قوله تعالى : { وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس } ، قرأ حمزة و الكسائي و حفص بالقسطاس بكسر القاف والباقون بضمه ، وهما لغتان وهو الميزان صغر أو كبر أي : بميزان العدل . وقال الحسن : هو القبان . قال مجاهد : هو رومي . وقال غيره : هو عربي مأخوذ من القسط وهو العدل ، أي : زنوا بالعدل . { المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلاً } أي : عاقبةً .
{ 35 } { وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا }
وهذا أمر بالعدل وإيفاء المكاييل والموازين بالقسط من غير بخس ولا نقص .
ويؤخذ من عموم المعنى النهي عن كل غش في ثمن أو مثمن أو معقود عليه والأمر بالنصح والصدق في المعاملة .
{ ذَلِكَ خَيْرٌ } من عدمه { وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } أي : أحسن عاقبة به يسلم العبد من التبعات وبه تنزل البركة .
ومن الوفاء بالعهد إلى إيفاء الكيل والميزان :
( وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم . ذلك خير وأحسن تأويلا ) . .
والمناسبة بين الوفاء بالعهد وإيفاء الكيل والميزان ظاهرة في المعنى واللفظ ، فالانتقال في السياق ملحوظ التناسق .
وإيفاء الكيل والاستقامة في الوزن ، أمانة في التعامل ، ونظافة في القلب ، يستقيم بهما التعامل في الجماعة ، وتتوافر بهما الثقة في النفوس ، وتتم بهما البركة في الحياة . ( ذلك خير و أحسن تأويلا ) . . خير في الدنيا وأحسن مآلا في الآخرة .
والرسول [ ص ] يقول : " لا يقدر رجل على حرام ثم يدعه ، ليس به إلا مخافة الله ، إلا أبدله الله به في عاجل الدنيا قبل الآخرة ما هو خير من ذلك " .
والطمع في الكيل والوزن قذارة وصغار في النفس ، وغش وخيانة في التعامل تتزعزع بهما الثقة ، ويتبعها الكساد ، وتقل بهما البركة في محيط الجماعة ، فيرتد هذا على الأفراد ؛ وهم يحسبون أنهم كاسبون بالتطفيف .
وهو كسب ظاهري ووقتي ، لأن الكساد في الجماعة يعود على الأفراد بعد حين .
وهذه حقيقة أدركها بعيدو النظر في عالم التجارة فاتبعوها ، ولم يكن الدافع الأخلاقي ، أو الحافز الديني هو الباعث عليها ؛ بل مجرد إدراكها في واقع السوق بالتجربة العملية .
والفارق بين من يلتزم إيفاء الكيل والميزان تجارة ، ومن يلتزمه اعتقادا . . أن هذا يحقق أهداف ذاك ؛ ويزيد عليه نظافة القلب والتطلع في نشاطه العملي إلى آفاق أعلى من الأرض ، وأوسع في تصور الحياة وتذوقها .
وهكذا يحقق الإسلام دائما أهداف الحياة العملية وهو ماض في طريقه إلى آفاقه الوضيئة وآماده البعيدة ، ومجالاته الرحيبة .
القول في تأويل قوله تعالى { وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } .
يقول تعالى ذكره : وَ قضى أن أوْفُوا الكَيْلَ للناس إذَا كِلْتُمْ لهم حقوقهم قِبَلَكم ، ولا تبخَسُوهم وَزِنُوا بالقِسْطاسِ المُسْتَقِيمِ يقول : وقَضَى أو زنوا أيضا إذا وزنتم لهم بالميزان المستقيم ، وهو العدل الذي لا اعوجاج فيه ، ولا دَغَل ، ولا خديعة . وقد اختلف أهل التأويل في معنى القسطاس ، فقال بعضهم : هو القبان . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا صفوان بن عيسى ، قال : حدثنا الحسن بن ذكوان ، عن الحسن : وَزِنُوا بالقِسْطاسِ المُسْتَقِيمِ قال : القَبّان .
وقال آخرون : هو العدل بالرومية . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ بن سهل ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : القِسطاس : العدل بالرومية . وقال آخرون : هو الميزان صغر أو كبر وفيه لغتان : القِسطاس بكسر القاف ، والقُسطاس بضمها ، مثل القِرطاس والقُرطاس وبالكسر يقرأ عامّة قرّاء أهل الكوفة ، وبالضمّ يقرأ عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة ، وقد قرأ به أيضا بعض قرّاء الكوفيين ، وبأيتهما قرأ القارىء فمصيب ، لأنهما لغتان مشهورتان ، وقراءتان مستفيضتان في قرّاء الأمصار .
وقوله : ذلكَ خَيْرٌ يقول : إيفاؤكم أيها الناس من تكيلون له الكيل ، ووزنكم بالعدل لمن توفون له خَيْرٌ لَكُمْ من بخسكم إياهم ذلك ، وظلمكموهم فيه . وقوله : وأحْسَنُ تأْوِيلاً يقول : وأحسن مردودا عليكم وأولى إليه فيه فعلكم ذلك ، لأن الله تبارك وتعالى يرضى بذلك عليكم ، فيُحسن لكم عليه الجزاء . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وأوْفُوا الكَيْلَ كِلْتُمْ وَزِنُوا بالقِسْطاسِ المُسْتَقِيمِ ذلكَ خَيْرٌ وأحْسَنُ تَأْوِيلاً أي خير ثوابا وعاقبة .
