{ وقالوا } لهم : { لا تذرن آلهتكم } أي : عبادتها ، { ولا تذرن وداً } قرأ أهل المدينة بضم الواو والباقون بفتحها ، { ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً } هذه أسماء آلهتهم . قال محمد بن كعب : هذه أسماء قوم صالحين كانوا بين آدم ونوح ، فلما ماتوا كان لهم أتباع يقتدرون بهم ويأخذون بعدهم بأخذهم في العبادة فجاءهم إبليس وقال لهم : لو صورتم صورهم كان أنشط لكم وأشوق إلى العبادة ، ففعلوا ثم نشأ قوم بعدهم فقال لهم إبليس : إن الذين من قبلكم كانوا يعبدونهم فعبدوهم ، فابتداء عبادة الأوثان كان من ذلك . وسميت تلك الصور بهذه الأسماء لأنهم صوروها على صور أولئك القوم من المسلمين . أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا إبراهيم بن موسى ، حدثنا هشام عن ابن جريج وقال عطاء عن ابن عباس : صارت الأوثان التي كانت تعبد في قوم نوح في العرب بعد ، أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل ، وأما سواع فكانت لهذيل ، وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ ، وأما يعوق فكانت لهمدان ، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع ، وهذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح ، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم : أن انصبوا في مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً وسموها بأسمائهم ، ففعلوا فلم تعبد ، حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت . وروي عن ابن عباس : أن تلك الأوثان دفنها الطوفان وطمها التراب ، فلم تزل مدفونة حتى أخرجها الشيطان لمشركي العرب ، وكانت للعرب أصنام أخر ، فاللات كانت لثقيف ، والعزى لسليم وغطفان وجشم ، ومناة لقديد ، وأساف ونائلة وهبل لأهل مكة .
{ وَقَالُوا } لهم داعين إلى الشرك مزينين له : { لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ } فدعوهم إلى التعصب على ما هم عليه من الشرك ، وأن لا يدعوا ما عليه آباؤهم الأقدمون ، ثم عينوا آلهتهم فقالوا : { وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } وهذه أسماء رجال صالحين لما ماتوا زين الشيطان لقومهم أن يصوروا صورهم لينشطوا -بزعمهم- على الطاعة إذا رأوها ، ثم طال الأمد ، وجاء غير أولئك فقال لهم الشيطان : إن أسلافكم يعبدونهم ، ويتوسلون بهم ، وبهم يسقون المطر ، فعبدوهم ، ولهذا أوصى رؤساؤهم للتابعين لهم أن لا يدعوا عبادة هذه الآلهة{[1241]} .
وكان من مكرهم تحريض الناس على الاستمساك بالأصنام التي يسمونها آلهة : ( وقالوا : لا تذرن آلهتكم ) . . بهذه الإضافة : ( آلهتكم )لإثارة النخوة الكاذبة والحمية الآثمة في قلوبهم . وخصصوا من هذه الأصنام أكبرها شأنا فخصوها بالذكر ليهيج ذكرها في قلوب العامة المضللين الحمية والاعتزاز . . ( ولا تذرن ودا ، ولا سواعا ، ولا يغوث ، ويعوق ، ونسرا ) . . وهي أكبر آلهتهم التي ظلت تعبد في الجاهليات بعدهم إلى عهد الرسالة المحمدية .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وقالوا} وقولهم العظيم أنهم قالوا للضعفاء: {لا تذرن} عبادة {آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا} تذرن عبادة {يغوث و} لا تذرن عبادة {ويعوق و} لا تذرن عبادة {ونسرا} فهذه أسماء الآلهة.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره مخبرا عن إخبار نوح، عن قومه:"وَقالُوا لا تَذَرُنّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنّ وُدّا وَلا سُوَاعا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرا". كان هؤلاء نفرا من بني آدم فيما ذُكر عن آلهة القوم التي كانوا يعبدونها. وكان من خبرهم فيما بلغنا عن محمد بن قيس قال: كانوا قوما صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صوّرناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوّروهم، فلما ماتوا، وجاء آخرون دبّ إليهم إبليس، فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يُسقون المطر فعبدوهم.
