قوله تعالى : { وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً } الآية .
لمَّا شرح خوف المؤمنين من الكُفَّار ، وما ظهر منهم من التَّوكُّل على الله ، أتبعه بأن أمر موسى ، وهارون باتخاذ المساجد ، والإقبال على الصَّلوات .
قوله { أَن تَبَوَّءَا } يجوز في " أنْ " أن تكون المفسِّرة ؛ لأنَّه قد تقدَّمها ما هو بمعنى القول وهو الإيحاء ، ويجوز أن تكون المصدريَّة ، فتكون في موضع نصب ب " أوْحَيْنَا " مفعولاً به ، أي : أوحينا إليهما التَّبَوُّء .
والجمهور على الهمزة في " تَبَوَّآ " وقرأ حفص{[18578]} " تَبَوَّيَا " بياء خالصة ، وهي بدلٌ عن الهمزة ، وهو تخفيفٌ غيرُ قياسي ، إذ قياسُ تخفيف مثل هذه الهمزة : أن تكون بين الهمزة والألف ، وقد أنكر هذه الرِّواية عن حفص جماعةٌ من القُرَّاءِ ، وخصَّها بعضهم بحالة الوقف ، وهو الذي لم يحكِ أبُو عمرو الدَّاني والشاطبي غيره ، وبعضهم يُطلق إبدالها عنه ياء وصلاً ووقفاً ، وعلى الجملة فهي قراءةٌ ضعيفةٌ في العربية ، وفي الرواية .
والتَّبَوُّؤُ : النزولُ والرجوعُ ، يقال : تبوَّأ المكان : أي : اتخذه مُبَوَّأ ، وقد تقدَّمت هذه المادة في قوله : { تُبَوِّئُ المؤمنين } [ آل عمران : 121 ] والمعنى : اجعلا بمصر بيوتاً لقومكما ، ومرجعاً ترجعون إليه للعبادة .
قوله : " لِقَوْمِكُما " يجوزُ أن تكون اللاَّمُ زائدة في المفعول الأول ، و " بُيُوتاً " مفعول ثان ، بمعنى : بوِّآ قومكما بيوتاً ، أي : أنزلوهم ، وفعَّلَ وتَفَعَّلَ بمعنًى ، مثل " عَلَّقَهَا " و " تعلَّقها " قاله أبو البقاء ، وفيه ضعفٌ : من حيث إنَّه زيدت اللامُ ، والعاملُ غير فرع ، ولم يتقدم المعمُولُ .
الثاني : أنَّها غير زائدة ، وفيها حينئذٍ وجهان :
أحدهما : أنَّها حالٌ من " البُيُوتِ " .
والثاني : أنَّها وما بعدها مفعول " تَبَوَّءا " .
قوله " بِمِصْرَ " جوَّز فيه أبو البقاء أوْجُهاً :
أحدها : أنَّه متعلِّق ب " تَبَوَّءا " ، وهو الظَّاهرُ .
الثاني : أنَّه حالٌ من ضمير " تَبَوَّءا " ، واستضعفهُ ، ولمْ يُبَيِّنْ وجه ضعفه لوضوحه .
الثالث : أنَّها حالٌ من " البُيُوت " .
الرابع : أنَّهُ حالٌ من : " لِقَوْمِكُما " ، وقد ثنَّى الضمير في قوله : " تَبَوَّءَا " وجمع في قوله : " واجْعَلُوا " و " أقِيمُوا " وأفرد في قوله : " وبَشِّر " لأن الأول أمرٌ لهما ، والثاني لهما ولقومهما ، والثالث لمُوسى فقط ؛ لأنَّ أخاهُ تبعٌ لهُ ، ولمَّا كان فعلُ البشارة شريفاً خصَّ به موسى ، لأنَّه هو الأصل ، وقيل : وبشِّر المؤمنين يا محمَّد .
قال بعضهم : المراد من البُيُوتِ : المساجد ؛ لقوله : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ } [ النور : 36 ] وقيل : مطلق البيوت ، أمَّا الأوَّلُون ففسَّرُوا القبلة بالجانب ، الذي يستقبل في الصلاة ، أي : اجعلُوا بيوتكُم مساجداً ، تستقبلونها في الصَّلاة .
وقال ابن الأنباريِّ : المعنى : اجعلوا بيوتكم قبلاً ، أي : مساجد ؛ فأطلق لفظ الواحد ، والمراد : الجَمْع ، ومن قال : المرادُ : مطلق البيوت ففيه وجهان :
أحدهما : قال الفراء : أي : اجعلوا بيوتكم إلى القبلة .
الثاني : المعنى : اجعلوا بيوتكم متقابلة ، والمراد منه : حصول الجمعيَّة ، واعتضاد البعض بالبعض .
واختلفوا في هذه القبلة أين كانت ؟ ظاهر القرآن لا يدلُّ على تعيينها ، وروي عن ابن عبَّاس : كانت الكعبةُ قبلةَ مُوسى{[18579]} ، وكان الحسن يقول : الكعبة قبلةَ كلِّ الأنبياء ، وإنما وقع العُدُول عنها بأمر الله - تعالى - في أيَّام الرسُول - عليه الصلاة والسلام - بعد الهجرة{[18580]} . وقال آخرون : كانت القبلة : بيت المقدس .
ذكر المُفَسِّرُون في كيفية هذه الواقعة وجوهاً :
أحدها : أن موسى ومن معه كانوا مأمورين في أول أمرهم ، بأن يُصَلُّوا في بيوتهم خُفيةً من الكُفَّار ؛ لئلا يظهروا عليهم ، فيُؤذُوهُم ، ويفتنوهُم عن دينهم ، كما كان المؤمنون في أول الإسلام بمكة .
قال مجاهد : خاف موسى ومن معه من فرعون أن يصلُّوا في الكنائس الجامعة ، فأمروا أن يجعلوا في بيوتهم مساجد جهة الكعبة ، يُصَلُّون فيها سرّاً{[18581]} .
وثانيها : أنَّه لمَّا أرْسِلَ مُوسى إلى فرعون ، أمر فرعون بتخريب مساجد بني إسرائيل ، ومنعهم من الصلاة ، فأمرهُم الله - تعالى - باتِّخاذِ المساجد في بيوتهم ، رواه عكرمة ، عن ابن عبَّاس{[18582]} . وهو قول إبراهيم .
وثالثها : أنَّه تعالى لمَّا أرسل مُوسى إليهم ، وأظهر فرعون لهم العداوة الشديدة ، أمر الله - تعالى - موسى ، وهارون ، وقومهما باتِّخاذِ المساجد على رغم الأعداء ، وتكفَّل الله بصونهم عن شرِّ الأعداءِ .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.