الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوۡمِكُمَا بِمِصۡرَ بُيُوتٗا وَٱجۡعَلُواْ بُيُوتَكُمۡ قِبۡلَةٗ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (87)

فيه خمس مسائل :

الأولى - قوله تعالى : " وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوأا " أي اتخذا . " لقومكما بمصر بيوتا " يقال : بوأت زيدا مكانا وبوأت لزيد مكانا . والمبوأ المنزل الملزوم ، ومنه بوأه الله منزلا ، أي ألزمه إياه وأسكنه ، ومنه الحديث : ( من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ) قال الراجز :

نحن بنو عدنان ليس شك *** تبوأ المجد بنا والملك

ومصر في هذه الآية هي الإسكندرية في قول مجاهد . وقال الضحاك : إنه البلد المسمى مصر ، ومصر ما بين البحر إلى أسوان ، والإسكندرية من أرض مصر .

الثانية - قوله تعالى : " واجعلوا بيوتكم قبلة " قال أكثر المفسرين : كان بنو إسرائيل لا يصلون إلا في مساجدهم وكنائسهم وكانت ظاهرة ، فلما أرسل موسى أمر فرعون بمساجد بني إسرائيل فخربت كلها ومنعوا من الصلاة ، فأوحى الله إلى موسى وهارون أن اتخذوا لبني إسرائيل بيوتا بمصر ، أي مساجد ، ولم يرد المنازل المسكونة . هذا قول إبراهيم وابن زيد والربيع وأبي مالك وابن عباس وغيرهم . وروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير أن المعنى : واجعلوا بيوتكم يقابل بعضها بعضا . والقول الأول أصح ، أي اجعلوا مساجدكم إلى القبلة ، قيل : بيت المقدس ، وهي قبلة اليهود إلى اليوم ، قاله ابن بحر . وقيل الكعبة . عن ابن عباس قال : وكانت الكعبة قبلة موسى ومن معه ، وهذا يدل على أن القبلة في الصلاة كانت شرعا لموسى عليه السلام ، ولم تخل الصلاة عن شرط الطهارة وستر العورة واستقبال القبلة ، فإن ذلك أبلغ في التكليف وأوفر للعبادة . وقيل : المراد صلوا في بيوتكم سرا لتأمنوا ؛ وذلك حين أخافهم فرعون فأمروا بالصبر واتخاذ المساجد في البيوت ، والإقدام على الصلاة ، والدعاء إلى أن ينجز الله وعده ، وهو المراد بقوله : " قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا{[8557]} " الآية . وكان من دينهم أنهم لا يصلون إلا في البيع والكنائس ما داموا على أمن ، فإذا خافوا فقد أذن لهم أن يصلوا في بيوتهم . قال ابن العربي : والأول أظهر القولين ؛ لأن الثاني دعوى .

قلت : قوله : " دعوى " صحيح ، فإن في الصحيح قوله عليه السلام : ( جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ) وهذا مما خص به دون الأنبياء ، فنحن بحمد الله نصلي في المساجد والبيوت ، وحيث أدركتنا الصلاة ، إلا أن النافلة في المنازل أفضل منها في المساجد ، حتى الركوع قبل الجمعة وبعدها . وقبل الصلوات المفروضات وبعدها ؛ إذ النوافل يحصل فيها الرياء ، والفرائض لا يحصل فيها ذلك ، وكلما خلص العمل من الرياء كان أوزن وأزلف عند الله سبحانه وتعالى . روى مسلم عن عبدالله بن شقيق قال : سألت عائشة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تطوعه قالت : ( كان يصلي في بيتي قبل الظهر أربعا ، ثم يخرج فيصلي بالناس ، ثم يدخل فيصلي ركعتين ، وكان يصلى بالناس المغرب ، ثم يدخل فيصلي ركعتين ، ثم يصلي بالناس العشاء ، ويدخل بيتي فيصلي ركعتين . . ) الحديث . وعن ابن عمر قال : صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل الظهر سجدتين وبعدها سجدتين وبعد المغرب سجدتين ، فأما المغرب والعشاء والجمعة فصليت مع النبي صلى الله عليه وسلم في بيته . وروى أبو داود عن كعب بن عجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى مسجد بني الأشهل فصلى فيه المغرب ، فلما قضوا صلاتهم رآهم يسبحون بعدها فقال : ( هذه صلاة البيوت ) .

الثالثة - واختلف العلماء من{[8558]} هذا الباب في قيام رمضان ، هل إيقاعه في البيت أفضل أو في المسجد ؟ فذهب مالك إلى أنه في البيت أفضل لمن قوي عليه ، وبه قال أبو يوسف وبعض أصحاب الشافعي . وذهب ابن عبد الحكم وأحمد وبعض أصحاب الشافعي إلى أن حضورها في الجماعة أفضل . وقال الليث : لو قام الناس في بيوتهم ولم يقم أحد في المسجد لا ينبغي أن يخرجوا إليه . والحجة لمالك ومن قال بقوله قوله صلى الله عليه وسلم في حديث زيد بن ثابت : ( فعليكم بالصلاة في بيوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة ) خرجه البخاري . احتج المخالف بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد صلاها في الجماعة في المسجد ، ثم أخبر بالمانع الذي منع منه على الدوام على ذلك ، وهو خشية أن تفرض عليهم فلذلك قال لهم : ( فعليكم بالصلاة في بيوتكم ) . ثم إن الصحابة كانوا يصلونها في المسجد أوزاعا متفرقين ، إلى أن جمعهم عمر على قارئ واحد فاستقر الأمر على ذلك وثبت سنة .

الرابعة - وإذا تنزلنا على أنه كان أبيح لهم أن يصلوا في بيوتهم إذا خافوا على أنفسهم فيستدل به على أن المعذور بالخوف وغيره يجوز له ترك الجماعة والجمعة . والعذر الذي يبيح له ذلك كالمرض الحابس ، أو خوف زيادته ، أو خوف جور السلطان في مال أو دون القضاء عليه بحق . والمطر الوابل مع الوحل عذر إن لم ينقطع ، ومن له ولي حميم قد حضرته الوفاة ولم يكن عنده من يمرضه ، وقد فعل ذلك ابن عمر .

الخامسة - قوله تعالى : " وبشر المؤمنين " قيل : الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم . وقيل لموسى عليه السلام ، وهو أظهر ، أي بشر بني إسرائيل بأن الله سيظهرهم على عدوهم .


[8557]:راجع ج 7 ص 261 فما بعد.
[8558]:في هـ: في هذا.