اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوۡمِكُمَا بِمِصۡرَ بُيُوتٗا وَٱجۡعَلُواْ بُيُوتَكُمۡ قِبۡلَةٗ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (87)

قوله تعالى : { وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً } الآية .

لمَّا شرح خوف المؤمنين من الكُفَّار ، وما ظهر منهم من التَّوكُّل على الله ، أتبعه بأن أمر موسى ، وهارون باتخاذ المساجد ، والإقبال على الصَّلوات .

قوله { أَن تَبَوَّءَا } يجوز في " أنْ " أن تكون المفسِّرة ؛ لأنَّه قد تقدَّمها ما هو بمعنى القول وهو الإيحاء ، ويجوز أن تكون المصدريَّة ، فتكون في موضع نصب ب " أوْحَيْنَا " مفعولاً به ، أي : أوحينا إليهما التَّبَوُّء .

والجمهور على الهمزة في " تَبَوَّآ " وقرأ حفص{[18578]} " تَبَوَّيَا " بياء خالصة ، وهي بدلٌ عن الهمزة ، وهو تخفيفٌ غيرُ قياسي ، إذ قياسُ تخفيف مثل هذه الهمزة : أن تكون بين الهمزة والألف ، وقد أنكر هذه الرِّواية عن حفص جماعةٌ من القُرَّاءِ ، وخصَّها بعضهم بحالة الوقف ، وهو الذي لم يحكِ أبُو عمرو الدَّاني والشاطبي غيره ، وبعضهم يُطلق إبدالها عنه ياء وصلاً ووقفاً ، وعلى الجملة فهي قراءةٌ ضعيفةٌ في العربية ، وفي الرواية .

والتَّبَوُّؤُ : النزولُ والرجوعُ ، يقال : تبوَّأ المكان : أي : اتخذه مُبَوَّأ ، وقد تقدَّمت هذه المادة في قوله : { تُبَوِّئُ المؤمنين } [ آل عمران : 121 ] والمعنى : اجعلا بمصر بيوتاً لقومكما ، ومرجعاً ترجعون إليه للعبادة .

قوله : " لِقَوْمِكُما " يجوزُ أن تكون اللاَّمُ زائدة في المفعول الأول ، و " بُيُوتاً " مفعول ثان ، بمعنى : بوِّآ قومكما بيوتاً ، أي : أنزلوهم ، وفعَّلَ وتَفَعَّلَ بمعنًى ، مثل " عَلَّقَهَا " و " تعلَّقها " قاله أبو البقاء ، وفيه ضعفٌ : من حيث إنَّه زيدت اللامُ ، والعاملُ غير فرع ، ولم يتقدم المعمُولُ .

الثاني : أنَّها غير زائدة ، وفيها حينئذٍ وجهان :

أحدهما : أنَّها حالٌ من " البُيُوتِ " .

والثاني : أنَّها وما بعدها مفعول " تَبَوَّءا " .

قوله " بِمِصْرَ " جوَّز فيه أبو البقاء أوْجُهاً :

أحدها : أنَّه متعلِّق ب " تَبَوَّءا " ، وهو الظَّاهرُ .

الثاني : أنَّه حالٌ من ضمير " تَبَوَّءا " ، واستضعفهُ ، ولمْ يُبَيِّنْ وجه ضعفه لوضوحه .

الثالث : أنَّها حالٌ من " البُيُوت " .

الرابع : أنَّهُ حالٌ من : " لِقَوْمِكُما " ، وقد ثنَّى الضمير في قوله : " تَبَوَّءَا " وجمع في قوله : " واجْعَلُوا " و " أقِيمُوا " وأفرد في قوله : " وبَشِّر " لأن الأول أمرٌ لهما ، والثاني لهما ولقومهما ، والثالث لمُوسى فقط ؛ لأنَّ أخاهُ تبعٌ لهُ ، ولمَّا كان فعلُ البشارة شريفاً خصَّ به موسى ، لأنَّه هو الأصل ، وقيل : وبشِّر المؤمنين يا محمَّد .

فصل

قال بعضهم : المراد من البُيُوتِ : المساجد ؛ لقوله : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ } [ النور : 36 ] وقيل : مطلق البيوت ، أمَّا الأوَّلُون ففسَّرُوا القبلة بالجانب ، الذي يستقبل في الصلاة ، أي : اجعلُوا بيوتكُم مساجداً ، تستقبلونها في الصَّلاة .

وقال ابن الأنباريِّ : المعنى : اجعلوا بيوتكم قبلاً ، أي : مساجد ؛ فأطلق لفظ الواحد ، والمراد : الجَمْع ، ومن قال : المرادُ : مطلق البيوت ففيه وجهان :

أحدهما : قال الفراء : أي : اجعلوا بيوتكم إلى القبلة .

الثاني : المعنى : اجعلوا بيوتكم متقابلة ، والمراد منه : حصول الجمعيَّة ، واعتضاد البعض بالبعض .

واختلفوا في هذه القبلة أين كانت ؟ ظاهر القرآن لا يدلُّ على تعيينها ، وروي عن ابن عبَّاس : كانت الكعبةُ قبلةَ مُوسى{[18579]} ، وكان الحسن يقول : الكعبة قبلةَ كلِّ الأنبياء ، وإنما وقع العُدُول عنها بأمر الله - تعالى - في أيَّام الرسُول - عليه الصلاة والسلام - بعد الهجرة{[18580]} . وقال آخرون : كانت القبلة : بيت المقدس .

فصل

ذكر المُفَسِّرُون في كيفية هذه الواقعة وجوهاً :

أحدها : أن موسى ومن معه كانوا مأمورين في أول أمرهم ، بأن يُصَلُّوا في بيوتهم خُفيةً من الكُفَّار ؛ لئلا يظهروا عليهم ، فيُؤذُوهُم ، ويفتنوهُم عن دينهم ، كما كان المؤمنون في أول الإسلام بمكة .

قال مجاهد : خاف موسى ومن معه من فرعون أن يصلُّوا في الكنائس الجامعة ، فأمروا أن يجعلوا في بيوتهم مساجد جهة الكعبة ، يُصَلُّون فيها سرّاً{[18581]} .

وثانيها : أنَّه لمَّا أرْسِلَ مُوسى إلى فرعون ، أمر فرعون بتخريب مساجد بني إسرائيل ، ومنعهم من الصلاة ، فأمرهُم الله - تعالى - باتِّخاذِ المساجد في بيوتهم ، رواه عكرمة ، عن ابن عبَّاس{[18582]} . وهو قول إبراهيم .

وثالثها : أنَّه تعالى لمَّا أرسل مُوسى إليهم ، وأظهر فرعون لهم العداوة الشديدة ، أمر الله - تعالى - موسى ، وهارون ، وقومهما باتِّخاذِ المساجد على رغم الأعداء ، وتكفَّل الله بصونهم عن شرِّ الأعداءِ .


[18578]:ينظر: المحرر الوجيز 3/138، البحر المحيط 5/184، الدر المصون 4/63.
[18579]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/597) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/566) وزاد نسبته إلى ابن مردويه.
[18580]:ذكره الرازي في "تفسيره" (17/118).
[18581]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/597) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/566) وعزاه إلى سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
[18582]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/365).