{ وأوحينا إلى موسى وأخيه } ، هارون ، { أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا } يقال : تبوأ فلان لنفسه بيتاً ومضجعاً إذا اتخذه ، وبوأته أنا إذا اتخذته له ، { واجعلوا بيوتكم قبلةً } ، قال أكثر المفسرين : كانت بنو إسرائيل لا يصلون إلا في كنائسهم وبيعهم ، وكانت ظاهرة ، فلما أرسل موسى أمر فرعون بتخريبها ومنعهم من الصلاة فأمروا أن يتخذوا مساجد في بيوتهم ويصلوا فيها خوفا من فرعون ، هذا قول إبراهيم وعكرمة عن ابن عباس . وقال مجاهد : خاف موسى ومن معه من فرعون أن يصلوا في الكنائس الجامعة ، فأمروا بأن يجعلوا في بيوتهم مساجد مستقبلة الكعبة ، يصلون فيها سراً . معناه : واجعلوا بيوتكم إلى القبلة . وروى ابن جريج عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كانت الكعبة قبلة موسى ومن معه . { وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين } ، يا محمد .
{ 87 } { وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ } حين اشتد الأمر على قومهما ، من فرعون وقومه ، وحرصوا على فتنتهم عن دينهم .
{ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا } أي : مروهم أن يجعلوا لهم بيوتًا ، يتمكنون ]به[ من الاستخفاء فيها .
{ وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً } أي : اجعلوها محلا ، تصلون فيها ، حيث عجزتم عن إقامة الصلاة في الكنائس ، والبيع العامة .
{ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } فإنها معونة على جميع الأمور ، { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } بالنصر والتأييد ، وإظهار دينهم ، فإن مع العسر يسرًا ، إن مع العسر يسرًا ، وحين اشتد الكرب ، وضاق الأمر ، فرجه الله ووسعه .
فلما رأى موسى ، القسوة والإعراض من فرعون وملئه{[414]} ، دعا عليهم وأمن هارون على دعائه ، فقال :
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىَ مُوسَىَ وَأَخِيهِ أَن تَبَوّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصّلاَةَ وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ } .
يقول تعالى ذكره : وأوحينا إلى موسى وأخيه أن اتخذ لقومكما بمصر بيوتا ، يقال منه : تبوأ فلان لنفسه بيتا : إذا اتخذه ، وكذلك تبوأ مصحفا : إذا اتخذا ، وبوأته أنا بيتا : إذا اتخذته له . وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً يقول : واجعلوا بيوتكم مساجد تصلون فيها .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً فقال بعضهم في ذلك نحو الذي قلنا فيه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان عن حميد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً قال : مساجد .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن خصيف ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قوله : وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً قال : أمروا أن يتخذوها مساجد .
قال : حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل ، قال : حدثنا زهير ، قال : حدثنا خصيف ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، في قول الله تعالى : وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً قال : كانوا يفرقون من فرعون وقومه أن يصلوا ، فقال لهم : اجعلوا بيوتكم قبلة ، يقول : اجعلوها مسجدا حتى تصلوا فيها .
حدثنا ابن وكيع وابن حميد ، قالا : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم : وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً قال : خافوا فأمروا أن يصلوا في بيوتهم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم : وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً قال : كانوا خائفين ، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شبل ، عن خصيف ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، في قوله : وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً قال : كانوا خائفين فأمروا أن يصلوا في بيوتهم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً قال : كانوا لا يصلون إلا في البيع ، وكانوا لا يصلون إلا خائفين ، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم .
قال : حدثنا جرير عن ليث ، عن مجاهد ، قال : كانوا خائفين ، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم .
قال : حدثنا عبد الله ، عن إسرائيل ، عن السدي ، عن أبي مالك : وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً قال : كانت بنو إسرائيل تخاف فرعون ، فأمروا أن يجعلوا بيوتهم مساجد يصلون فيها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن سعد ، قال : أخبرنا أبو جعفر ، عن الربيع بن أنس في قوله : وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً يقول : مساجد .
قال : حدثنا أحمد بن يونس ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن منصور ، عن إبراهيم : وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً قال : كانوا يصلون في بيوتهم يخافون .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا زيد بن الحباب ، عن أبي سنان ، عن الضحاك : أنْ تَبَوّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتا قال : مساجد .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، في قوله : وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً قال : كانوا خائفين ، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً قال : قال أبي زيد : اجعلوا في بيوتكم مساجدكم تصلون فيها تلك القبلة .