وأخبرنا أن ابن عباس كان يقول : يا معشر الموالي ، إنكم وَلِيتم أمرين بهما هلك الناس قبلكم : هذا المِكيال ، وهذا المِيزان . قال : وذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «لا يَقْدِرُ رَجُلٌ على حَرَامٍ ثُمّ يَدَعُهُ ، لَيْسَ بِهِ إلاّ مَخافَةُ اللّهِ ، إلاّ أبْدَلَهُ اللّهُ فِي عاجِلِ الدّنْيا قَبْلَ الاَخِرَةِ ما هُوَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ذلكَ » .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وأحْسَنُ تَأْوِيلاً قال : عاقبة وثوابا .
هذان حكمان هما الثاني عشر والثالث عشر من الوصايا التي قضى الله بها . وتقدم القول في نظيره في سورة الأنعام .
وزيادة الظرف في هذه الآية وهو { إذا كلتم } دون ذكر نظيره في آية الأنعام لما في ( إذا ) من معنى الشرطية فتقتضي تجدد ما تضمنه الأمر في جميع أزمنة حصول مضمون شرط ( إذا ) الظرفية الشرطية للتنبيه على عدم التسامح في شيء من نقص الكيل عند كل مباشرة له . ذلك أن هذا خطاب للمسلمين بخلاف آية الأنعام فإن مضمونها تعريض بالمشركين في سوء شرائعهم وكانت هنا أجدر بالمبالغة في التشريع .
وفعل ( كال ) يدل على أن فاعله مباشرُ الكيل ، فهو الذي يدفع الشيء المكيل ، وهو بمنزلة البائع ، ويقال للذي يقبض الشيء المكيل : مكتال . وهو من أخوات باع وابتاع ، وشرى واشترى ، ورهن وارتهن ، قال تعالى : { الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون } [ المطففين : 2 ، 3 ] .
و القُسطاس بضم القاف في قراءة الجمهور . وقرأه بالكسر حفص ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف . وها لغتان فيه ، وهو اسم للميزان أي آلة الوزن ، واسم للعدل ، قيل : هو معرب من الرومية مركب من كلمتين قسط ، أي عدل ، وطاس وهوَ كفة الميزان . وفي صحيح البخاري } « وقال مجاهد : القُسطاس : العدل بالرومية » . ولعل كلمة قسط اختصار لقسطاس لأن غالب الكلمات الرومية تنتهي بحرف السين . وأصله في الرومية مضموم الحرف الأول وإنما غيَّره العرب بالكسر على وجه الجواز لأنهم لا يتحرون في ضبط الكلمات الأعجمية . ومن أمثالهم « أعجمي فالعَب به ما شئت » .
ومعنى العدل والميزان صالحان هنا ، لكن التي في الأنعام جاء فيها { بالقِسط } فهو العدل لأنها سيقت مساق التذكير للمشركين بما هم عليه من المفاسد فناسب أن يذكروا بالعدل ليعلموا أن ما يفعلونه ظلم . والباء هنالك للملابسة . وهذه الآية جاءت خطاباً للمسلمين فكانت أجدر باللفظ الصالح لمعنى آلة الوزن ، لأن شأن التشريع بيان تحديد العمل مع كونه يومىء إلى معنى العدل على استعمال المشترك في معنييه . فالباء هنا ظاهرة في معنى الاستعانة والآلة ، ومفيدة للملابسة أيضاً .
والمستقيم : السوي ، مشتق من القَوام بفتح القاف وهو اعتدال الذات . يقال : قومته فاستقام . ووصف الميزان به ظاهر . وأما العدل فهو وصف له كاشف لأن العدل كله استقامة .
وجملة { ذلك خير } مستأنفة . والإشارة إلى المذكور وهو الكيل والوزن المستفاد من فعلي { كلتم } و { زنوا } .
و { خير } تفضيل ، أي خير من التطفيف ، أي خير لكم . فضل على التطفيف تفضيلاً لخير الآخرة الحاصل من ثواب الامتثال على خير الدنيا الحاصل من الاستفضال الذي يطففه المطفف ، وهو أيضاً أفضل منه في الدنيا لأن انشراح النفس الحاصل للمرء من الإنصاف في الحق أفضل من الارتياح الحاصل له باستفضال شيء من المال .
والتأويل : تفعيل من الأول ، وهو الرجوع . يقال : أولَه إذا أرجعه ، أي أحسن إرجاعاً ، إذا أرجعه المتأمل إلى مراجعه وعواقبه ، لأن الإنسان عند التأمل يكون كالمنتقل بماهية الشيء في مواقع الأحوال من الصلاح والفساد فإذا كانت الماهية صلاحاً استقر رأي المتأمل على ما فيها من الصلاح ، فكأنه أرجعها بعد التطواف إلى مكانها الصالح بها وهو مقرها ، فأطلق على استقرار الرأي بعد التأمل اسم التأويل على طريقة التمثيل ، وشاع ذلك حتى ساوى الحقيقة .
ومعنى كون ذلك أحسنَ تأويلاً : أن النظر إذا جال في منافع التطفيف في الكيل والوزن وفي مضار الإيفاء فيهما ثم عاد فجال في مضار التطفيف ومنافع الإيفاء استقر وآل إلى أن الإيفاء بهما خير من التطفيف ، لأن التطفيف يعود على المطفف باقتناء جزء قليل من المال ويكسبه الكراهية والذم عند الناس وغضب الله والسحتَ في ماله مع احتقار نفسه في نفسه ، والإيفاء بعكس ذلك يكسبه ميل الناس إليه ورضَى الله عنه ورضاه عن نفسه والبركة في ماله فهو أحسن تأويلاً . وتقدم ذكر التأويل بمعانيه في المقدمة الأولى من مقدمات هذا التفسير .