172- لقد أبحنا للناس كل حلال{[9]} خلقناه لهم في الأرض ، ونهيناهم أن يتبعوا خطوات الشيطان ، فإنْ فعلوا اهتدوا ، وإن أبوا فإنا نخص المؤمنين بهدايتنا ونبيِّن الحلال والحرام ، في أيها الذين آمنوا أبيح لكم أن تأكلوا من لذيذ الطعام الطيب غير الخبيث ، فاشكروا الله على ما أولاكم من نعمة التمكين من الطيبات وإباحتها ، ومن نعمة الطاعة والامتثال لأمره لتتم عبادتكم .
قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات } . من حلالات .
قوله تعالى : { ما رزقناكم } . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو محمد وعبد الرحمن بن أبي شريح ، أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي ، أخبرنا علي بن الجعد ، أخبرنا فضيل بن مرزوق ، عن عدي ابن ثابت ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا الطيب وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال : ( يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً ) ، وقال ( يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ) ، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء : يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام ، وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك ؟ " .
قوله تعالى : { واشكروا لله } . على نعمه .
قوله تعالى : { إن كنتم إياه تعبدون } . ثم بين المحرمات فقال : { إنما حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم } .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
هذا أمر للمؤمنين خاصة ، بعد الأمر العام ، وذلك أنهم هم المنتفعون على الحقيقة بالأوامر والنواهي ، بسبب إيمانهم ، فأمرهم بأكل الطيبات من الرزق ، والشكر لله على إنعامه ، باستعمالها بطاعته ، والتقوي بها على ما يوصل إليه ، فأمرهم بما أمر به المرسلين في قوله { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا }
فالشكر في هذه الآية ، هو العمل الصالح ، وهنا لم يقل " حلالا " لأن المؤمن أباح الله له الطيبات من الرزق خالصة من التبعة ، ولأن إيمانه يحجزه عن تناول ما ليس له .
وقوله { إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } أي : فاشكروه ، فدل على أن من لم يشكر الله ، لم يعبده وحده ، كما أن من شكره ، فقد عبده ، وأتى بما أمر به ، ويدل أيضا على أن أكل الطيب ، سبب للعمل الصالح وقبوله ، والأمر بالشكر ، عقيب النعم ، لأن الشكر يحفظ النعم الموجودة ، ويجلب النعم المفقودة كما أن الكفر ، ينفر النعم المفقودة ويزيل النعم الموجودة .
وهنا يتجه بالحديث - خاصة - إلى الذين آمنوا . يبيح لهم الأكل من طيبات ما رزقهم . ويوجههم إلى شكر المنعم على نعمه . ويبين لهم ما حرم عليهم ، وهو غير الطيبات التي أباحها لهم . ويندد بالذين يجادلونهم في هذه الطيبات والمحرمات من اليهود . وهي عندهم في كتابهم :
( يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ، واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون . إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله . فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه . إن الله غفور رحيم . إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا ، أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ، ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ، ولهم عذاب أليم . أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار ! ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق ، وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد ) . .
إن الله ينادي الذين آمنوا بالصفة التي تربطهم به سبحانه ، وتوحي إليهم أن يتلقوا منه الشرائع ؛ وأن يأخذوا عنه الحلال والحرام . ويذكرهم بما رزقهم فهو وحده الرازق ، ويبيح لهم الطيبات مما رزقهم ؛ فيشعرهم أنه لم يمنع عنهم طيبا من الطيبات ، وأنه إذا حرم عليهم شيئا فلأنه غير طيب ، لا لأنه يريد أن يحرمهم ويضيق عليهم - وهو الذي أفاض عليهم الرزق ابتداء - ويوجههم للشكر إن كانوا يريدون أن يعبدوه وحده بلا شريك . فيوحي إليهم بأن الشكر عبادة وطاعة يرضاها الله من العباد . . كل أولئك في آية واحدة قليلة الكلمات :
( يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون )
القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ للّهِ إِن كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ }
يعني تعالى ذكره بقوله : يا أَيّها الّذِينَ آمَنُوا يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله ، وأقرّوا لله بالعبودية ، وأذعنوا له بالطاعة . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا يقول : صدّقوا .
