نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقۡنَٰكُمۡ وَٱشۡكُرُواْ لِلَّهِ إِن كُنتُمۡ إِيَّاهُ تَعۡبُدُونَ} (172)

ولما أخبر سبحانه وتعالى أن الدعاء لا يزيدهم إلا نفوراً رقي{[6665]} الخطاب من الناس{[6666]} إلى أعلى منهم رتبة فقال{[6667]} آمراً لهم أمر إباحة أيضاً وهو إيجاب في تناول ما يقيم البينة ويحفظها{[6668]} : { يا أيها الذين آمنوا كلوا } . وقال الحرالي{[6669]} : لما كان تقدم الخطاب في أمر الدين في رتبتين أولاهما{ يا أيها الناس اعبدوا ربكم }[ البقرة : 21 ] وثانيتهما{ يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا{[6670]} }[ البقرة : 104 ] فأمر الناس فيه بالعبادة وأمر الذين آمنوا بحسن الرعاية مع النبي صلى الله عليه وسلم ، كذلك{[6671]} هنا أمر الناس بالأكل مما في الأرض ونهى عن اتباع خطوات الشيطان ، وأشعر الخطاب بأنهم ممن يتوجه الشيطان نحوهم للأمر بالسوء والفحشاء والقول بالهوى ، وأمر الذين آمنوا بالأكل { من طيبات } فأعرض في خطابهم عن ذكر الأرض لتناولهم الرزق من السماء ، فإن أدنى الإيمان عبادة من في السماء واسترزاق من في السماء كما قال للسوداء : " أين الله ؟ قالت : في السماء ، قال : أعتقها فإنها مؤمنة " قال سبحانه وتعالى :{ وفي السماء رزقكم }[ الذاريات : 22 ] ، فأطعم الأرضيين وهم الناس مما في الأرض وأطعم السماويين وهم الذين آمنوا من رزق السماء كذلك ، وخص هذا الخطاب بلفظ{[6672]} الحلال لما كان آخذاً رزقه من السماء متناولاً طيبة لبراءته من حال مما{[6673]} في الأرض مما شأنه ضر في ظاهر أو أذى{[6674]} في باطن ، ولذلك " لو كانت الدنيا دماً{[6675]} عبيطاً{[6676]} لكان قوت المؤمن منها حلالاً " ، فالمسترزق من السماء يصير المحرم له حلالاً لأخذه منه عند الضرورة تقوتاً لا تشهّياً{[6677]} ، ويصير الحلال له طيباً لاقتناعه منه بالكفاف دون التشهي{[6678]}{ يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات{[6679]} }[ المائدة : 4 ] وفي مورد هذين الخطابين بيان أن كلمة{[6680]} { الناس } واقعة على سن من أسنان القلوب وكلمة { الذين آمنوا } واقعة على سن فوقه وليس يقع على عموم يشمل جميع الأسنان القلبية ، فتوهم ذلك من أقفال{[6681]} القلوب التي تمنع تدبر القرآن ، لأن خطاب القرآن يتوجه لكل أولي سن على حسب سن{[6682]} قلوبهم ، لا يصلح خطاب كل سن إلا له يتقاصر عنه من دونه ولا يحتاج إليه من فوقه ، وهي{[6683]} أسنان متعددة : سن الإنسان{[6684]} ثم سن الناس ، ثم سن الذين آمنوا ، ثم سن الذين يؤمنون ، ثم سن المؤمنين ، ثم سن المؤمنين{[6685]} حقاً ، ثم سن المحسنين ؛ هذه أسنان سبعة خطاباتها{[6686]} مترتبة{[6687]} بعضها فوق بعض ، ومن وراء ذلك أسنان فوقها من سن الموقنين وما وراء ذلك إلى أحوال أثناء هذه الأسنان من حال الذين أسلموا والمسلمين ومن يوصف بالعقل والذكر والفكر والسماع وغير ذلك من الأوصاف التي تلازم تلك الأسنان في رتب متراقية{[6688]} لا يشمل أدناها أعلاها ولا ينهض أدناها لرتبة خطاب أعلاها إلى ما وراء ذلك من خصوص خطاب النبي صلى الله عليه وسلم فيه بما لا يليق إلا به وبمن هو منه من إله ، وفي انتظام تفصيل هذه الرتب جامعة لما يقع من معناه في سائر القرآن - انتهى . ولما كانت هذه الرتبة كما تقدم أرفع من رتبة الناس خص في خطابهم بعد بيان أن ما لم يحل خبيث فقال : { من طيبات } ولم يأت بذلك العموم الذي تألف{[6689]} به { الناس } .

