{ وَقَالُواْ } للإتباع : { لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ } ، وإنَّما جمع الضمير حملاً على المعنى ، بعد حملها على لفظها في { لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ } ، يجوز أن يكون مستأنفاً إخباراً عن الكفار .
قوله «كُبَّاراً » ، العامة : على ضم الكاف وتشديد الباء ، وهو بناء مبالغة أبلغ من «كُبَار » بالضم والتخفيف .
قال عيسى : وهي لغةٌ يمانية ؛ وأنشد : [ الكامل ]
4883 - والمَرْءُ يُلحِقُهُ بِفِتْيانِ النَّدى***خُلقُ الكَريمِ وليْسَ بالوُضَّاءِ{[58022]}
4884 - بَيْضَاءُ تَصْطادُ الغَوِيَّ وتَسْتَبِي*** بالحُسْنِ قَلْبَ المُسْلِمِ القُرَّاءِ{[58023]}
ويقال : رجل طُوَّال ، وجميل ، وحُسَّان ، وعظيم ، وعُظَّام .
وقرأ ابن عيسى وابن محيصن وأبو السمال{[58024]} وحميد ومجاهد : بالضم والتخفيف ، وهو بناء مبالغة أيضاً دون الأول .
وقرأ زيد بن علي وابن محيصن أيضاً : بكسر الكاف{[58025]} وتخفيف الباء .
قال أبو بكر : هو جمع كبير ، كأنه جعل «مَكْراً » ، مكان «ذُنُوب » ، أو «أفاعيل » يعني فلذلك وصفه بالجمع .
فصل في المقصود بالمكر في الآية
قيل مكرهم : هو تحريشهم سفلتهم على قتل نوح .
وقيل : هو تعزيزهم الناس بما أوتوا من الدنيا ، والولد ، حتى قالت الضعفة : لولا أنهم على الحق لما أوتوا هذه النِّعمَ .
وقال الكلبيُّ : هو ما جعلوه لله من الصاحبة والولد{[58026]} ، وهذا بعيد ، لأن هذا إنما قاله النصارى وهم بعد قوم نوح عليه السلام بأزمان متطاولة .
وقال مقاتل : هو قول كبرائهم لأتباعهم : { لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً } ، فمنعوا القوم عن التوحيد وأمروهم بالشرك{[58027]} ، واعلم أنه لما كان التوحيد أعظم المراتب ، لا جرم كان المنعُ منه أعظم الكبائر ، فلهذا وصفه اللَّهُ تعالى بأنه كبار .
قال ابن الخطيب{[58028]} : وإنَّما سماه مكراً لوجهين :
الأول : لما في إضافة الآلهة إليهم من الحيل الموجبة ، لاستمرارهم على عبادتها ؛ لأنها معبود آبائهم ، فلو قبلتم قول نوحٍ لاعترفتم على أنفسكم بأنكم كنتم جاهلين ضالين ، وعلى آبائكم بأنهم كانوا كذلك ، ولما كان اعتراف الإنسانِ على نفسه وعلى أسلافه بالقصور والنقص والجهل بهذه الكلمة وهي لفظة «آلهتكم » وصدفكم عن الدين ؛ فلهذه الحجة الخفية سمّى الله كلامهم مكراً .
الثاني : أنه تعالى حكى عن المتبوعين أنهم كان لهم مال وولد ، فلعلهم قالوا لأتباعهم : إن آلهتكم خير من إله نوح ؛ لأن آلهتكم يعطونكم المال والولد ، وإله نوح [ لا يعطيه شيئاً لأنه فقير ] فصرفوهم بهذا المكر عن طاعة نوح ، وهو مثل مكر فرعون إذ قال : { أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ }[ الزخرف : 51 ] ، وقوله { أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هذا الذي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ }[ الزخرف : 52 ، 53 ] .
قوله : { وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً }[ نوح : 23 ] يجوز أن يكون من عطف الخاص على العام ، إن قيل : إن هذه الأسماء لأصنام ، وألا يكون إن قيل : إنها أسماء رجال صالحين على ما ذكر المفسِّرون .
وقرأ نافع{[58029]} : «وُدّاً » بضم الواو ، والباقون : بفتحها .
وأنشد بالوجهين قول الشاعر : [ البسيط ]
4885 - حَيَّاكَ وُدٌّ فإنَّا لاَ يَحِلُّ لَنَا***لَهْوُ النِّساءِ ، وإنَّ الدِّينَ قَدْ عَزَمَا{[58030]}
4886 - فَحيَّاكَ وُدُّ مَنْ هداكَ لعِسِّهِ*** وخُوص بأعْلَى ذِي فَضالة هجِّه{[58031]}
قال القرطبي{[58032]} : قال الليث : «وَدٌّ » - بفتح الواو - صنم كان لقوم نوح ، و «وُدّ » - بالضم - صنم لقريش ، وبه سمي عمرو بن عبد ود .
