اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقۡنَٰكُمۡ وَٱشۡكُرُواْ لِلَّهِ إِن كُنتُمۡ إِيَّاهُ تَعۡبُدُونَ} (172)

قال بعض المفسِّرين : إنَّ الله تبارك وتعالى ذكر من أوَّل السُّورة إلى هنا دلائل للتَّوحيد والنُّبُوَّة ، واستقصى في الرَّدِّ على اليهود والنصارى ، ومن هنا : شرع في بيان الأحكام ، فقال : " كُلُوا " واعلم : أنَّ الأكل قد يكون واجباً ، وذلك عند دفع الضرر عن النَّفس ، وقد يكون مندوباً ، وذلك عند امتناع الضيف من الأكل ، إذا انفرد ، وللبساطة في الأكل ، إذا سوعد ، فهذا الأكل مندوبٌ ، وقد يكون مباحاً ، إذا خلا عن هذه العوارض ، فلا جرم كان مسمَّى الأكل مباحاً ، وإذا كان كذلك ، كان قوله في هذا الموضع " كُلُوا " لا يفيد الإيجاب ، والنَّدب ، [ بل الإباحة ، ومفعول " كُلُوا " محذوفٌ ، أي : " كُلُوا رِزْقَكُمْ حَالَ كَوْنِهِ بَعْضَ طيِّباتِ ما رَزَقْنَاكُمْ " ويجوزُ في رأي الأخفش : أن تكون " مِنْ " زائدةً في المفعول به ، أي : " كُلُوا طيِّبات ما رزَقْنَاكم {[2299]} " .

فصل في بيان حقيقة الرِّزق

استدلُّوا على أنَّ الرزق قيد يكون حراماً ؛ بقوله تعالى : " مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ " ؛ فإِنَّ الطَّيِّب هو الحلال ، فلو كان كلُّ رزقٍ حلالاً ؛ لكان قوله : " كُلُوا مِن ]{[2300]} طَيِّبَاتَ مَا رَزَقْنَاكُمْ " معناه : من محلَّلات ما أحللنا لكم ، فيكون تكراراً ، وهو خلاف الأصل ، وأجابوا عنه ؛ بأن الطَّيِّب في أصل اللُّغة : عبارةٌ عن المستلذِّ المستطاب ، فلعلَّ أقواماً ظنُّوا أنَّ التوسُّع في المطاعم ، والاستكثار من طيِّباتها ممنوعٌ منه ، فأباح الله تبارك وتعالى ذلك ؛ لقوله تعالى : " كُلُوا " من لذائذ ما أحللناه لكم ، فكان تخصيصه بالذِّكر لهذا المعنى .

فصل في الوجوه التي وردت عليها كلمة " الطَّيِّب " في القرآن قالوا : " والطَّيِّبُ " ورد في القرآن الكريم على أربعة أوجهٍ :

أحدها : الطَّيِّبات بمعنى الحلال ؛ قال الله تعالى : { وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ } [ النساء : 2 ] ، أي : لا تتبدَّلوا الحرام بالحلال .

الثاني : الطيِّب بمعنى الطَّاهر ؛ قال تبارك وتعالى : { فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً } [ النساء : 43 ] ، وقال تعالى : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } [ فاطر : 10 ] .

الثالث : الطَّيِّب : معناه الحسن ، أي : الكلام الحسن للمؤمنين .

وقوله : { وَاشْكُرُواْ للَّهِ } أَمْرٌ ، وليس بإباحةٍ ، بمعنى أنه يجب اعتقاد كونه مستحقّاً إلى التعظيم ، وإظهار الشُّكْر باللِّسان ، أو بالأفعال ، إن وجدت هنا له تهمةٌ .

[ الرابع : ذكر الله وتلاوة القرآن والأمر بالمعروف ، قال تعالى :

{ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } [ فاطر : 10 ] .

قوله : " إِنْ كُنْتُمْ " شرطٌ ، وجوابه محذوف ، أي : فاشكروا له ، وقول من قال من الكوفيِّين : إنَّها بمعنى " إذ " ضعيفٌ ، و " إيَّاه " : مفعولٌ مقدَّم ؛ ليفيد الاختصاص ، أو لكون عامله رأس آية ، وانفصاله واجبٌ ، ولأنه متى تأخَّر ، وجب اتصاله إلاَّ في ضرورة ؛ كقوله : [ الرجز ]

899 - إلَيْكَ حَتَّى بَلَغَتْ إِيَّاكَ{[2301]}

وفي قوله : { وَاشْكُرُواْ للَّهَ } التفاتٌ من ضمير المتكلِّم إلى الغيبة إذْ لو جرى على الأسلوب الأوَّل ، لقال : " واشْكُرُونَا " .

فصل في المراد من الآية

في معنى الآية وجوه :

أحدها : " واشْكُرُوا الله ، إنْ كُنْتُمْ عارفِينَ بالله ونِعَمِهِ " فعبَّر عن معرفة الله تعالى بعبادته إطلاقاً لاسم الأثر على المؤثر .

وثانيها : معناه : " إنْ كنتُمْ تريدون أن تَعْبُدوا الله ، فاشكُرُوه فإنَّ الشُّكر رأسُ العبادات " .

وثالثها : " واشْكُرُوا الله الَّذي رَزَقَكُمْ هذه النِّعْمَة ، إن كُنْتُمْ إيَّاه تعبُدُونَ " ، أي : إن صحَّ أنَّكم تخصُّونَهُ بالعبادة ، وتقرُّون أنَّه هو إلهُكُمْ لا غيره ، قال - عليه الصلاة والسلام عن الله - : " إنِّي والجنُّ والإنْسُ في نَبَأ عَظِيمٍ ، أخْلُقُ وَيُعْبَدُ غَيْري ، وَأَرْزُقُ وَيُشْكَرُ غَيْري{[2302]} ؟ ! "

فصل في أن الشيء المعلق ب " إن " لا يكون عدماً عند عدم ذلك الشيء

احتجَّ من قال بأنَّ المعلَّق بلفظ " إنْ " لا يكون عدماً عند عدم ذلك الشَّيء ؛ بهذه الآية ، فإنَّه تعالى علَّق الأمر بالشُّكْر بكلمة " إنْ " على فعل العبادة ، مع أن من لا يفعل هذه العبادات يجب عليه الشكر أيضاً .


[2299]:- زاد في ب: وهذا جائز، ويجوز أن تكون "من" زائدة في المفعول به على رأي الأخفش، أي: كلوا من طيبات ما رزقناكم.
[2300]:- سقط في ب.
[2301]:- البيت لحميد الأرقط. ينظر الكتاب: 2/ 362، أمالي ابن الشجري: 1/40، الخصائص: 1/307، شرح المفصل: 3/102، الإنصاف: 2/699، الخزانة: 5/ 280، الدر المصون: 1/ 440.
[2302]:- أخرجه ابن عساكر (5/189) وذكره المتقي الهندي في "كنز العمال" (16/3) وعزاه للحكيم الترمذي والبيهقي في الشعب من حديث أبي الدرداء. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/116). وينظر تفسير الفخر الرازي: 5/10.