فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوۡمِكُمَا بِمِصۡرَ بُيُوتٗا وَٱجۡعَلُواْ بُيُوتَكُمۡ قِبۡلَةٗ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (87)

قوله : { وَأَوْحَيْنَا إلى موسى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا } أن هي المفسرة لأن في الإيحاء معنى القول أن تبوّآ : أي : اتخذا لقومكما بمصر بيوتاً ؛ يقال : بوّأت زيداً مكاناً ، وبوّأت لزيد مكاناً ، والمبوأ : المنزل الملزوم ، ومنه بوّأه الله منزلاً : أي ألزمه إياه ، وأسكنه فيه ، ومنه الحديث : «من كذب عليّ متعمداً فليتبوّأ مقعده من النار » ومنه قول الراجز :

نحن بنو عدنان ليس شك *** تبوّأ المجد بنا والملك

قيل : ومصر في هذه الآية هي الإسكندرية ، وقيل : هي مصر المعروفة ، لا الإسكندرية { واجعلوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً } أي : متوجهة إلى جهة القبلة ، قيل : والمراد بالبيوت هنا : المساجد ، وإليه ذهب جماعة من السلف . وقيل المراد بالبيوت : التي يسكنون فيها ، أمروا بأن يجعلوها منا قبلة ، والمراد بالقبلة على القول الأوّل : هي جهة بيت المقدس ، وهو : قبلة اليهود إلى اليوم . وقيل : جهة الكعبة ، وأنها كانت قبلة موسى ومن معه ؛ وقيل : المراد أنهم يجعلون بيتهم مستقبلة للقبلة ، ليصلوا فيها سرّاً لئلا يصيبهم من الكفار معرّة بسبب الصلاة ، ومما يؤيد هذا قوله : { وَأَقِيمُواْ الصلاة } أي : التي أمركم الله بإقامتها ، فإنه يفيد أن القبلة هي قبلة الصلاة ، إما في المساجد أو في البيوت ، لا جعل البيوت متقابلة ، وإنما جعل الخطاب في أوّل الكلام مع موسى وهارون ، ثم جعله لهما ولقومهما في قوله : { واجعلوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصلاة } ثم أفرد موسى بالخطاب بعد ذلك ، فقال : { وَبَشّرِ المؤمنين } لأن اختيار المكان مفوّض إلى الأنبياء ، ثم جعل عاماً في استقبال القبلة وإقامة الصلاة ، لأن ذلك واجب على الجميع لا يختص بالأنبياء ، ثم جعل خاصاً بموسى ؛ لأنه الأصل في الرسالة ، وهارون تابع له ، فكان ذلك تعظيماً للبشارة وللمبشر بها .

وقيل : إن الخطاب في { وبشّر المؤمنين } لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، على طريقة الالتفات والاعتراض ، والأوّل : أولى .

/خ87