وفي الصحاح{[58033]} : «والوَدُّ » بالفتح : الوتد في لغة أهل نجد ، كأنهم سكنوا التاء وأدغموها في الدال . والود في قول امرئ القيس : [ الرمل ]
4887 - تُظْهِرُ الوَدَّ إذَا مَا أشْجَذتْ***وتُواريهِ إذَا ما تَشْتَكِرْ{[58034]}
و«ود » : صنم كان لقوم نوح - عليه الصلاة والسلام - ثم صار لكلب ، وكان بدومةِ الجَندلِ ، ومنه سموا بعبد ودّ .
قوله : { وَلاَ يَغُوثُ وَيَعُوقَ } . قرأهما العامة بغير تنوين ، فإن كانا عربيين : فالمنع من الصرف للعلمية والوزن ، وإن كانا أعجميين : فالعجمة والعلمية .
وقرأ الأعمش{[58035]} : «ولا يغوثاً ويعوقاً » مصروفين .
قال ابن عطية : «وذلك وهم ، لأن التعريف لازم ووزن الفعل » . انتهى .
قال شهاب الدين{[58036]} : وليس بوهم لأمرين :
أحدهما : أنه صرفهما للتناسب إذ قبلهما اسمان مصروفان وبعده اسم مصروف كما صرف «سَلاسِل » .
والثاني : أنه جاء على لغة من يصرف غير المنصرف مطلقاً ، وهي لغة حكاها الكسائي ، ونقل أبو الفضل : الصرف فيهما عن الأشهب العقيلي ، ثم قال : جعلهما «فعولاً » ، فلذلك صرفهما ، فأما في العامة : فإنهما صفتان من الغوثِ والعوقِ .
قال شهاب الدين{[58037]} : «وهذا كلامٌ مشكلٌ ، أما قوله : " فعولاً " فليس بصحيح ، إذ مادة يغث ويعق مفقودة ، وأما قوله : صفتان من الغوث والعوق ، فليس في الصفات ولا في الأسماء " يفعل " والصحيح ما قدمته » .
وقال الزمخشريُّ : وهذه قراءة مشكلة لأنهما إن كانا عربيين أو أعجميين ، ففيهما المنع من الصرف ، ولعله وجد الازدواج ، فصرفهما لمصادفته أخواتهما منصرفات : ودّاً وسواعاً ونسراً ، كما قرئ { وَضُحَاهَا }[ الشمس : 1 ] بالإمالة لوقوعه مع الممالات للازدواجِ .
قال أبو حيَّان{[58038]} : كأنه لم يطلع على أن صرف ما لا ينصرف لغة .
قال ابن عبَّاس وغيره : وهي أصنامٌ ، وصور كان قوم نوحٍ يعبدونها ، ثم عبدتها العربُ{[58039]} ، وهذا قول الجمهورِ .
وقيل : إنَّها للعربِ لم يعبدها غيرهم ، وكانت أكبر أصنامهم وأعظمها عندهم ، فلذلك خصُّوا بالذكر بعد قوله : { لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً } .
وقال عروة بن الزبير : اشتكى آدمُ - عليه الصلاة والسلام - وعند بنوه : ود ، وسواع ، ويغوث ، ويعوق ، ونسر ، وكان ود أكبرهم ، وأبرّهم به{[58040]} .
قال محمد بن كعب ، كان لآدمَ خمس بنينَ : ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر ، وكانوا عُبَّاداً ، فمات رجل منهم فحزنوا عليه ، فقال الشيطان : أنا أصور لكم مثله ، إذا نظرتم إليه ذكرتموه ، قالوا : افعل ، فصوّره في المسجدِ ، من صفر ورصاصٍ ، ثم مات آخرُ ، فصوره حتى ماتوا كلُّهم ، وصوروهم وتناقصت الأشياءِ كما ينقص اليوم إلى أن تركوا عبادة الله تعالى بعد حين ، فقال لهم الشيطان : ما لكم لا تعبدون شيئاً ؟ .
قال آلهتكم وآلهة آبائكم ، ألا ترونها في مصلاكم ؟ فعبدوها من دون الله ، حتى بعث الله نوحاً ، فقالوا : { لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً } الآية{[58041]} .
وقال محمد بن كعبٍ أيضاً ومحمد بن قيس : بل كانوا قوماً صالحين ، بين آدم ونوح وكان لهم أتباع يقتدون بهم فلما ماتوا زيَّن لهم إبليس أن يصوروا صورهم ؛ ليتذكروا بها اجتهادهم ، وليتسلوا بالنظر إليها فصوّروهم ، فلما ماتوا هم وجاء آخرون قالوا : ليت شعرنا ، وما هذه الصورُ التي كان يعبدها آباؤنا ؟ فجاءهم الشيطان فقال : كان آباؤكم يعبدونها فترحمهم وتسقيهم المطر ، فعبدوها فابتدئ عبادة الأوثان من ذلك الوقت{[58042]} .