ولما كانوا في أول طبقات الإيمان نبههم{[6690]} على الشكر بقوله في مظهر العظمة : { ما رزقناكم{[6691]} } {[6692]}وأخلصناه لكم من الشبه ، ولا تعرضوا لما فيه دنس كما أحله المشركون من المحرمات ، ولا تحرموا ما أحلوا منها من السائبة وما معها ثم صرح به {[6693]}في قوله آمراً أمر إيجاب{[6694]} : { واشكروا لله{[6695]} } أي{[6696]} وخصوا شكركم بالمنعم{[6697]} الذي لا نعمة إلا منه{[6698]} ، وهذا بخلاف ما يأتي في سورة المؤمنين خطاباً لأعلى طبقات الخلّص وهم الرسل .

ولما كان الشكر لا يصح إلا بالتوحيد علقه باختصاصهم إياه بالعبادة فقال : { إن كنتم إياه } أي وحده { تعبدون * } فإن اختصاصه بذلك سبب للشكر ، فإذا انتفى الاختصاص الذي هو السبب انتفى الشكر ، وأيضاً إذا انتفى المسبب الذي هو الشكر انتفى الاختصاص لأن السبب واحد ، فهما متساويان يرتفع كل واحد منهما بارتفاع الآخر{[6699]} . وقال الحرالي : ولما كان هذا{[6700]} الخطاب منتظماً لتناول الطيب والشكر وحقيقته{[6701]} البذل من الطيب فشكر كل نعمة إظهارها على حدها من {[6702]}مال أو جاه{[6703]} أو علم أو طعام أو شراب أو غيره وإنفاق فضلها والاقتناع منها بالأدنى والتجارة بفضلها{[6704]} لمبتغى الأجر و{[6705]}إبلاغها إلى أهلها لمؤدي{[6706]} الأمانة لأن أيدي العباد خزائن الملك الجواد " دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض " . فلما{[6707]} كان ذلك لا يتم إلا بمعرفة الله{[6708]} سبحانه وتعالى المخلف{[6709]} على من أنفق كما قال { وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه{[6710]} } نبهوا{[6711]} على عهدهم الذي لقنوه في سورة الفاتحة في قوله { إياك نعبد وإياك نستعين } فقيل لهم : كلوا واشكروا إن كنتم إياه تعبدون ؛ فمن عرف الله بالكرم هان عليه أن يتكرم ومن عرف الله بالإنعام والإحسان هان عليه أن يحسن وهو شكره لله ، من أيقن بالخلف{[6712]} جاد بالعطية - انتهى .


[6665]:من م و مد، وليس في ظ، وفي الأصل: وفي - كذا
[6666]:زيد من م و ظ ومد
[6667]:ليس في مد
[6668]:العبارة من "آمرا لهم" إلى هنا ليست في ظ
[6669]:وقال أبو حيان الأندلسي: لما أباح تعالى لعباده أكل ما في الأرض من الحلال الطيب وكانت وجوه الحلال كثيرة بين لهم ما حرم عليهم لكونه أقل، فلما بين ما حرم بقي ما سوى ذلك على التحليل حتى يرد منع آخر، وهذا مثل قوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عما يلبس المحرم فقال: لا يلبس القميص ولا السراويل، فعدل عن ذكر المباح إلى ذكر المحظور لكثرة المباح وقلة المحظور؛ وهذا من الإيجاز البليغ
[6670]:زيد في م "وقولوا انظرنا"
[6671]:في مد: لذلك.