وقال آخرون: هذه أسماء أصنام قوم نوح، ثم اتخذها العرب بعد ذلك.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
هذه المقالة منهم كانت بعد أن انقادت لهم الأتباع، واتبعتهم إلى ما دعوهم إليه من الأصنام، فقالوا بعد ذلك: {لا تذرن آلهتكم} أي لا تذرن عبادتها.
وقوله تعالى: {ولا تذرنّ ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا} هي أسماء الأصنام التي كانوا يعبدونها.
ويحتمل أن يكون الذي بعثهم على ذلك، هو أنهم لم يروا أنفسهم تصلح لعبادة رب العالمين، كما يرى هؤلاء الذين يخدمون الأجلة في الشاهد؛ لا يطمع كل واحد منهم في خدمة الملوك، ولا يرى نفسه أهلا لخدمتهم، بل يشتغل بخدمة من دونهم أولا على رجاء أن يقربه إلى الملك، فكذلك هؤلاء حسبوا أنهم لا يصلحون لخدمة رب العالمين، فكانوا إذا رأوا شيئا حسنا كانوا يظنون أن حسنه لمنزلة له عند الله، فكانوا يقبلون على عبادته رجاء أن يقربهم إلى الله، فجعلوا الأصنام على أحسن ما قدروا عليه، ثم اشتغلوا بخدمتها وعبادتها رجاء أن تقربهم إلى الله تعالى. قال عز وجل حكاية عنهم: {والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} [الزمر: 3] وقال: {ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله} [يونس: 18]. فجائز أن يكون هذا الحسبان، هو الذي حملهم على عبادتها وتعظيم شأنها، والله أعلم أي ذلك كان؟.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً} كأن هذه المسميات كانت أكبر أصنامهم وأعظمها عندهم، فخصوها بعد قولهم {لاَ تَذَرُنَّ ءَالِهَتَكُمْ}.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
وهذه أسماء أصنامهم التي كانوا يعبدونها من دون الله. قال البخاري: حدثنا إبراهيم، حدثنا هشام، عن ابن جريج، وقال عطاء، عن ابن عباس: صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد: أما وَد: فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع: فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد، ثم لبني غُطَيف بالجُرُف عند سبأ، أما يعوقُ: فكانت لهَمْدان، وأما نسر: فكانت لحمير لآل ذي كَلاع، وهي أسماء رجال صالحين من قوم نوح، عليه السلام، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم. ففعلوا، فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك وتَنَسَّخَ العلم عُبِدت
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان دعاء الرسل عليهم الصلاة والسلام جديراً بالقبول لما لهم من الجلالة والحلاوة والبيان والرونق والظهور في الفلاح، أكدوا قولهم: {لا تذرن آلهتكم} أي لا تتركنها على حالة من الحالات لا قبيحة ولا حسنة، وأضافوها إليهم تحسباً فيها، ثم خصوا بالتسمية زيادة في الحث وتصريحاً بالمقصود فقالوا مكررين النهي والعامل تأكيداً: {ولا تذرن} ولعلهم كانوا يوافقون العرب في أن الود هو الحب الكثير، فناسب المقام بذاتهم بقوله: {وداً} وأعادوا النافي تأكيداً فقالوا: {ولا سواعاً} وأكدوا هذا التأكيد وأبلغوا فيه فقالوا: {ولا يغوث} ولما بلغ التأكيد نهاية وعلم أن المقصود النهي عن كل فرد فرد لا عن المجموع بقيد الجمع أعروا فقالوا: {ويعوق ونسراً *} معرى عن التأكيد للعلم بإرادته... وكانت عبادة هؤلاء أول عبادة الأوثان، فأرسل الله سبحانه وتعالى نوحاً عليه الصلاة والسلام للنهي عن ذلك إلى أن كان من أمره وأمر قومه ما هو معلوم، ثم أخرج إبليس هذه الأصنام بعد الطوفان فوصل شرها إلى العرب.