وقال آخرون : معنى ذلك : واجعلوا مساجدكم قبل الكعبة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً يعني الكعبة .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله : وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وأقِيمُوا الصّلاةَ وَبَشّر المُوءْمِنِينَ قال : قالت بنو إسرائيل لموسى : لا نستطيع أن نظهر صلاتنا مع الفراعنة . فأذن الله لهم أن يصلوا في بيوتهم ، وأمروا أن يجعلوا بيوتهم قبل القبلة .
حدثنا القاسم . قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : قال ابن عباس في قوله : وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً يقول : وجهوا بيوتكم مساجدكم نحو القبلة ، ألا ترى أنه يقول : فِي بُيُوتٍ أذِنَ اللّهُ أنْ تَرْفَعَ ؟
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبيد الله ، عن إسرائيل ، عن أبي يحيى ، عن مجاهد : وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً قال : قبل القبلة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً قال : نحو الكعبة ، حين خاف موسى ومن معه من فرعون أن يصلوا في الكنائس الجامعة ، فأمروا أن يجعلوا في بيوتهم مساجد مستقبلة الكعبة يصلون فيها سرّا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً ثم ذكر مثله سواء .
قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وأوْحَيْنا إلى مُوسَى وأخِيهِ أنْ تَبَوّءَا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتا مساجد .
قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : في قوله : أنْ تَبَوّءَا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتا قال : مصر ، الإسكندرية .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وأوْحَيْنا إلى مُوسَى وأخِيهِ أنْ تَبَوّءَا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً قال : وذلك حين منعهم فرعون الصلاة ، فأمروا أن يجعلوا مساجدهم في بيوتهم وأن يوجهوا نحو القبلة .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً قال : نحو القبلة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا إسحاق ، عن أبي سنان ، عن الضحاك : وأوْحَيْنا إلى مُوسَى وأخِيهِ أنْ تَبَوّءَا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتا قال : مساجد . وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً قال : قبل القبلة .
وقال آخرون : معنى ذلك : واجعلوا بيوتكم يقابل بعضها بعضا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمران بن عيينة ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير : وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً قال : يقابل بعضها بعضا .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب القول الذي قدمنا بيانه وذلك أن الأغلب من معاني البيوت وإن كانت المساجد بيوتا ، البيوت المسكونة إذا ذكرت باسمها المطلق دون المساجد لأن المساجد لها اسم هي به معروفة خاصّ لها ، وذلك المساجد . فأما البيوت المطلقة بغير وصلها بشيء ولا إضافتها إلى شيء ، فالبيوت المسكونة ، وكذلك القبلة الأغلب من استعمال الناس إياها في قِبَل المساجد وللصلوات . فإذا كان ذلك كذلك ، وكان غير جائز توجيه معاني كلام الله إلا إلى الأغلب من وجوهها المستعمل بين أهل اللسان الذي نزل به دون الخفي المجهول ما لم تأت دلالة تدلّ على غير ذلك ، ولم يكن على قوله : وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً دلالة تقطع العذر بأن معناه غير الظاهر المستعمل في كلام العرب ، لم يجز لنا توجيهه إلى غير الظاهر الذي وصفنا . وكذلك القول في قوله : قِبْلَةً وأقِيمُوا الصّلاةَ يقول تعالى ذكره : وأدّوا الصلاة المفروضة بحدودها في أوقاتها . وقوله : وَبَشّرِ المُومِنِينَ يقول جلّ ثناؤه لنبيه عليه الصلاة والسلام : وبشر مقيمي الصلاة المطيعي الله يا محمد المؤمنين بالثواب الجزيل منه .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وأوحينا إلى موسى وأخيه أن اتخذا لقومكما بمصر بيوتا، يقال منه: تبوأ فلان لنفسه بيتا: إذا اتخذه...
"وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً" يقول: واجعلوا بيوتكم مساجد تصلون فيها.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً"؛ فقال بعضهم في ذلك نحو الذي قلنا فيه... عن ابن عباس، في قول الله تعالى: "وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً" قال: كانوا يفرقون من فرعون وقومه أن يصلوا، فقال لهم: اجعلوا بيوتكم قبلة، يقول: اجعلوها مسجدا حتى تصلوا فيها... وقال آخرون: معنى ذلك: واجعلوا مساجدكم قبل الكعبة... وقال آخرون: معنى ذلك: واجعلوا بيوتكم يقابل بعضها بعضا... وأولى الأقوال في ذلك بالصواب القول الذي قدمنا بيانه وذلك أن الأغلب من معاني البيوت وإن كانت المساجد بيوتا، البيوت المسكونة إذا ذكرت باسمها المطلق دون المساجد لأن المساجد لها اسم هي به معروفة خاصّ لها، وذلك المساجد، فأما البيوت المطلقة بغير وصلها بشيء ولا إضافتها إلى شيء، فالبيوت المسكونة، وكذلك القبلة الأغلب من استعمال الناس إياها في قِبَل المساجد وللصلوات. فإذا كان ذلك كذلك، وكان غير جائز توجيه معاني كلام الله إلا إلى الأغلب من وجوهها المستعمل بين أهل اللسان الذي نزل به دون الخفي المجهول ما لم تأت دلالة تدلّ على غير ذلك، ولم يكن على قوله: "وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً" دلالة تقطع العذر بأن معناه غير الظاهر المستعمل في كلام العرب، لم يجز لنا توجيهه إلى غير الظاهر الذي وصفنا. وكذلك القول في قوله: "قِبْلَةً وأقِيمُوا الصّلاةَ" يقول تعالى ذكره: وأدّوا الصلاة المفروضة بحدودها في أوقاتها.
وقوله: "وَبَشّرِ المُؤمِنِينَ" يقول جلّ ثناؤه لنبيه عليه الصلاة والسلام: وبشر مقيمي الصلاة المطيعي الله يا محمد المؤمنين بالثواب الجزيل منه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(واجعلوا بيوتكم قبلة) أي اجعلوا بيوتكم التي بنيتم لأنفسكم قبلة تتوجهون إليها. ويكون فيه دلالة أن نصب الجماعة واتخاذ المساجد والقبلة متوارثة ليست ببديعة لنا وفي شريعتنا خاصة، ويؤيد ما ذكرنا أن فيه الأمر باتخاذ المساجد.
(وأقيموا الصلاة) دل الأمر بإقامة الصلاة على أن الأمر بتبوئة البيوت أمر باتخاذ المساجد.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
تبوّأ المكان: اتخذه مباءة، كقولك: توطنه، إذا اتخذه وطناً. والمعنى اجعلا بمصر بيوتاً من بيوته مباءة لقومكما ومرجعاً يرجعون إليه للعبادة والصلاة فيه {واجعلوا بُيُوتَكُمْ} تلك {قِبْلَةً} أي مساجد متوجهة نحو القبلة وهي الكعبة... وكانوا في أوّل أمرهم مأمورين بأن يصلوا في بيوتهم خفية من الكفرة، لئلا يظهروا عليهم فيؤذوهم ويفتنوهم عن دينهم، كما كان المؤمنون على ذلك في أوّل الإسلام بمكة.
فإن قلت: كيف نوّع الخطاب، فثنى أوّلاً، ثم جمع، ثم وحد آخراً. قلت: خوطب موسى وهارون عليهما السلام أن يتبوآ لقومهما بيوتاً، ويختاراها للعبادة، وذلك مما يفوّض إلى الأنبياء. ثم سيق الخطاب عامّاً لهما ولقومهما باتخاذ المساجد والصلاة فيها، لأنّ ذلك واجب على الجمهور، ثم خصّ موسى عليه السلام بالبشارة التي هي الغرض، تعظيماً لها وللمبشر بها.
