فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَقَالُواْ لَا تَذَرُنَّ ءَالِهَتَكُمۡ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّٗا وَلَا سُوَاعٗا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسۡرٗا} (23)

{ وقالوا لا تذرن آلهتكم } أي لا تتركوا عبادة آلهتكم وهي الأصنام والصور التي كانت لهم ثم عبدتها العرب من بعدهم ، وبهذا قال الجمهور { ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا } أي لا تتركوا عبادة هذه الأوثان .

قال محمد بن كعب : هذه أسماء قوم صالحين كانوا بين آدم ونوح ، فنشأ بعدهم قوم يقتدون بهم في العبادة . فقال لهم إبليس لو صورتم صورهم كان أنشط لكم وأشوق إلى العبادة ففعلوا ، ثم نشأ قوم من بعدهم فقال لهم إبليس إن الذين من قبلكم كانوا يعبدونهم فاعبدوهم ، فابتداء عبادة الأوثان كان من ذلك الوقت ، وسميت هذه الصور بهذه الأسماء لأنهم صوروها على صور أولئك القوم .

وقال عروة بن الزبير وغيره إن هذه كانت أسماء أولاد آدم وكان ود أكبرهم ، وكانوا عبادا فمات رجل منهم فحزنوا عليه ، فقال الشيطان أنا أصور لكم مثله إذا نظرتم إليه ذكرتموه ، قالوا افعل فصوره في المسجد من صفر ورصاص ، ثم مات آخر فصوره حتى ماتوا كلهم وصورهم ، فلما تقدم الزمان تركت الناس عبادة الله فقال لهم الشيطان ما لكم لا تعبدون شيئا قالوا وما نعبد ، قال آلهتكم وآلهة أبائكم ، ألا ترون أنها في مصلاكم فعبدوها من دون الله حتى بعث الله نوحا عليه السلام فقالوا { لا تذرن آلهتكم } الآية .

قال الماوردي : فأما ود فهو أول صنم معبود سمي ودا لودهم له وكان بعد قوم نوح لكلب بدومة الجندل ، في قول ابن عباس وعطاء ومقاتل ، وفيه يقول شاعرهم :

حياك ود فإنا لا يحل لنا لهو النساء وإن الدين قد غربا

وأما سواع فكان لهذيل بساحل البحر ، وأما يغوث فكان لغطيف من مراد بالجرف من سبأ في قول قتادة ، وقال المهدوي : لمراد ثم لغطفان ، وأما يعوق فكان لهمدان في قول قتادة وعكرمة وعطاء ، وقال الثعلبي : كان لكهلان بن سبأ ثم توارثوه حتى صار في همدان وفيه يقول مالك بن نمط الهمداني .

يريش الله في الدنيا ويبري ولا يبري يعوق ولا يريش

وأما نسر فكان بذي الكلاع من حمير في قول قتادة ومقاتل ، قال ابن عباس هذه الأصنام كانت تعبد في زمن نوح ، قال الواقدي كان ود على صورة رجل ، وسواع على صورة امرأة ، ويغوث على صورة أسد ، ويعوق على صورة فرس ، ونسر على صورة النسر الطائر .

قال البقاعي : ولا يعارض هذا أنهم صور لناس صالحين لأن تصويرهم لهم يمكن أن يكون منتزعا من معانيهم ، فكان ود كاملا في الرجولية ، وكان سواع امرأة كاملة في العبادة ، وكان يغوث شجاعا وكان يعوق سابقا قويا وكان نسر عظيما طويل العمر ، ومثله في القرطبي .

وأخرج البخاري وابن المنذر ، وابن مردويه عن ابن عباس قال : " صارت الأوثان التي كانت تعبد في قوم نوح في العرب . أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل ، وأما سواع فكانت لهذيل وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبنى غطيف ، وأما يعوق فكانت لهمدان ، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع ، أسماء رجال صالحين من قوم نوح ، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن أنصبوا إلى مجلسهم الذي كانوا يجلسون فيه أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى هلك أولئك ونسخ العلم فعبدت " .

وفي الصحيحين من حديث عائشة أن أم حبيبة وأم سلمة " ذكرتا لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأيتاها بأرض الحبشة تسمى مارية فيها تصاوير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن أولئك كان إذا مات الرجل الصالح منهم بنوا على قبره مسجدا ثم صوروا فيه تلك الصور ، وأولئك شر الخلق عند الله يوم القيامة " قرأ الجمهور ودا بفتح الواو ، وقرئ بضمها ، قال الليث : ود بضم الواو صنم لقريش ، وبفتحها صنم كان لقوم نوح وبه سمي عمرو بن ود قال في الصحاح : والود بالفتح الوتد في لغة أهل نجد كأنهم سكنوا التاء وأدغموها في الدال ، وقرأ الجمهور يغوث ويعوق بغير تنوين ، فإن كانا عربيين فالمنع من الرصف للعلمية ووزن الفعل ، وإن كانا أعجميين فللعجمة والعلمية ، وقرئ يغوثا ويعوقا بالنصب مصروفين لأمرين ( أحدهما ) أنه صرفهما للتناسب إذ قبلها اسمان منصرفان وبعدهما اسم منصرف كما صرف سلاسل ( والثاني ) أنه جاء على لغة من يصرف غير المنصرف مطلقا ، وهي لغة حكاها الكسائي ذكره السمين . وقال ابن عطية وذلك وهم ، ووجه تخصيص هذه الأصنام بالذكر مع دخولها تحت الآلهة أنها كانت أكبر أصنامهم وأعظمها ، ولم يذكر النفي مع يعوق ونسرا لكثرة التكرار وعدم اللبس .