كُلُوا مِنْ طَيّبات ما رَزَقْناكُمْ يعني : أطْعَموا من حلال الرزق الذي أحللناه لكم ، فطاب لكم بتحليلي إياه لكم مما كنتم تحرّمون أنتم ولم أكن حرّمته عليكم من المطاعم والمشارب . وَاشْكُرُوا للّهِ يقول : وأثنوا على الله بما هو أهله منكم على النعم التي رزقكم وطيبها لكم ، إنْ كُنْتُمْ إيّاهُ تَعْبُدُونَ يقول : إن كنتم منقادين لأمره سامعين مطيعين ، فكلوا مما أباح لكم أكله وحلله وطيبه لكم ، ودعوا في تحريمه خطوات الشيطان .
وقد ذكرنا بعض ما كانوا في جاهليتهم يحرّمونه من المطاعم ، وهو الذي ندبهم إلى أكله ونهاهم عن اعتقاد تحريمه ، إذ كان تحريمهم إياه في الجاهلية طاعة منهم للشيطان واتباعا لأهل الكفر منهم بالله من الاَباء والأسلاف . ثم بين لهم تعالى ذكره ما حرّم عليهم ، وفصل لهم مفسرا .
اعتراض بخطاب المسلمين بالامتنان عليهم بإباحة ما في الأرض من الطيبات ، جَرَّت إليه مناسبة الانتقال ، فقد انتُقل من توبيخ أهل الشرك على أن حَرَّموا ما خلقه الله من الطيبات إلى تحذير المسلمين من مثل ذلك مع بيان ما حُرِّم عليهم من المطعومات ، وقد أعيد مضمون الجملة المتقدمة جملة { يأيها الناس كلوا مما في الأرض } [ البقرة : 168 ] بمضمون جملة { يأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم } ليكون خطاب المسلمين مستقلاً بنفسه ، ولهذا كان الخطاب هنا بيأيها الذين آمنوا ، والكلام على الطيبات تقدم قريباً .
وقوله : { واشكروا لله } معطوف على الأمر بأكل الطيبات الدال على الإباحة والامتنان ، والأمر في { اشكروا } للوجوب لأن شكر المنعم واجب . وتقدم وجه تعدية فعل الشكر بحرف اللام عند قوله تعالى : { واشكروا لي } [ البقرة : 152 ] .
والعدول عن الضمير إلى الاسم الظاهر لأن في الاسم الظاهر إشعاراً بالإلاهية فكأنه يومِىء إلى ألاَّ تشكر الأصنام ؛ لأنها لم تَخلُق شيئاً مما على الأرض باعتراف المشركين أنفسهم فلا تستحق شكراً . وهذا من جعل اللقب ذا مفهوم بالقرينة ؛ إذ الضمير لا يصلح لِذلك إلاّ في مواضع . ولذلك جاء بالشرط فقال : { إن كنتم إياه تعبدون } أي اشكروه على ما رزقكم إن كنتم ممن يتصف بأنه لا يعبد إلاّ الله أي إن كنتم هذا الفريق وهذه سجيتكم ، ومن شأن كان إذا جاءت وخبرها جملة مضارعية أن تدل على الاتصاف بالعنوان لا على الوقوع بالفعل مثل قوله : { إن كنتم للرؤيا تعبرون } [ يوسف : 43 ] أي إن كان هذا العلم من صفاتكم ، والمعنى إن كنتم لا تشركون معه في العبادة غيره فاشكروه وحده . فالمراد بالعبادة هنا الاعتقاد بالإلاهية والخضوع والاعتراف وليس المراد بها الطاعات الشرعية . وجواب الشرط محذوف أغنى عنه ما تقدم من قوله { واشكروا } .