فلم يكن لقصور بالآيات ، وعدم وضوح فيها ، ولهذا قال : { وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا }
أي : الآية المتأخرة أعظم من السابقة ، { وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ } كالجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، آيات مفصلات . { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } إلى الإسلام ، ويذعنون له ، ليزول شركهم وشرهم .
يلي ذلك إشارة إلى ما أخذ الله به فرعون وملأه من الابتلاءات المفصلة في سور أخرى :
( وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها ، وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون . وقالوا : يا أيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون . فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون ) . .
وهكذا لم تكن الآيات التي ظهرت على يدي موسى - عليه السلام - مدعاة إيمان ، وهي تأخذهم متتابعة . كل آية أكبر من أختها . مما يصدق قول الله تعالى في مواضع كثيرة ، وفحواه أن الخوارق لا تهدي قلباً لم يتأهل للهدى ؛ وأن الرسول لا يسمع الصم ولا يهدي العمي !
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا نُرِيِهِم مّنْ آيَةٍ إِلاّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وما نري فرعون وملأه آية ، يعني : حجته لنا عليه بحقيقة ما يدعوه إليه رسولنا موسى إلاّ هِيَ أكْبَرُ مِنْ أُخْتِها يقول : إلا التي نريه من ذلك أعظم في الحجة عليهم وأوكد من التي مضت قبلها من الاَيات ، وأدلّ على صحة ما يأمره به موسى من توحيد الله .
وقوله : وأخَذْناهُمْ بالعَذابِ يقول : وأنزلنا بهم العذاب ، وذلك كأخذه تعالى ذكره إياهم بالسنين ، ونقص من الثمرات ، وبالجراد ، والقُمّل ، والضفادع ، والدم .
وقوله : لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ يقول : ليرجعوا عن كفرهم بالله إلى توحيده وطاعته ، والتوبة مما هم عليه مقيمون من معاصيهم . كما : حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وأخَذْناهُمْ بالعَذَاب لَعَلّهُم يَرْجِعُونَ أي يتوبون ، أو يذكرون .
{ وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها } إلا هي بالغة أقصى درجات الإعجاز بحيث يحسب الناظر فيها أنها أكبر مما يقاس إليها من الآيات ، والمراد وصف الكل بالكبر كقولك : رأيت رجالا بعضهم أفضل من بعض ، وكقوله :
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم *** مثل النجوم التي يسري بها الساري
أو { إلا } وهي مختصة بنوع من الإعجاز مفضلة على غيرها بذلك الاعتبار { وأخذناهم بالعذاب } كالسنين والطوفان والجراد . { لعلهم يرجعون } على وجه يرجى رجوعهم .
وقوله : { إلا هي أكبر من أختها } عبارة عن شدة موقعها في نفوسهم بحدة أمرها وحدوثه ، وذلك أن أول آية عرض موسى هي : العصا واليد ، وكانت أكبر آياته ، ثم كل آية بعد ذلك كانت تقع فيعظم عندهم لحينها وتكبر ، لأنهم قد كانوا أنسوا التي قبلها ، فهذا كما قال الشاعر : [ الطويل ]
على أنها تعفو الكلومُ وإنما . . . توكل بالأدنى وان جل ما يقضى
وذهب الطبري إلى أن الآيات هي الحجج والبينات . ثم ذكر تعالى أخذهم بالعذاب في العمل والضفادع والدم وغير ذلك ، وهذا كما أخذ قريش بالسنين والدخان .
وقوله : { لعلهم } ترج بحسب معتقد البشر وظنهم . و : { يرجعون } معناه : يتوبون ويقلعون .
الأظهر أن جملة { وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها } في موضع الحال ، وأن الواو واو الحال وأن الاستثناء من أحوال ، وما بعد { إلاّ } في موضع الحال ، واستغنت عن الواو لأن { إلاّ } كافية في الربط . والمعنى : أنهم يستخفُّون بالآيات التي جاء بها موسى في حال أنّها آيات كبيرة عظيمة فإنما يستخفّون بها لمكابرتهم وعنادهم .
وصوغ { نريهم } بصيغة المضارع لاستحضار الحالة . ومعنى { هي أكبر من أختها } يحتمل أن يراد به أن كل آية تأتي تكون أعظم من التي قبلها ، فيكون هنالك صفة محذوفة لدلالة المقام ، أي من أختها السابقة ، كقوله تعالى : { يأخذ كل سفينة غصباً } [ الكهف : 79 ] ، أي كل سفينة صحيحة ، وهذا يستلزم أن تكون الآيات مترتبة في العظم بحسب تأخر أوقات ظهورها لأن الإتيان بآية بعد أخرى ناشىء عن عدم الارتداع من الآية السابقة . ويحتمل ما قال صاحب « الكشاف » أن الآيات موصوفات بالكبر لا بكونها متفاوتة فيه وكذلك العادة في الأشياء التي تتلاقى في الفضل وتتفاوت منازلها فيه التفاوت اليسير ، أي تختلف آراء النّاس في تفضيلها ، فعلى ذلك بنى النّاس كلامهم فقالوا : رأيت رجالاً بعضهم أفضل من بعض ، وربّما اختلفت آراء الرجل الواحد فيها فتارة يفضل هذا وتارة يفضل ذاك ، ومنه بيت الحماسة{[376]} :
مَن تلق منهم تقُل لاقيت سيدهم *** مثل النجوم التي يسري بها الساري
وقد فاضلت الأنماريّة{[377]} بين الكمَلة من بنيها ثم قالت لمَّا أبصرت مراتبهم متقاربة قليلة التفاوت : ثَكِلْتُهم إن كنتُ أعلم أيُّهم أفضل ، هم كالحَلْقة المفرغَة لا يُدرَى أيْنَ طرفاها . فالمعنى : وما نريهم من آية إلاّ وهي آية جليلة الدلالة على صدق الرّسول صلى الله عليه وسلم تكاد تنسيهم الآية الأخرى . والأخت مستعارة للمماثلة في كونها آية .
وعطف { وأخذناهم بالعذاب } على جملة { وما نريهم من آية } لأن العذاب كان من الآيات .
والعذاب : عذاب الدنيا ، وهو ما يؤلم ويشق ، وذلك القحط والقُمَّل والطوفان والضفادع والدم في الماء .
والأخذ بمعنى : الإصابة . والباء في { بالعذاب } للاستعانة كما تقول : خذ الكتاب بقوة ، أي ابتدأناهم بالعذاب قبل الاستئصال لعل ذلك يفيقهم من غفلتهم ، وفي هذا تعريض بأهل مكة إذ أصيبوا بسني القحط .
والرجوع : مستعار للإذعان والاعتراف ، وليس هو كالرجوع في قوله آنفاً { وجعلها كلمةً باقية في عقبه لعلهم يرجعون } [ الزخرف : 28 ] . وضمائر الغيبة في { نريهم } و { أخذناهم } ، و { لعلهم } عائدة إلى فرعون وملَئِه .