ومع هذا ليس فيهم من أوصاف الكمال شيء لا علم ، ولا غيره { أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ } فلا تسمع ولا تبصر ولا تعقل شيئا ، أفتتخذ هذه آلهة من دون رب العالمين ، فتبا لعقول المشركين ما أضلها وأفسدها ، حيث ضلت في أظهر الأشياء فسادا ، وسووا بين الناقص من جميع الوجوه فلا أوصاف كمال ، ولا شيء من الأفعال ، وبين الكامل من جميع الوجوه الذي له كل صفة كمال وله من تلك الصفة أكملها وأعظمها ، فله العلم المحيط بكل الأشياء والقدرة العامة والرحمة الواسعة التي ملأت جميع العوالم ، والحمد والمجد والكبرياء والعظمة ، التي لا يقدر أحد من الخلق أن يحيط ببعض أوصافه ، ولهذا قال : { إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ }
بل إنهم لأموات غير قابلين للحياة على الإطلاق . ومن ثم فهم لا يشعرون :
( أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون ) . .
والإشارة هنا إلى البعث وموعده فيها تقرير أن الخالق لا بد أن يعلم موعد البعث . لأن البعث تكملة للخلق ، وعنده يستوفي الأحياء جزاءهم على ما قدموا . فالآلهة التي لا تعلم متى يبعث عبادها هي آلهة لا تستحق التأليه ، بل هي سخرية الساخرين . فالخالق يبعث مخاليقه ويعلم متى يبعثهم على التحقيق !
القول في تأويل قوله تعالى : { أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيّانَ يُبْعَثُونَ } .
يقول تعالى ذكره لهؤلاء المشركين من قريش : والذين تدعون من دون الله أيها الناس أمْوَاتٌ غيرُ أحْياءٍ . وجعلها جلّ ثناؤه أمواتا غير أحياء ، إذ كانت لا أرواح فيها . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : أمْوَاتٌ غيرُ أحْياءٍ ومَا يَشْعُرُونَ أيّانَ يُبْعَثُونَ وهي هذه الأوثان التي تُعبد من دون الله أموات لا أرواح فيها ، ولا تملك لأهلها ضرّا ولا نفعا .
وفي رفع الأموات وجهان : أحدهما أن يكون خبرا للذين ، والاَخر على الاستئناف . وقوله : ومَا يَشْعُرُونَ يقول : وما تدري أصنامكم التي تدعون من دون الله متى تبعث . وقيل : إنما عنى بذلك الكفار ، أنهم لا يدرون متى يبعثون .
و { أموات } يراد به الذين يدعون من دون الله ورفع على خبر ابتداء مضمر تقديره هم أموات ، ويجوز أن يكون خبراً لقوله { والذين } بعد خبر في قوله { لا يخلقون } ووصفهم بالموت مجازاً . وإنما المراد لا حياة لهم ، فشبهوا بالموت ، وقوله { غير أحياء } أي لم يقبلوا حياة قط ، ولا اتصفوا بها .
قال القاضي أبو محمد : وعلى قراءة من قرأ «والذين يدعون » فالياء على غيبة الكفار ، يجوز أن يراد بالأموات الكفار الذين ضميرهم في «يدعون » ، شبههم بالأموات غير الأحياء من حيث هم ضلال غير مهتدين ، ويستقيم على هذا فيهم قوله { وما يشعرون أيان يبعثون } و «البعث » هنا هو الحشر من القبور ، و { أيان } ظرف زمان مبني ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي «إيان » بكسر الهمزة ، والفتح فيها والكسر لغتان ، وقالت فرقة : { وما يشعرون } أي الكفار { أيان يبعثون } الضميران لهم ، وقالت فرقة : وما يشعر الأصنام أيان يبعث الكفار .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن يكون الضميران للأصنام ، ويكون البعث الإثارة ، كما تقول بعثت النائم من نومه إذا نبهته ، وكما تقول بعث الرامي سهمه ، فكأنه وصفهم بغاية الجمود أي وإن طلبت حركاتهم بالتحريك لم يشعروا لذلك .
قال القاضي أبو محمد : وعلى تأويل من يرى الضمير للكفار ينبغي أن يعتقد في الكلام الوعيد ، وما يشعر الكفار متى يبعثون إلى التعذيب ، ولو اختصر هذا المعنى لم يكن في وصفهم بأنهم لا يشعرون وأيان يبعثون طائل ، لأن الملائكة والأنبياء والصالحين كذلك هم في الجهل بوقت البعث ، وذكر بعض الناس أن قوله { أيان يبعثون } ظرف لقوله { إلهكم إله واحد } [ النحل : 22 ] وأن الكلام تم في قوله { وما يشعرون }{[7271]} ، ثم أخبر عن يوم القيامة أن الإله فيه واحد وهذا توعد .
جملة { غير أحياء } تأكيد لمضمون جملة { أموات } ، للدلالة على عراقة وصف الموت فيهم بأنه ليس فيه شائبة حياة لأنهم حجارة .
ووصفت الحجارة بالموت باعتبار كون الموتتِ عدم الحياة . ولا يشترط في الوصف بأسماء الأعدام قبولُ الموصوفات بها لملكاتها ، كما اصطلح عليه الحكماء ، لأن ذلك اصطلاح منطقي دعا إليه تنظيم أصول المحاجة .
وقرأ عاصم ويعقوب { يدعون } بالتحتية . وفيها زيادة تبيين لصرف الخطاب إلى المشركين في قراءة الجمهور .
وجملة { وما يشعرون أيان يبعثون } إدماج لإثبات البعث عقب الكلام على إثبات الوحدانية لله تعالى ، لأن هذين هما أصل إبطال عقيدة المشركين ، وتمهيدٌ لوجه التلازم بين إنكار البعث وبين إنكار التوحيد في قوله تعالى { فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون } [ سورة النحل : 22 ] . ولذلك فالظاهر أن ضميري { يشعرون } و { يبعثون } عائدان إلى الكفّار على طريق الالتفات في قراءة الجمهور ، وعلى تناسق الضمائر في قراءة عاصم ويعقوب .
والمقصود من نفي شعورهم بالبعث تهديدهم بأن البعث الذي أنكروه واقع وأنهم لا يدرون متى يبغتهم ، كما قال تعالى : { لا تأتيكم إلا بغتة } [ سورة الأعراف : 187 ] .
والبعث : حقيقته الإرسال من مكان إلى آخر . ويطلق على إثارة الجاثم . ومنه قولهم : بعثتُ البعير ، إذا أثرته من مَبركه . ولعلّه من إطلاق اسم الشيء على سببه . وقد غلب البعث في اصطلاح القرآن على إحضار الناس إلى الحساب بعد الموت . فمن كان منهم ميتاً فبعثه من جدثه ، ومن كان منهم حياً فصادفته ساعة انتهاء الدنيا فمات ساعتئذٍ فبعثُه هو إحياؤه عقب الموت ، وبذلك لا يعكر إسناد نفي الشعور بوقت البعث عن الكفّار الأحياء المهدّدين . ولا يستقيم أن يكون ضمير { يشعرون } عائداً إلى { الذين تدعون } ، أي الأصنام .
و { أيان } اسم استفهام عن الزمان . مركبة من ( أي ) و ( آن ) بمعنى أي زمن ، وهي معلقة لفعل { يشعرون } عن العمل بالاستفهام ، والمعنى : وما يشعرون بزمن بعثهم . وتقدم { أيان } في قوله تعالى : { يسألونك عن الساعة أيّان مرساها } في سورة الأعراف ( 187 ) .