء هذا الضالّ بوجهه سُوء العذاب ، فقال بعضهم : هو أن يُرْمَى به في جهنم مكبوبا على وجهه ، فذلك اتقاؤه إياه . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : أَفَمَنْ يَتّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ العَذَابِ قال : يَخِرّ على وجهه في النار ، يقول : هو مثل أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النّارِ خَيْرٌ أمْ مَنْ يَأتِي آمنا يَوْمَ القِيامَةِ ؟ .
وقال آخرون : هو أن ينطلق به إلى النار مكتوفا ، ثم يرمَى به فيها ، فأوّل ما تمسّ النار وجهه وهذا قول يُذكر عن ابن عباس من وجه كرهت أن أذكره لضعف سنده وهذا أيضا مما ترك جوابه استغناء بدلالة ما ذكر من الكلام عليه عنه . ومعنى الكلام : أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة خير ، أم من ينعم في الجنان ؟ .
وقوله : وَقِيلَ للظّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ يقول : ويقال يومئذٍ للظالمين أنفسهم بإكسابهم إياها سخط الله . ذوقوا اليوم أيها القوم وَبالَ ما كنتم في الدنيا تكسبون من معاصي الله .
{ أفمن يتقي بوجهه } يجعله درقة يقي به نفسه لأنه يكون يداه مغلولة إلى عنقه فلا يقدر أن يتقي إلا بوجهه { سوء العذاب يوم القيامة } كمن هو آمن منه ، فحذف الخبر كما حذف في نظائره . { وقيل للظالمين } أي لهم فوضع الظاهر موضعه تسجيلا عليهم بالظلم وإشعارا بالموجب لما يقال لهم وهو : { ذوقوا ما كنتم تكسبون } أي وباله ، والواو للحال وقد مقدرة .
هذا تقرير بمعنى التعجيب ، والمعنى : { أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب } المنعمين في الجنة .
واختلف المتأولون في قوله : { يتقي بوجهه } فقال مجاهد : يخر على وجهه في النار . وقالت فرقة : ذلك لما روي أن الكافر يلقى في النار مكتوفاً مربوطة يداه إلى رجليه مع عنقه ويكب على وجهه ، فليس له شيء يتقي به إلا الوجه . وقالت فرقة : المعنى صفة كثرة ما ينالهم من العذاب ، وذلك أنه يتقيه بجميع جوارحه ولا يزال العذاب يتزيد حتى يتقيه بوجهه الذي هو أشرف جوارحه وفي حواسه ، فإذ بلغ به العذاب إلى هذه الغاية ظهر أنه لا متجاوز بعدها .
قال القاضي أبو محمد : وهذا المعنى عندي أبين بلاغة ، وفي هذا المضمار يجري قول الشاعر : [ الكامل ]
يلقى السيوف بوجهه وبنحره*** ويقيم هامته مقام المغفر
لأنه إنما أراد عظيم جرأته عليها فهو يلقاها بكل محن وبكل شيء منه حتى بوجهه وبنحره .
وقوله تعالى : { ذوقوا } عبارة عن باشروا ، وهنا محذوف تقديره : جزاء { ما كنتم تكسبون } ، ثم مثل لقريش بالأمم السالفة .
{ أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سواء العذاب يَوْمَ القيامة } .
الجملة اعتراض بين الثناء على القرآن فيما مضى وقوله الآتي : { ولقدَ ضَربْنَا للنَّاسِ في هذا القُرءَانِ من كُل مَثَلٍ } [ الزمر : 27 ] .
وجعلها المفسرون تفريعاً على جملة { ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هادٍ } [ الزمر : 23 ] بدلالة مجموع الجملتين على فريقين : فريق مهتد ، وفريق ضاللٍ ، ففرع على ذلك هذا الاستفهام المستعمل في معنى مجازي . وجعل المفسرون في الكلام حذفاً ، وتقدير المحذوف : كمن أمن العذاب أو كمن هو في النعيم . وجعلوا الاستفهام تقريرياً أو إنكارياً ، والمقصود : عدم التسوية بين من هو في العذاب وهو الضالّ ومن هو في النعيم وهو الذي هداه الله ، وحُذف حال الفريق الآخر لظهوره من المقابلة التي اقتضاها الاستفهام بناء على أن هذا التركيب نظير قوله : { أفمَنْ حقَّ عليهِ كلمةُ العذابِ } [ الزمر : 19 ] وقوله : { أفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ للإسلاَمِ } [ الزمر : 22 ] ، والقول فيه مثل القول في سابقه من الاستفهام وحذف الخبر ، وتقديره : أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب ، لأن الله أضله كمن أمن من العذاب لأن الله هداه ، وهو كقوله تعالى : { أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله } [ محمد : 14 ] . والمعنى : أن الذين اهتدوا لا ينالهم العذاب .