وبهذا المعنى فسر ما جاء في الصحيحين من حديث عائشةَ : «أنّ أم حبيبةَ وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بأرض الحبشة ، تسمى مارية فيها تصاوير لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ أولئِكَ كَانَ إذَا مَاتَ فيهِم الرَّجلُ الصَّالحُ ، بَنَوا على قَبْرهِ مَسْجداً ، ثُمَّ صوَّرُوا فِيْهِ تِلكَ الصُّورَ أولئك شِرارُ الخَلقِ عند اللَّهِ يَوْمَ القِيَامةِ " {[58043]} .
وذكر الثعلبيُّ عن ابن عباس قال : هذه الأصنام أسماء رجال صالحين ، من قوم نوح فلمَّا هلكوا أوحى الشيطانُ إلى قومهم أن ينصبوا في مجالسهم أنصاباً ، ويسمونها بأسمائهم{[58044]} .
وهذا بعيدٌ ، لأن نوحاً - عليه الصلاة والسلام - هو الآمرُ لهم بتركها وذلك يدل على أنَّهم كانوا قبل نوحٍ ، حتى أرسلَ نوحٌ إليهم .
وروي عن ابن عباس : أنَّ نوحاً - عليه الصلاة والسلام - كان يحرس جسد آدمَ - عليه الصلاة والسلام - على جبل الهند فيمنع الكافرينَ أن يطوفوا بقبره ، فقال لهم الشيطانُ : إن هؤلاء ، يفخرون عليكم ويزعمون أنهم بنو آدم دونكم ، وإنما هو جسد ، وأنا أصوّر لكم مثله تطوفون به ، فصوَّر لهم هذه الأصنام الخمسة ، وحملهم على عبادتها ، فلمَّا كان أيام الطوفانِ دفنها الطين ، والتراب ، والماء ، فلم تزل مدفونة ، حتى أخرجها الشيطانُ لمشركي العرب وكانت للعربِ أصنام أخر ، فاللات كانت لقديد ، وأساف ونائلة وهبل ، لأهل مكة{[58045]} .
قال الماورديُّ : فما " ود " فهو أول صنم معبود سمي " ودّاً " لودهم له ، وكان بعد قوم نوح لكلب بدومةِ الجندلِ ، على قول ابن عباس وعطاء ومقاتل ؛ وفيه يقول شاعرهم : [ البسيط ]
4888 - حَيَّاكَ وُدٌّ فإنَّا لا يحلُّ لَنَا***لَهْوُ النِّساءِ وإنَّ الدِّينَ قَدْ عَزَمَا{[58046]}
وأما " سُواع " فكان لهذيل بساحل البحر في قولهم .
وقال ابن الخطيب{[58047]} : " وسُواع لهمدَان " .
وأما " يَغُوثُ " فكان لقطيف من مراد بالجوف من سبأ ، في قول قتادة .
وقال المهدويُّ : لمراد ثم لغطفان .
وقال الثعلبيُّ : واتخذت - أعلى وأنعم - وهما من طيىء ، وأهل جرش من مذحج يغوث ، فذهبوا به إلى مراد ، فعبدوه زماناً ، ثُمَّ بَنِي ناجية ، أرادوا نزعه من " أنعم " ففروا به إلى الحصين أخي بني الحارث بن كعب بن خزاعة .
وقال أبو عثمان المهدويُّ : رأيت " يغُوث " وكان من رصاص ، وكانوا يحملونه على جمل أجرد ، ويسيرون معه ولا يهيجونه ، حتى يبرك بنفسه ، فإذا برك نزلوا ، وقالوا : قد رضي لكم المنزل فيه فيضربون عليه بناء ، وينزلون حوله .
وأما " يعوق " فكان لهمدان ببلخ ، في قول عكرمة وقتادة وعطاء ، ذكره الماورديُّ .
وقال الثعلبيُّ : وأما " يعوق " فكان لكهلان من سبأ ، ثم توارثه بنوه الأكبر فالأكبر ، حتى صار في الهمداني .
وفيه يقول غط الهمداني : [ الوافر ]
4889 - يَرِيشُ اللَّهُ في الدُّنيَا ويَبْرِي***ولا يَبْرِي يعُوقُ ولا يَرِيشُ{[58048]}
وقيل : كان «يَعُوق » لمراد ؛ وأما «نَسْر » ، فكان لذي الكلاع من حمير ، في قول قتادة ومقاتل .
وقال الواقدي : كان «ودّ » على صورة رجلٍ ، و «سُواع » على صورة امرأة ، و «يَغُوث » على صورة أسد ، و «يعوق » على سورة فرس ، و «نَسْر » على سورة نسر من الطير ، والله أعلم .