البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَمَا نُرِيهِم مِّنۡ ءَايَةٍ إِلَّا هِيَ أَكۡبَرُ مِنۡ أُخۡتِهَاۖ وَأَخَذۡنَٰهُم بِٱلۡعَذَابِ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ} (48)

{ وما نريهم من آية إلا هي أكر من أختها } ، قال الزمخشري : فإن قلت : إذا جاءتهم آية واحدة من جملة التسع ، فما أختها التي فضلت عليها في الكبر من بقية الآيات ؟ قلت : أختها التي هي آية مثلها ، وهذه صفة كل واحدة منهما ، فكان المعنى على أنها أكبر من بقية الآيات .

قلت : أختها التي هي آية مثلها على سبيل التفضيل والاستقراء ، واحدة بعد واحدة ، كما تقول : هو أفضل رجل رأيته ، تريد تفضيله على أمة الرجال الذين رأيتهم إذا قدرتهم رجلاً .

فإن قلت : فهو كلام متناقض ، لأن معناه : ما من آية من التسع إلا وهي أكبر من كل واحدة منها ، فتكون كل واحدة منها فاضلة ومفضولة في حالة واحدة ، قلت : الغرض بهذا الكلام أنهن موصوفات بالكبر ، لا يكدن يتفاوتن فيه ، وكذلك العادة في الأشياء التي تتلاقى في الفضل وتتقارب منازلهم فيه التقارب اليسير ، إن تختلف آراء الناس في تفضيلها فيفضل بعضهم هذا وبعضهم ذاك ، فعلى هذا بنى الناس كلامهم فقالوا : رأيت رجالاً بعضهم أفضل من بعض ، وربما اختلفت آراء الرجال الواحد فيها ، فتارة يفضل هذا ، وتارة يفضل ذاك ، ومنه بيت الحماسة :

من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم *** مثل النجوم التي يسري بها الساري

وقد فاضلت الأنمارية بين الكملة من بنيها ثم قالت : لما أبصرت مراتبهم متدانية قليلة التفاوت ، ثكلتهم إن كنت أعلم أيهم أفضل ، هم كالحلقة المفرغة ، لا يدري أين طرفاها .

انتهى ، وهو كلام طويل ، ملخصه : أن الوصف بالأكبرية مجاز ، وأن ذلك بالنسبة إلى الناظرين فيها .

وقال ابن عطية : عبارة عن شدة موقعها في نفوسهم بحدة أمرها وحدوثه ، وذلك أن آية عرضها موسى ، هي العصا واليد ، وكانت أكبر آياته ، ثم كل آية بعد ذلك كانت تقع فيعظم عندها مجيئها وتكبر ، لأنهم كانوا نسوا التي قبلها ، فهذا كما قال الشاعر :

على أنها تعفو الكلوم وإنما *** يوكل بالأدنى وإن جل ما يمضي

وذهب الطبري إلى أن الآيات هنا الحجج والبينات . انتهى .

وقيل : كانت من كبار الآيات ، وكانت كل واحدة أكبر من التي قبلها ؛ فعلى هذا يكون ثم صفة محذوفة ، أي من أختها السابقة عليها ، ولا يبقى في الكلام تعارض ، ولا يكون ذلك الحكم في الآية الأولى ، لأنه لم يسبقها شيء ، فتكون أكبر منه .

وقيل : الأولى تقتضي علماً ، والثانية تقتضي علماً منضماً إلى علم الأولى ، فيزداد الرجوح .

وكنى بأختها : مناسبتها ، تقول : هذه الذرة أخت هذه ، أي مناسبتها .

{ وأخذناهم بالعذاب } : { بالسنين ونقص من الثمرات } و { الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم } وذلك عقاب لهم ، وآيات لموسى { لعلهم يرجعون } عن كفرهم .

قال الزمخشري : لعلهم يرجعون ، أراد أن يرجعوا عن الكفر إلى الإيمان .

فإن قلت : لو أراد رجوعهم لكان .

قلت : إرادته فعل غيره ، ليس إلا أن يأمره به ويطلب منه إيجاده ، فإن كان ذلك على سبيل القسر وجد ، والإداريين أن يوجد وبين أن لا يوجد على اختيار المكلف ، وإنما لم يكن الرجوع ، لأن الإرادة لم تكن قسراً ولم يختاروه .

انتهى ، وهو على طريق الاعتزال .

وقال ابن عطية : لعلهم ، ترجّ بحسب معتقد البشر وظنهم .