ويجوز عندي أن يكون الكلام تفريعاً على جملة { وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } [ الزمر : 23 ] تفريعاً لتعيين مَا صْدِق ( مَنْ ) في قوله : { ومن يُضْلِل الله فما له من هَادٍ } ويكون { من يتقي } خبراً لمبتدأ محذوف ، تقديره : أفهو من يتقي بوجهه سوء العذاب ، والاستفهام للتقرير .
والاتقاء : تكلف الوقاية وهي الصون والدفع ، وفعلها يتعدى إلى مفعولين ، يقال : وقى نفسه ضربَ السيف ، ويتعدّى بالباء إلى سبب الوقاية ، يقال : وقى بترسه ، وقال النابغة :
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه *** فتناولْته واتَّقتنا باليد
وإذا كان وجه الإنسان ليس من شأنه أن يُوقى به شيء من الجسد ، إذ الوجه أعزّ ما في الجسد وهو يُوقَى ولا يُتقى به فإن من جبلِّة الإِنسان إذا توقع ما يصيب جسده ستر وجهه خوفاً عليه ، فتعين أن يكون الاتقاء بالوجه مستعملاً كناية عن عدم الوقاية على طريقة التهكم أو التلميح ، فكأنه قيل : من يطلب وقاية وجهه فلا يجد ما يقيه به إلا وجهه ، وهذا من إثبات الشيء بما يشبه نفيه ، وقريب منه قوله تعالى : { وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل } [ الكهف : 29 ] .
و { سُوءَ العَذَابِ } منصوب على المفعولية لفعل { يَتَّقِي } . وأصله مفعول ثان إذ أصله : وَقَى نفسه سوءَ العذاب ، فلما صيغ منه الافتعال صار الفعل متعدياً إلى مفعول واحد هو الذي كان مفعولاً ثانياً .
{ وَقِيلَ لِلظَّلِمِينَ ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تكسبون }
يجوز أن يكون { وَقِيلَ } عطفاً على الصلة . والتقدير : أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب ، وقيل لهم فإن ( مَن ) مراد بها جمْع ، والتعبير ب { الظالمين } إظهار في مقام الإِضمار للإِيماء إلى أن ما يلاقونه من العذاب مسبب على ظلمهم ، أي شركهم .
والمعنى : أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب فلا يجد وقاية تنجيه من ذوق العذاب فيقال لهم : ذُوقوا العذاب .
ويجوز أن يكون المراد ب { الظالمين } جميع الذين أشركوا بالله من الأمم غير خاص بالمشركين المتحدث عنهم ، فيكون { الظالمين } إظهاراً على أصله لقصد التعميم ، فتكون الجملة في معنى التذييل ، أي ويقال لهؤلاء وأشباههم ، ويظهر بذلك وجه تعقيبه بقوله تعالى : { كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم } [ الزمر : 25 ] .
وجاء فعل { وَقِيلَ } بصيغة المضيّ وهو واقع في المستقبل لأنه لتحقق وقوعه نزل منزلة فعل مضَى . ويجوز أن يكون جملة { وقِيلَ للظالمين } في موضع الحال بتقدير ( قد ) ولذلك لا يحتاج إلى تأويل صيغة المضيّ على معنى الأمر المحقق وقوعه .
والذوق : مستعار لإِحساس ظاهر الجسد لأن إحساس الذوق باللسان أشد من إحساس ظاهر الجلد فوجه الشبه قوة الجنس .
والمذوق : هو العذاب فهو جزاء مَا اكتسبوه في الدنيا من الشرك وشرائعه ، فجعل المذوق نفس ما كانوا يكسبون مبالغة مشيرة إلى أن الجزاء وفق أعمالهم وأن الله عادل في تعذيبهم .
وأوثر { تَكْسِبُونَ } على ( تعملون ) لأن خطابهم كان في حال اتقائهم سوءَ العذاب ولا يخلو حال المعذّب من التبرم الذي هو كالإِنكار على معذِّبه . فجيء بالصلة الدالة على أن ما ذاقوه جزاء ما اكتسبوه قطعاً لتبرمهم .