اعلم أنه لما شرح خوف المؤمنين من الكافرين وما ظهر منهم من التوكل على الله تعالى أتبعه بأن أمر موسى وهارون باتخاذ المساجد والإقبال على الصلوات... ثم قال: {واجعلوا بيوتكم قبلة} وفيه أبحاث:
البحث الأول: من الناس من قال: المراد من البيوت المساجد كما في قوله تعالى: {في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه} ومنهم من قال: المراد مطلق البيوت، أما الأولون فقد فسروا القبلة بالجانب الذي يستقبل في الصلاة، ثم قالوا: والمراد من قوله: {واجعلوا بيوتكم قبلة} أي اجعلوا بيوتكم مساجد تستقبلونها لأجل الصلاة، وقال الفراء: واجعلوا بيوتكم قبلة، أي إلى القبلة، وقال ابن الأنباري: واجعلوا بيوتكم قبلة أي قبلا يعني مساجد فأطلق لفظ الوحدان، والمراد الجمع، واختلفوا في أن هذه القبلة أين كانت؟ فظاهر أن لفظ القرآن لا يدل على تعيينه، إلا أنه نقل عن ابن عباس أنه قال: كانت الكعبة قبلة موسى عليه السلام. وكان الحسن يقول: الكعبة قبلة كل الأنبياء، وإنما وقع العدول عنها بأمر الله تعالى في أيام الرسول عليه السلام بعد الهجرة. وقال آخرون: كانت تلك القبلة جهة بيت المقدس. وأما القائلون بأن المراد من لفظ البيوت المذكورة في هذه الآية مطلق البيت، فهؤلاء لهم في تفسير قوله: {قبلة} وجهان: الأول: المراد بجعل تلك البيوت قبلة أي متقابلة، والمقصود منه حصول الجمعية واعتضاد البعض بالبعض. وقال آخرون: المراد واجعلوا دوركم قبلة، أي صلوا في بيوتكم.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
... {واجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} أي متقابلة في وجهة واحدة، فالقبلة في اللغة ما يقابل الإنسان ويكون تلقاء وجهه، ومنه قبلة الصلاة- وهي أخص- ويصح الجمع هنا بين المعنيين العام والخاص بقرينة قوله {وأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ} أي فيها متوجهين إلى وجهة واحدة؛ لأن الاتحاد في الاتجاه يساعد على اتحاد القلوب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حكمة تسوية الصفوف في الصلاة:"ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم"، وحكمة هذا أن يكونوا مستعدين لتبليغها إياهم ما يهمهم ويعينهم مما بعثنا لأجله وهو إنجاؤهم من عذاب فرعون بإخراجهم من بلاده. واختلف المفسرون في الجهة التي أمروا باستقبالها والتوجه إليه في الصلاة وهي لا تعلم إلا بنص ولا نص. {وبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} بحفظ الله إياهم من فتنة فرعون وملئه الظالمين لهم وتنجيتهم من ظلمهم...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} فإنها معونة على جميع الأمور.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وعقب هذا التميز، وفي فترة الانتظار بعد الجولة الأولى، وإيمان من آمن بموسى، أوحى اللّه إليه وإلى هارون أن يتخذا لبني إسرائيل بيوتاً خاصة بهم، وذلك لفرزهم وتنظيمهم استعداداً للرحيل من مصر في الوقت المختار؛ وكلفهم تطهير بيوتهم، وتزكية نفوسهم، والاستبشار بنصر اللّه:
(وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتاً، واجعلوا بيوتكم قبلة، وأقيموا الصلاة، وبشر المؤمنين)..
وتلك هي التعبئة الروحية إلى جوار التعبئة النظامية. وهما معاً ضروريتان للأفراد والجماعات، وبخاصة قبيل المعارك والمشقات. ولقد يستهين قوم بهذه التعبئة الروحية، ولكن التجارب ما تزال إلى هذه اللحظة، تنبئ بأن العقيدة هي السلاح الأول في المعركة، وأن الأداة الحربية في يد الجندي الخائر العقيدة لا تساوي شيئاً كثيراً في ساعة الشدة.
وهذه التجربة التي يعرضها اللّه على العصبة المؤمنة ليكون لها فيها أسوة، ليست خاصة ببني إسرائيل، فهي تجربة إيمانية خالصة. وقد يجد المؤمنون أنفسهم ذات يوم مطاردين في المجتمع الجاهلي، وقد عمت الفتنة وتجبر الطاغوت، وفسد الناس، وأنتنت البيئة -وكذلك كان الحال على عهد فرعون في هذه الفترة- وهنا يرشدهم اللّه إلى أمور:
اعتزال الجاهلية بنتنها وفسادها وشرها -ما أمكن في ذلك- وتجمع العصبة المؤمنة الخيرة النظيفة على نفسها، لتطهرها وتزكيها، وتدربها وتنظمها، حتى يأتي وعد اللّه لها.
