قال بعض المفسِّرين : إنَّ الله تبارك وتعالى ذكر من أوَّل السُّورة إلى هنا دلائل للتَّوحيد والنُّبُوَّة ، واستقصى في الرَّدِّ على اليهود والنصارى ، ومن هنا : شرع في بيان الأحكام ، فقال : " كُلُوا " واعلم : أنَّ الأكل قد يكون واجباً ، وذلك عند دفع الضرر عن النَّفس ، وقد يكون مندوباً ، وذلك عند امتناع الضيف من الأكل ، إذا انفرد ، وللبساطة في الأكل ، إذا سوعد ، فهذا الأكل مندوبٌ ، وقد يكون مباحاً ، إذا خلا عن هذه العوارض ، فلا جرم كان مسمَّى الأكل مباحاً ، وإذا كان كذلك ، كان قوله في هذا الموضع " كُلُوا " لا يفيد الإيجاب ، والنَّدب ، [ بل الإباحة ، ومفعول " كُلُوا " محذوفٌ ، أي : " كُلُوا رِزْقَكُمْ حَالَ كَوْنِهِ بَعْضَ طيِّباتِ ما رَزَقْنَاكُمْ " ويجوزُ في رأي الأخفش : أن تكون " مِنْ " زائدةً في المفعول به ، أي : " كُلُوا طيِّبات ما رزَقْنَاكم {[2299]} " .
استدلُّوا على أنَّ الرزق قيد يكون حراماً ؛ بقوله تعالى : " مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ " ؛ فإِنَّ الطَّيِّب هو الحلال ، فلو كان كلُّ رزقٍ حلالاً ؛ لكان قوله : " كُلُوا مِن ]{[2300]} طَيِّبَاتَ مَا رَزَقْنَاكُمْ " معناه : من محلَّلات ما أحللنا لكم ، فيكون تكراراً ، وهو خلاف الأصل ، وأجابوا عنه ؛ بأن الطَّيِّب في أصل اللُّغة : عبارةٌ عن المستلذِّ المستطاب ، فلعلَّ أقواماً ظنُّوا أنَّ التوسُّع في المطاعم ، والاستكثار من طيِّباتها ممنوعٌ منه ، فأباح الله تبارك وتعالى ذلك ؛ لقوله تعالى : " كُلُوا " من لذائذ ما أحللناه لكم ، فكان تخصيصه بالذِّكر لهذا المعنى .
فصل في الوجوه التي وردت عليها كلمة " الطَّيِّب " في القرآن قالوا : " والطَّيِّبُ " ورد في القرآن الكريم على أربعة أوجهٍ :
أحدها : الطَّيِّبات بمعنى الحلال ؛ قال الله تعالى : { وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ } [ النساء : 2 ] ، أي : لا تتبدَّلوا الحرام بالحلال .
الثاني : الطيِّب بمعنى الطَّاهر ؛ قال تبارك وتعالى : { فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً } [ النساء : 43 ] ، وقال تعالى : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } [ فاطر : 10 ] .
الثالث : الطَّيِّب : معناه الحسن ، أي : الكلام الحسن للمؤمنين .
وقوله : { وَاشْكُرُواْ للَّهِ } أَمْرٌ ، وليس بإباحةٍ ، بمعنى أنه يجب اعتقاد كونه مستحقّاً إلى التعظيم ، وإظهار الشُّكْر باللِّسان ، أو بالأفعال ، إن وجدت هنا له تهمةٌ .
[ الرابع : ذكر الله وتلاوة القرآن والأمر بالمعروف ، قال تعالى :
{ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } [ فاطر : 10 ] .
قوله : " إِنْ كُنْتُمْ " شرطٌ ، وجوابه محذوف ، أي : فاشكروا له ، وقول من قال من الكوفيِّين : إنَّها بمعنى " إذ " ضعيفٌ ، و " إيَّاه " : مفعولٌ مقدَّم ؛ ليفيد الاختصاص ، أو لكون عامله رأس آية ، وانفصاله واجبٌ ، ولأنه متى تأخَّر ، وجب اتصاله إلاَّ في ضرورة ؛ كقوله : [ الرجز ]
899 - إلَيْكَ حَتَّى بَلَغَتْ إِيَّاكَ{[2301]}
وفي قوله : { وَاشْكُرُواْ للَّهَ } التفاتٌ من ضمير المتكلِّم إلى الغيبة إذْ لو جرى على الأسلوب الأوَّل ، لقال : " واشْكُرُونَا " .
أحدها : " واشْكُرُوا الله ، إنْ كُنْتُمْ عارفِينَ بالله ونِعَمِهِ " فعبَّر عن معرفة الله تعالى بعبادته إطلاقاً لاسم الأثر على المؤثر .
وثانيها : معناه : " إنْ كنتُمْ تريدون أن تَعْبُدوا الله ، فاشكُرُوه فإنَّ الشُّكر رأسُ العبادات " .
وثالثها : " واشْكُرُوا الله الَّذي رَزَقَكُمْ هذه النِّعْمَة ، إن كُنْتُمْ إيَّاه تعبُدُونَ " ، أي : إن صحَّ أنَّكم تخصُّونَهُ بالعبادة ، وتقرُّون أنَّه هو إلهُكُمْ لا غيره ، قال - عليه الصلاة والسلام عن الله - : " إنِّي والجنُّ والإنْسُ في نَبَأ عَظِيمٍ ، أخْلُقُ وَيُعْبَدُ غَيْري ، وَأَرْزُقُ وَيُشْكَرُ غَيْري{[2302]} ؟ ! "
فصل في أن الشيء المعلق ب " إن " لا يكون عدماً عند عدم ذلك الشيء
احتجَّ من قال بأنَّ المعلَّق بلفظ " إنْ " لا يكون عدماً عند عدم ذلك الشَّيء ؛ بهذه الآية ، فإنَّه تعالى علَّق الأمر بالشُّكْر بكلمة " إنْ " على فعل العبادة ، مع أن من لا يفعل هذه العبادات يجب عليه الشكر أيضاً .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.