السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوۡمِكُمَا بِمِصۡرَ بُيُوتٗا وَٱجۡعَلُواْ بُيُوتَكُمۡ قِبۡلَةٗ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (87)

ولما شرح الله تعالى خوف المؤمنين من الكافرين وما ظهر فيهم من التوكل على الله تعالى أتبعه بأن أمر موسى وهارون عليهما السلام باتخاذ البيوت بقوله تعالى : { وأوحينا إلى موسى وأخيه } أي : الذي طلب مؤازرته ومعاضدته { أن تبوّآ } أي : اتخذا { لقومكما بمصر بيوتاً } تسكنون فيها أو ترجعون إليها للعبادة { واجعلوا } أنتما وقومكما { بيوتكم } أي : تلك البيوت { قبلة } مصلى أو مساجد كما في قوله تعالى : { في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه } [ النور ، 36 ] موجهة نحو القبلة ، أي : الكعبة ، وكان موسى عليه السلام يصلي إليها . وقرأ ورش وأبو عمرو وحفص بيوتاً وبيوتكم برفع الباء ، والباقون بالخفض { وأقيموا الصلاة } فيها ذكر المفسرون في كيفية هذه الواقعة وجوهاً ثلاثة :

الأوّل : أنّ موسى عليه السلام ومن معه كانوا في أوّل أمرهم مأمورين بأن يصلوا في بيوتهم خفية من الكفرة لئلا يظهروا عليهم ويؤذوهم ويفتنوهم عن دينهم كما كان المؤمنون على هذه الحالة في أوّل الإسلام بمكة .

الثاني : أنه قيل : إنه تعالى لما أرسل موسى إليهم أمر فوعون بتخريب مساجد بني إسرائيل ومنعهم من الصلاة فأمرهم الله تعالى أن يتخذوا مساجد في بيوتهم ويصلوا فيها خوفاً من فرعون .

الثالث : أنه تعالى لما أرسل موسى إليهم وأظهر فرعون تلك العداوة الشديدة أمر الله تعالى موسى وهارون وقومهما باتخاذ المساجد على رغم الأعداء ، وتكفل الله تعالى بأن يصونهم من شرّ الأعداء ، وقد خص الله تعالى موسى وهارون في أوّل هذه الآية بالخطاب بقوله تعالى : { أن تبوّأا لقومكما } لأنّ التبوء للقوم واتخاذ المعابد مما يتعاطاه رؤوس القوم للتشاور ، ثم عمم هذا الخطاب فقال : واجعلوا بيوتكم قبلة ؛ لأن جعل البيوت مساجد وإقامة الصلاة مما ينبغي أن يفعله كل أحد ، ثم خص موسى عليه السلام في آخر الكلام بالخطاب فقال تعالى : { وبشر المؤمنين } أي : بالنصر في الدنيا والجنة في العقبى ؛ لأنّ الغرض الأصلي من جميع العبادات حصول هذه البشارة ، فخص الله تعالى موسى بها ليدل بذلك على أن الأصل في الرسالة هو موسى عليه السلام ، وأنّ هارون عليه السلام تبع له ، ثم إنّ موسى عليه السلام لما بالغ في إظهار المعجزات القاهرة الظاهرة ورأى القوم مصرّين على الجحد والعناد والإنكار أخذ يدعو عليهم ، ومن حق من يدعو على الغير أن يذكر أوّلاً سبب إقدامه على الجرائم وكان جرمهم هو لأجل حبهم الدنيا يزكو .