اعتزال معابد الجاهلية واتخاذ بيوت العصبة المسلمة مساجد. تحس فيها بالانعزال عن المجتمع الجاهلي؛ وتزاول فيها عبادتها لربها على نهج صحيح؛ وتزاول بالعبادة ذاتها نوعاً من التنظيم في جو العبادة الطهور.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وإني أرى أن المراد بأن تكون بيوتهم قبلة هو أن يعلمها بقية بني إسرائيل فيتجهون إليها ويأرزون نحوها فيجتمعون فيها وتكون حوزة يتحيزون إليها. والجميع أمروا بإقامة الصلاة، ثم قال تعالى: {وبشر المؤمنين}، أي أن من يؤمن منهم له البشرى في الدنيا والآخرة وأن الله ولي المؤمنين.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
شرحت هذه الآيات مرحلة أُخرى من نهضة وثورة بني إِسرائيل ضد الفراعنة. فتقول أولا: (وأوحينا إِلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتاً واجعلوا بيوتكم قبلة)
فالأمر الإلهي يقرر اختيار البيوت لبني إسرائيل بمصر وأن تكون هذه البيوت متقاربة ومتقابلة.
ثمّ تطرقت إِلى مسألة تربية النفس معنوياً وروحياً، فقالت: (وأقيموا الصلاة) ومن أجل أن تطرد آثار الخوف والرعب من قلوب هؤلاء وتعيد وتزيد من قدرتهم المعنوية والثّورية قالت: (وبشّر المؤمنين).
يستفاد من مجموع هذه الآية أنّ بني إِسرائيل كانوا في تلك الفترة بصورة جماعة متشتتة مهزومة ومتطفلة وملوّثة وخائفة، فلا مأوى لهم ولا اجتماع مركزي، ولا برنامجاً معنوياً بنّاء، ولا يمتلكون الشجاعة والجرأة اللازمة للقيام بثورة حقيقية.
لذلك فإِنّ موسى وأخاه هارون قد تلقوا مهمّة وضع برنامج في عدّة نقاط من أجل تطهير مجتمع بني إِسرائيل، وخاصّة في الجانب الروحي:
الاهتمام أوّلا بمسألة بناء المساكن، وعزل مساكنهم عن الفراعنة، وكان لهذا العمل عدّة فوائد:
إِحداها: أنّهم بتملّكهم المساكن في بلاد مصر سيشعرون برابطة أقوى تدفعهم للدفاع عن أنفسهم وعن ذلك الماء والتراب.
والأُخرى: أنّهم سينتقلون من الحياة الطفيلية في بيوت الأقباط إِلى حياة مستقلة.
والثّالثة: أنّ أسرار أعمالهم وخططهم سوف لا تقع في أيدي الأعداء.
أن يبنوا بيوتهم متقاربة ويقابل بعضها الآخر. لأنّ القبلة في الأصل بمعنى حالة التقابل، وإِطلاق كلمة القبلة على ما هو معروف اليوم إنّما هو معنىً ثانوي لهذه الكلمة.
وأدّى هذا العمل الى تجمع وتمركز بني إِسرائيل بشكل فاعل، واستطاعوا بذلك وضع المسائل الاجتماعية بعامّة قيد البحث والتحقيق، وأن يجتمعوا مع بعضهم لأداء المراسم الدينية والشعائر المذهبية، وأن يرسموا الخطط اللازمة من أجل حريتهم.
التوجه إِلى العبادة، وخاصّة الصلاة التي تحرر الإِنسان من عبودية العباد، وتربطه بخالق كل القوى والقدرات، وتغسل قلبه وروحه من لوث الذنوب، وتحيي فيه الشعور بالاعتماد على النفس وعلى قدرة الله حيث ستدب وتنبعث روح جديدة في الإِنسان.
إنّ هذه المهمّة وجهت الأمر لموسى باعتباره قائداً بأن يطهّر روح بني إِسرائيل من أشكال الخوف والرعب التي كانت من إفرازات سنين العبودية والذلة الطويلة. وأن يربي وينمي فيهم الإِرادة والشهامة والشجاعة وذلك عن طريق بشارة المؤمنين بالفتح والنصر النهائي، ولطف الله ورحمته.
الملفت للنظر أنّ بني إِسرائيل من أولاد يعقوب، وجماعة منهم من أولاد يوسف طبعاً، وقد حكم هو وإخوته مصر سنين طويلة، وسعوا في عمران هذا الوطن، إلاّ أنّه نتيجة لتركهم طاعة الله والغفلة والخلافات الداخلية وصلوا إِلى مثل هذا الوضع المأساوي...