يخبر تعالى عن مضاعفة فضله ، وتمام عدله فقال : { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ } شرط فيها أن يأتي بها العامل ، لأنه قد يعملها ، ولكن يقترن بها ما لا تقبل منه أو يبطلها ، فهذا لم يجيء بالحسنة ، والحسنة : اسم جنس يشمل جميع ما أمر اللّه به ورسوله ، من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة ، المتعلقة بحق الله تعالى وحق{[617]} عباده ، { فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا } [ أي : أعظم وأجل ، وفي الآية الأخرى { فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } ]{[618]}
هذا التضعيف للحسنة ، لا بد منه ، وقد يقترن بذلك من الأسباب ما تزيد به المضاعفة ، كما قال تعالى : { وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } بحسب حال العامل وعمله ، ونفعه ومحله ومكانه ، { وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ } وهي كل ما نهى الشارع عنه ، نَهْيَ تحريم . { فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } كقوله تعالى : { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ }
القول في تأويل قوله تعالى : { مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا وَمَن جَآءَ بِالسّيّئَةِ فَلاَ يُجْزَى الّذِينَ عَمِلُواْ السّيّئَاتِ إِلاّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } .
يقول تعالى ذكره : من جاء الله يوم القيامة بإخلاص التوحيد ، فله خير ، وذلك الخير هو الجنة والنعيم الدائم ، ومن جاء بالسيئة ، وهي الشرك بالله . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد قال حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله مَنْ جاءَ بالحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها : أي له منها حظّ خير ، والحسنة : الإخلاص ، والسيئة : الشرك .
وقد بيّنا ذلك باختلاف المختلفين ، ودللنا على الصواب من القول فيه .
وقوله : فَلا يُجْزَى الّذِين عَمِلُوا السّيّئاتِ يقول : فلا يثاب الذين عملوا السيئات على أعمالهم السيئة إلاّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ يقول : إلاّ جزاء ما كانوا يعملون .
تتنزل جملة { من جاء بالحسنة } منزلة بدل الاشتمال لجملة { والعاقبة للمتقين } [ القصص : 83 ] لأن العاقبة ذات أحوال من الخير ودرجات من النعيم وهي على حسب ما يجيء به المتقون من الحسنات فتفاوت درجاتهم بتفاوتها .
وفي اختيار فعل { جاء } في الموضعين هنا إشارة إلى أن المراد من حضر بالحسنة ومن حضر بالسيئة يوم العرض على الحساب . ففيه إشارة إلى أن العبرة بخاتمة الأمر وهي مسألة الموافاة . وأما اختيار فعل { عملوا } في قوله { الذين عملوا السيئات } فلما فيه من التنبيه على أن عملهم هو علة جزائهم زيادة في التنبيه على عدل الله تعالى .
ومعنى { فله خير منها } أن كل حسنة تحتوي على خير لا محالة يصل إلى نفس المحسن أو إلى غيره فللجائي بالحسنة خيرٌ أفضل مما في حسنته من الخير ، أو فله من الله إحسان عليها خير من الإحسان الذي في الحسنة قال تعالى في آيات أخرى { فله عشر أمثالها } [ الأنعام : 160 ] أي فله من الجزاء حسنات أمثالها وهو تقدير يعلمه الله .
ولما ذكر جزاء الإحسان أعقب بضد ذلك مع مقابلة فضل الله تعالى على المحسن بعدله مع المسيء على عادة القرآن من قرن الترغيب بالترهيب .
و { من جاء بالسيئة } ما صدقه الذين عملوا السيئات ، و { الذين عملوا السيئات } الثاني هو عين { من جاء بالسيئة } فكان المقام مقام الإضمار بأن يقال : ومن جاء بالسيئة فلا يُجزَوْن الخ ؛ ولكنه عدل عن مقتضى الظاهر لأن في التصريح بوصفهم ب { عملوا السيئات } تكريراً لإسناد عمل السيئات إليهم لقصد تهجين هذا العمل الذميم وتبغيض السيئة إلى قلوب السامعين من المؤمنين .
وفي قوله { إلا ما كانوا يعملون } استثناء مفرغ عن فعل { يُجزَى } المنفي المفيد بالنفي عموم أنواع الجزاء ، والمستثنى تشبيه بليغ ، أي جزاء شبه الذي كانوا يعملونه . والمراد المشابهة والمماثلة في عرف الدين ، أي جزاء وفاقاً لما كانوا يعملون وجارياً على مقداره لا حيف فيه وذلك موكول إلى العلم الإلهي .