البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقۡنَٰكُمۡ وَٱشۡكُرُواْ لِلَّهِ إِن كُنتُمۡ إِيَّاهُ تَعۡبُدُونَ} (172)

{ يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم } : لما أباح تعالى لعباده أكل ما في الأرض من الحلال الطيب ، وكانت وجوه الحلال كثيرة ، بين لهم ما حرم عليهم ، لكونه أقل .

فلما بين ما حرم ، بقي ما سوى ذلك على التحليل حتى يرد منع آخر .

وهذا مثل قوله صلى الله عليه وسلم ، لما سئل عما يلبس المحرم فقال : « لا يلبس القميص ولا السراويل » ، فعدل عن ذكر المباح إلى ذكر المحظور ، لكثرة المباح وقلة المحظور ، وهذا من الإيجاز البليغ .

والذين آمنوا : جمع من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويجوز أن يراد أهل المدينة ، فاللفظ عام والمراد خاص .

وقيل : هذا الخطاب مؤكداً لقوله : { يا أيها الناس كلوا مما في الأرض } ، ولما كان لفظ الناس يعم المؤمن والكافر ، ميز الله المؤمنين بهذا النداء ، تشريفاً لهم وتنبيهاً على خصوصيتهم وظاهر كلوا : الأمر بالأكل المعهود .

وقيل : المراد الانتفاع به ، ونبه بالأكل على وجوه الانتفاع ، إذ كان الأكل أعظمها ، إذ به تقوم البنية .

قيل : وهذا أقرب إلى المعنى ، لأنه تعالى ما خص الحل والحرمة بالمأكولات ، بل بسائر ما ينتفع به من أكل وشرب ولبس وغير ذلك والطيبات .

قيل : الحلال ، وقيل : المستلذ المستطاب ، لكن بشرط أن يكون حلالاً .

وقد تقدم هذا الشرط في قوله : { كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً } ، فصار هذا الأمر الثاني مثل الأول في أن متعلقة المستلذ الحلال .

ما رزقناكم : فيه إسناد الرزق إلى ضمير المتكلم بنون العظمة ، لما في الرزق من الامتنان والإحسان .

وإذا فسر الطيبات بالحلال ، كان في ذلك دلالة على أن ما رزقه الله ينقسم إلى حلال وإلى حرام ، بخلاف ما ذهبت إليه المعتزلة ، من أن الرزق لا يكون إلا حلالاً .

وقد تقدم الكلام على الرزق في أول السورة ، فأغنى عن إعادته هنا .

ومن منع أن يكون الرزق حراماً قال : المراد كلوا من مستلذ ما رزقناكم ، وهو الحلال ، أمر بذلك وأباحه تعالى دفعاً لمن يتوهم أن التنوع في المطاعم والتفنن في إطابتها ممنوع منه ، فكان تخصيص المستلذ بالذكر لهذا المعنى .

{ واشكروا لله } : هذا من الالتفات ، إذ خرج من ضمير المتكلم إلى اسم الغائب ، وحكمة ذلك ظاهرة ، لأن هذا الاسم الظاهر متضمن لجميع الأوصاف التي منها وصف الأنعام والزرق والشكر ، ليس على هذا الإذن الخاص ، بل يشكر على سائر الإنعامات والامتنانات التي منها هذا الامتنان الخاص .

وجاء هنا تعدية الشكر باللام ، وقد تقدم الكلام على ذلك .

وتضمنت هذه الآية أمرين : الأول : { كلوا } ، قالوا : وهو عند دفع الضرر واجب ، ومع الضيف مندوب إليه ، وإذا خلا عن العوارض كان مباحاً ، وكذا هو في الآية .

والثاني : { واشكروا لله } ، وهو أمر وليس بإباحة .

قيل : ولا يمكن القول بوجوب الشكر ، لأنه إما أن يكون بالقلب ، أو باللسان ، أو بالجوارح .

فبالقلب هو العلم بصدور النعمة من المنعم ، أو العزم على تعظيمه باللسان ، أو الجوارح .

أما ذلك العلم فهو من لوازم كمال العقل ، فإن العاقل لا ينسى ذلك .

فإذا كان ذلك العلم ضرورياً ، فكيف يمكن إيجابه ؟ وأما العزم على تعظيمه باللسان والجوارح ، فذلك العزم القلبي تابع للإقرار اللساني والعمل بالجوارح .

فإذا بينا أنهما لا يجبان ، كان العزم بأن لا يجب أولى .

وأما الشكر باللسان ، فإما أن يفسر بالاعتراف له بكونه منعماً ، أو بالثناء عليه .

فهذا غير واجب بالاتفاق ، بل هو من باب المندوبات .

وأما الشكر بالجوارح والأعضاء ، فهو أن يأتي بأفعال دالة على تعظيمه ، وذلك أيضاً غير واجب .

وقال غير هذا القائل الذي تلخص أنه يجب اعتقاد كونه مستحقاً للتعظيم ، وإظهار ذلك باللسان أو سائر الأفعال إن وجدت هناك .

وهذا البحث في وجوب الشكر أو عدم وجوبه ، كان يناسب في أول شكر أمر به وهو قوله : { واشكروا لي ولا تكفرون }

{ إن كنتم إياه تعبدون } : من ذهب إلى أن معناها معنى إذ ، فقوله ضعيف ، وهو قول كوفي ، ولا يراد بالشرط هنا إلا التثبت والهز للنفوس ، وكأن المعنى : العبادة له واجبة ، فالشكر له واجب ، وذلك كما تقول لمن هو متحقق العبودية إن كنت عبدي فأطعني ، لا تريد بذلك التعليق المحض ، بل تبرزه في صورة التعليق ، ليكون أدعى للطاعة وأهزلها .

وقيل : عبر بالعبادة عن العرفان ، كما قال : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } قيل : معناه ليعرفون ، فيكون المعنى : أشكروا لله إن كنتم عارفين به وبنعمه ، وذلك من إطلاق الأثر على المؤثر .

وقيل : عبر بالعبادة عن إرادة العبادة ، أي اشكروا الله إن كنتم تريدون عبادته ، لأن الشكر رأس العبادات .

وقال الزمخشري : إن صح أنكم تختصونه بالعبادة وتقرون أنه مولى النعم .

وعن النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى : إني والجن والإنس في نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري وأرزق ويشكر غيري .

انتهى كلامه .

وإيا هنا مفعول مقدم ، وقدم لكون العامل فيه وقع رأس آية ، وللاهتمام به والتعظيم لشأنه ، لأنه عائد على الله تعالى ، كما في قولك : { وإياك نستعين } وهذا من الموضع التي يجب فيها انفصال الضمير ، وهو إذا تقدم على العامل أو تأخر ، لم ينفصل إلا في ضرورة ، قال :

إليك حتى بلغت إياكا***

/خ176