قوله تعالى : { قال نكروا لها عرشها } يقول : غيروا سريرها إلى حال تنكره إذا رأته ، قال قتادة ومقاتل : هو أن يزاد فيه وينقص منه ، وروي أنه جعل أسفله أعلاه وأعلاه أسفله ، وجعل مكان الجوهر الأحمر أخضر ومكان الأخضر أحمر ، { ننظر أتهتدي } إلى عرشها فتعرفه ، { أم تكون من } الجاهلين ، { الذين لا يهتدون } إليه ، وإنما حمل سليمان على ذلك كما ذكره وهب ومحمد بن كعب وغيرهما : أن الشياطين خافت أن يتزوجها سليمان فتفشى إليه أسرار الجن وذلك أن أمها كانت جنية ، وإذا ولدت له ولداً لا ينفكون من تسخير سليمان وذريته من بعده ، فأساؤوا الثناء عليها ليزهدوه فيها ، وقالوا : إن في عقلها شيئاً وإن رجلها كحافر الحمار وأنها شعراء الساقين فأراد سليمان أن يختبر عقلها بتنكير عرشها وينظر إلى قدميها ببناء الصرح .
وبعد هذه الانتفاضة أمام النعمة والشعور بما وراءها من الابتلاء يمضي سليمان - عليه السلام - في تهيئة المفاجآت للملكة القادمة عما قليل :
( قال : نكروا لها عرشها . ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون ) .
غيروا معالمه المميزة له ، لنعرف إن كانت فراستها وفطنتها تهتدي إليه بعد هذا التنكير . أم يلبس عليها الأمر فلا تنفذ إلى معرفته من وراء هذا التغيير .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ نَكّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِيَ أَمْ تَكُونُ مِنَ الّذِينَ لاَ يَهْتَدُونَ } .
يقول تعالى ذكره : قال سليمان لما أتى عرش بلقيس صاحبة سبأ ، وقدمت هي عليه ، لجنده : غيّروا لهذه المرأة سريرها . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قَتادة ، قوله نَكّرُوا لَهَا عَرْشَها قال : غيروا .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : فلما أتته قالَ نَكّرُوا لَهَا عَرْشَها قال : وتنكير العرش ، أنه زيد فيه ونقص .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله نَكّرُوا لَهَا عَرْشَها قال : غيّروه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاح ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، نحوه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله نَكرُوا لهَا عَرْشَها قال : مجلسها الذي تجلس فيه .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله نَكّرُوا لَهَا عَرْشَها أمرهم أن يزيدوا فيه ، وينقصوا منه .
وقوله : نَنْظُرْ أتَهْتَدِي يقول : ننظر أتعقل فتثبت عرشها أنه هو الذي لها أمْ تَكُونُ مِنَ الّذِينَ لا يَهْتَدُونَ يقول : من الذين لا يعقلون فلا تثبت عرشها .
وقيل : إن سليمان إنما نكّر لها عرشها ، وأمر بالصرح يعمل لها ، من أجل أن الشياطين كانوا أخبروه أنه لا عقل لها ، وأن رجلها كحافر حمار ، فأراد أن يعرف صحة ما قيل له من ذلك . وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله أتَهْتَدِي أمْ تَكُونُ مِنَ الّذِين لا يَهْتَدُونَ قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ننْظُرْ أتَهْتَدِي أمْ تَكُونُ مِنَ الّذِينَ لا يَهْتَدُونَ قال : زيد في عرشها ونقص منه ، لينظر إلى عقلها ، فوُجدت ثابتة العقل .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد نَنْظُرْ أتَهْتَدِي أتعرفه .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : ثني ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله نَنْظُرْ أتَهْتَدِي قال : تعرفه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه : أتَهْتَدِي أمْ تَكُونَ مِنَ الّذِينَ لا يَهْتَدُونَ : أي أتعقل ، أم تكون من الذين لا يعقلون ؟ ففعل ذلك لينظر أتعرفه ، أم لا تعرفه ؟
هذا من جملة المحاورة التي جرت بين سليمان عليه السلام وبين ملئه ، ولذلك لم يعطف لأنه جرى على طريقة المقاولة والمحاورة .
والتنكير : التغيير للحالة . قال جميل :
وقالوا نراها يا جميلُ تنكّرت *** وغيرها الواشي فقلت : لعلها
أراد : تنكرت حالة معاشرتها بسبب تغيير الواشين ، بأن يغير بعض أوصافه ، قالوا : أراد مفاجأتها واختبار مظنتها .
والمأمور بالتنكير أهل المقدرة على ذلك من ملئه .
و { من الذين لا يهتدون } أبلغ في انتفاء الاهتداء من : لا تهتدي ، كما تقدم في نظائره غير مرة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قال} سليمان: {نكروا لها عرشها} زيدوا في السرير، وانقصوا منه، {ننظر إذا جاءت {أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون}، يقول: أتعرف العرش أم تكون من الذين لا يعرفون؟.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قال سليمان لما أتى عرش بلقيس صاحبة سبأ، وقدمت هي عليه، لجنده: غيّروا لهذه المرأة سريرها... عن ابن عباس: فلما أتته "قالَ نَكّرُوا لَهَا عَرْشَها "قال: وتنكير العرش، أنه زيد فيه ونقص...
وقوله: "نَنْظُرْ أتَهْتَدِي" يقول: ننظر أتعقل فتثبت عرشها أنه هو الذي لها، "أمْ تَكُونُ مِنَ الّذِينَ لا يَهْتَدُونَ" يقول: من الذين لا يعقلون فلا تثبت عرشها.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون} قال أهل التأويل: {أتهتدي} أنه عرشها أم لا تهتدي إليه؟ وجائز أن يكون قوله {ننظر}: {أتهتدي} إلى دين الله وتوحيده أم تكون من الذين لا يهتدون إلى دين الله؟
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{نَكِّرُواْ} اجعلوه متنكراً متغيراً عن هيئته وشكله، كما يتنكر الرجل للناس لئلا يعرفوه... {أتهتدى} لمعرفته، أو للجواب الصواب إذا سئلت عنه، أو للدين والإيمان بنبوّة سليمان عليه السلام إذا رأت تلك المعجزة البينة، من تقدّم عرشها وقد خلفته وأغلقت عليه الأبواب ونصبت عليه الحرَّاس.
اعلم أن قوله: {نكروا} معناه اجعلوا العرش منكرا مغيرا عن شكله كما يتنكر الرجل للناس لئلا يعرفوه، وذلك لأنه لو ترك على ما كان لعرفته لا محالة، وكان لا تدل معرفتها به على ثبات عقلها وإذا غير دلت معرفتها أو توقفها فيه على فضل عقل...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وهناك تفسيران لجملة (أتهتدي) فقال بعضهم: المراد منها معرفة عرشها. وقال بعضهم: المراد من هذه الجملة أنّها هل تهتدي إلى الله برؤية المعجزة، أو لا؟! إلاّ أنّ الظاهر هو المعنى الأوّل، وإن كان المعنى الأوّل بنفسه مقدمة للمعنى الثّاني.