[6672]:في م ومد و ظ: لفظ
[6673]:في مد و ظ: ما
[6674]:من م و ظ ومد، وفي الأصل: أدنى
[6675]:في الأصل: دنا، والتصحيح من م و مد و ظ
[6676]:في مد: غبيطا -كذا
[6677]:في الأصل: تستهيا، والتصحيح من م و مد و ظ.
[6678]:من م ومدو ظ، وفي الأصل: التستهي
[6679]:سورة 5 آية 4
[6680]:وقيل: هذا الخطاب مؤكد لقوله: "يا أيها الناس كلوا مما في الأرض" ولما كان لفظ الناس يعم المؤمن والكافر ميز الله المؤمنين بهذا النداء تشريفا لهم وتنبيها على خصوصيتهم
[6681]:في م: أفعال
[6682]:ما بين المربعين زيد من م و ظ ومد
[6683]:في ظ: هن
[6684]:في مد: الأسنان
[6685]:زيد من مد،ولا بد منه ليكون مجموع الأسنان سبعة كما سيبين
[6686]:في م: خطاياتها -كذا
[6687]:في ظ: مرتبة
[6688]:من م و مد، وفي الأصل: متراقبة، وفي ظ: مراقبة.
[6689]:في ظ: بالف
[6690]:من م و مد و ظ، وفي الأصل: ينيبهم -كذا
[6691]:{ما رزقناكم} فيه إسناد الرزق إلى ضمير المتكلم بنون العظمة لما في الرزق من الامتنان والإحسان، وإذا فسرت الطيبات بالحلال كان في ذلك دلالة على أن ما رزقه الله ينقسم إلى حلال وإلى لبحر المحيط 1/ 485
[6692]:العبارة من هنا إلى "وما معها" ليست في ظ
[6693]:ليس في ظ
[6694]:زيد من مد، وفي م: أمر أمرا إيجاب -كذا
[6695]:هذا من الالتفات إذ خرج من ضمير المتكلم إلى اسم الغائب، وحكمة ذلك ظاهرة لأن هذا الاسم الظاهر متضمن لجميع الأوصاف التي منها وصف الإنعام والرزق، والشكر ليس على هذا الإذن الخالص – البحر المحيط
[6696]:ليست في م، وفي ظ: بالله – مكان: بالمنعم.
[6697]:ليست في م، وفي ظ: بالله – مكان: بالمنعم.
[6698]:العبارة "الذي" إلى هنا ليست في ظ
[6699]:وفي البحر المحيط: ولا يراد بالشرط هنا إلا التثبت والهز للنفوس،وكان المعنى العبادة له واجبة فالشكر له واجب، وذلك كما تقول لمن هو مستحق العبودية: إن كنت عبدي فأطعني، ولا تريد بذلك التعليق المحض بل تبرزه في صورة التعليق ليكون أدعى للطاعة وأهز لها... وقال الزمخشري: إن صح أنكم تختصونه بالعبادة وتقرون أنه مولى النعم، وعن النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى: إني والجن والإنس في نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري وأرزق ويشكر غيري –انتهى كلامه
[6700]:ليس في مد
[6701]:من م ومدو ظ،وفي الأصل: حقيقة
[6702]:وفي م و ظ ومد: جاه أو مال.
[6703]:وفي م و ظ ومد: جاه أو مال.
[6704]:زيد من م و ظ ومد
[6705]:في م: أو
[6706]:من م ومد و ظ، وفي الأصل: كمودي..
[6707]:في الأصل: كلما،والتصحيح من م و ظ ومد
[6708]:في م ومد: بالله
[6709]:من م ومد و ظ، وفي الأصل: المخلق
[6710]:سورة 34 آية 40
[6711]:في الأصل: فنهوا،والتصحيح من م و مد و ظ
[6712]:في الأصل: بالخلق، والتصحيح من م و ظ ومد