مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقۡنَٰكُمۡ وَٱشۡكُرُواْ لِلَّهِ إِن كُنتُمۡ إِيَّاهُ تَعۡبُدُونَ} (172)

اعلم أن هذه الآية شبيهة بما تقدم من قوله : { كلوا مما في الأرض حلالا طيبا } ثم نقول : إن الله سبحانه وتعالى تكلم من أول السورة إلى ههنا في دلائل التوحيد والنبوة واستقصى في الرد على اليهود والنصارى ، ومن هنا شرع في بيان الأحكام ، اعلم أن في الآية مسائل :

المسألة الأولى : اعلم أن الأكل قد يكون واجبا ، وذلك عند دفع الضرر عن النفس ، وقد يكون مندوبا ، وذلك أن الضيف قد يمتنع من الأكل إذا انفرد وينبسط في ذلك إذا سوعد ، فهذا الأكل مندوب ، وقد يكون مباحا إذا خلا عن هذه العوارض ، والأصل في الشيء أن يكون خاليا عن العوارض ، فلا جرم كان مسمى الأكل مباحا وإذا كان الأمر كذلك كان قوله { كلوا } في هذا الموضع لا يفيد الإيجاب والندب بل الإباحة .

المسألة الثانية : احتج الأصحاب على أن الرزق قد يكون حراما بقوله تعالى : { من طيبات ما رزقناكم } فإن الطيب هو الحلال فلو كان كل رزق حلالا لكان قوله : { من طيبات ما رزقناكم } معناه من محللات ما أحللنا لكم ، فيكون تكرارا وهو خلاف الأصل ، أجابوا عنه بأن الطيب في أصل اللغة عبارة عن المستلذ المستطاب ، ولعل أقواما ظنوا أن التوسع في المطاعم والاستكثار من طيباتها ممنوع منه . فأباح الله تعالى ذلك بقوله : كلوا من لذائذ ما أحللناه لكم فكان تخصيصه بالذكر لهذا المعنى .

المسألة الثالثة : قوله : { وأشكروا لله } أمر : وليس بإباحة فإن قيل : الشكر إما أن يكون بالقلب أو باللسان أو بالجوارح ، أما بالقلب فهو إما العلم بصدور النعمة عن ذلك المنعم ، أو العزم على تعظيمه باللسان وبالجوارح ، أما ذلك العلم فهو من لوازم كمال العقل ، فإن العاقل لا ينسى ذلك فإذا كان ذلك العلم ضروريا فكيف يمكن إيجابه ، وأما العزم على تعظيمه باللسان والجوارح فذلك العزم القلبي مع الإقرار باللسان والعمل بالجوارح ، فإذا بينا أنهما لا يجيبان كان العزم بأن لا يجب أولى ، وأما الشكر باللسان فهو إما أن يقر بالاعتراف له بكونه منعما أو بالثناء عليه فهذا غير واجب بالاتفاق بل هو من باب المندوبات ، وأما الشكر بالجوارح والأعضاء فهو أن يأتي بأفعال دالة على تعظيمه ، وذلك أيضا غير واجب ، وإذا ثبت هذا فنقول : ظهر أنه لا يمكن القول بوجوب الشكر قلنا الذي تلخص في هذا الباب أنه يجب عليه اعتقاد كونه مستحقا للتعظيم وإظهار ذلك باللسان أو بسائر الأفعال إن وجدت هناك تهمة .

أما قوله تعالى : { إن كنتم إياه تعبدون } ففيه مسائل :

المسألة الأولى : في هذه الآية وجوها أحدها : { واشكروا لله } إن كنتم عارفين بالله وبنعمه ، فعبر عن معرفة الله تعالى بعبادته ، إطلاقا لإسم الأثر على المؤثر وثانيها : معناه : إن كنتم تريدون أن تعبدوا الله فاشكروه ، فإن الشكر رأس العبادات وثالثها : { واشكروا لله } الذي رزقكم هذه النعم { إن كنتم إياه تعبدون } أي إن صح أنكم تخصونه بالعبادة وتقرون أنه سبحانه المنعم لا غيره ، عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم :

« يقول الله تعالى : إني والجن والإنس في نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري ، وأزرق ويشكر غيري »

المسألة الثانية : احتج من قال : إن المعلق بلفظ : أن ، لا يكون عدما عند عدم ذلك الشيء بهذه الآية ، فإنه تعالى علق الأمر بالشكر بكلمة { إن } على فعل العبادة ، مع أن من لا يفعل هذه العبادات يجب عليه الشكر أيضا .